سعد محمد رحيم
حين تستلهم الرواية التاريخ/ "قصة مايتا" ليوسا
02/10/2011
|
ماريا بارغاس يوسا |
يقتحم الروائي قلب التاريخ من زاوية خاصة غير تلك التي يختارها المؤرخ
أو السياسي أو الأنثربولوجي أو أي أحد آخر.. زاوية هي ملك الروائي وحده،
وهي امتيازه ومفتاح مغامرته.. يلبث قليلا عند التخوم قبل أن يمضي عميقاً
بمعونة المخيلة وممكنات السرد وتقنياته ليعيد تشكيل حكاية ما جرى، مفترضاً
أن لا أحد، على الإطلاق، يملك الحقيقة كلها حول ذلك. فالروائي يعرف أن
الحقيقة لابدة هناك، سراً أبدياً، فيما وراء الأرشيف المتاح: الوثيقة
والمخطوطة والكتاب واليوميات والاعترافات. وهي، في النهاية، حقيقة غير
صلبة، هشة بالأحرى، لها وجوه عديدة، وتجليات لا تحصى. وما على الروائي إلا
اكتشاف ليس المغزى من وراء ما يسرد فقط وإنما ظلاله أيضاً، والتي هي،
باعتقادي، روح التاريخ: التاريخ وقد أخذته المخيلة المبدعة والرائية على
عاتقها. وهذا ما يفعله، على وجه التحديد، ماريا بارغاس يوسا، في روايته (
قصة مايتا/ ترجمة صالح علماني.. دار المدى.. 2009 ). وفي هذه الرواية يكون
الراوي هو الروائي نفسه وقد عبر حدّه الواقعي والجاً متاهة الافتراضي
والمتخيل، باحثاً عن الحقيقة، أو ظلالها، بين ركام هائل من الأقاويل
والشائعات والنمائم، والذكريات المملوءة بالثقوب، أو المموهة بفعل تقادم
السنين. ولذا نجده يستنطق من كان مشاركاً في الأحداث، أو شاهداً عليها، ومن
سمع عنها، ومن تخيلها أو لفّق بعض فصولها أو حرّفها لمقاصد ونوايا خفية،
أو بحكم النسيان. إذ يجري الراوي تحرياته عن تفاصيل الحدث بعد مرور ربع قرن
على وقوعه. يقول "إنني لا أنوي كتابة القصة الحقيقية لمايتا.. ما أريده هو
جمع أكبر قدر من المعلومات والآراء عنه، لكي أضيف إلى هذه المواد فيما بعد
جرعات وافرة من الاختلاق، وأبني شيئاً يكون رواية". وهذا الشيء سيطلق عليه
صفة الزائف من غير تردد.
يضعنا الراوي عبر الحكايات المسرودة أمام صورة اليسار الثوري في أمريكا
اللاتينية، منتصف القرن العشرين، بآماله العريضة وبطولاته وتضحياته وأوهامه
وأخطائه وإخفاقاته المريعة وإحباطاته، وذلك جزء من التاريخ مهّد لمتغيرات
لاحقة كبرى.. إنها قصة المناضل مايتا. ومايتا يساري ثوري مفعم بهاجس
المغامرة، فيه شيء من الطيش، يحلم بتغيير العالم بوساطة العنف ( الكفاح
المسلح ) في بلاده بيرو، حيث تعم الفوضى والفساد والفاقة والتخلف والطغيان.
وحركته غير المحسوبة التي قادها كانت خرقاء وانتهت بالفشل الذريع، لكنها
الحركة التي سبق بها، هو ورفاقه، حركة كاسترو وغيفارا حيث يقدم بضعة أنفار
من الطليعة على الثورة، وازعهم الفكرة النظرية الماركسية، والهم الجماعي/
الطبقي .. يحملون السلاح في مواجهة السلطة الديكتاتورية المسندة بقوات
الجيش والشرطة والأمن، والمدعمة من الخارج، معتقدين أن قدح الشرارة كافٍ
لإشعال الشارع وحث الناس، لاسيما العمال، على المشاركة.
في تلك الآونة كان هناك ثوريون كثر، وعشرات الحركات اليسارية الناشطة.
ولكن لماذا اختار الراوي مايتا بالذات، هو "المطموس المنسي أكثر من سواه
بين جميع ثوريي تلك السنوات"، على حد تعبير موسيس أحد رفاقه القدماء؟.
"ألأن حالته ( كما يعلمنا الراوي ) كانت الأولى في سلسلة حالات ستترك أثرها
على المرحلة؟ أم لأنها الحالة الأكثر عبثية؟ ألأنها الأكثر تراجيدية؟
ألأنه في عبثيته وتراجيديته كان السبّاق؟ أم ببساطة لأن في شخصيته وقصته
شيئاً مؤثراً بالنسبة إليّ، شيئاً أبعد من التزاماته السياسية والأخلاقية،
يشبه صورة شعاعية للتعاسة البيروية".
وحتى النهاية لن تكون لدى الراوي ( الروائي ) قصة متكاملة صادقة يخبرنا
عنها، بل شذرات من وقائع محكية ليس من السهل إثباتها كلها، أو نفيها.. إننا
أمام شبح التاريخ، أو جسده المقطّع، كما يتصوره دعاة ما بعد الحداثة
المشككين بتخريجات علم التاريخ.. وبذا يتركنا الروائي في حيرة من أمرنا،
فعالمه الذي شيّده مقنع من جهة لأن مادته من طين الواقع وقد أعيد تشكيله
بقدرة الفن، ولأن النص الذي أنجزه زائف بالمعيار الواقعي، من جهة ثانية،
لكنه يتوفر، بالرغم من ذلك، على الشرط الأساس في كل عمل سردي.. أقصد؛ الصدق
الفني والقدرة على الإقناع.
لا يعلمنا الراوي الأول في رواية ( قصة مايتا )، وهو يخبرنا بالقصة
كلها، أين ينتهي ما يسمعه من الرواة ( الثانويين ) الآخرين، وأين يبدأ عنده
فعل المخيلة. وهذا ما يجعلنا أبداً في حيرة من أمرنا. فهو يكرر دوماً أنه
إنما يستمع إلى الشهود الرئيسيين بعد ربع قرن من وقوع الحدث، لا من أجل أن
يمسك بالحقيقة التي لا يؤمن بأنه قادر على إخراجها من بين ركام الأقاويل،
وإنما من أجل أن يكذب ويزيّف؛ من أجل أن يكتب رواية.. إن القارئ يبقى في شك
مما يقوله الرواة. وأعتقد أن هذا هو ما يمنح الرواية قوتها، ويمنح القارئ
المتعة.
إن قصة مايتا رواية بحث، والذي يبحث ليس هو الروائي وحده، ليس هو الراوي
الأول وحده، بل أن القارئ أيضاً يشاركهما عملية البحث. لذا فإن هذه
الرواية لا تلائم ذائقة القارئ الكسول الذي يرغب بكل شيء واضحاً، متسلسلاً،
منطقياً، من غير تناقضات أو ثغرات. فالرواية تشد انتباه القارئ طوال
الصفحات الأربعمئة والثلاثين، وعليه أن لا يفقد طرف الخيط، وأن يمسك
بالانتقالات التي تحدث في الزمن، ونسق السرد، وأحاديث الرواة حيث العنصر
الطاغي على العملية السردية هو الحوار. وفي هذا لا يعينك الراوي كثيراً،
وبذا فأنت لست متلقياً سلبياً لقصة لها راوٍ واحد، وإنما تجدك متورطاً في
بناء القصة التي يرويها رواة عديدون يناقضون بعضهم بعضاً ويكذِّبون بعضهم
بعضاً. والغريب أن الراوي الأول الذي هو روائي يتحرى عن تفاصيل حادثة جرت
وقائعها قبل خمس وعشرين سنة يضللنا هو الآخر وكأنه يستمتع بهذا. وفي خاتمة
الرواية سنخرج بانطباع مؤكد هو أن الراوي كان يزيّف طوال الوقت في سبيل
إمتاعنا، وفي سبيل أن يمنحنا صورة عن شطر من التاريخ المعاصر لأمريكا
اللاتينية أكثر صدقاً وعمقاً من أية مدوّنة تاريخية.
إن ما يزيد الأمر التباساً هو أن إمحاء الحدود بين ما هو تاريخي حقيقي
وما هو متخيل لا يجري بين مرجعية خارجية للرواية وبين ما يقوله متنها
الحكائي، وإنما بين ما يقوله الرواة أنفسهم داخل الرواية. وفي سبيل المثال
يعلمنا الراوي الأول في الفصل الأول بأن مايتا كان زميله في مرحلة الدراسة
الابتدائية وقد توطدت، يومها، العلاقة بينهما. فيتذكره صبياً بديناً، أجعد
الشعر، له قدمان مسطحتان، جاداً يحب العزلة، جريئاً يطرح الأسئلة المحرجة
والممنوعة.. يُحرج الأب لويس حين يسأله، وهو يعد العدّة، مع الراوي، لحفل
مناولته الأولى؛ "لماذا يوجد فقراء وأغنياء يا أبتاه؟ ألسنا جميعنا أبناء
الرب؟". غير أن الراوي، في الفصل الأخير، سيخبر مايتا وهو في ستينياته حين
يلتقيه، أنه لفّق حادثة الزمالة الدراسية تلك.
يقدّم يوسا في ( قصة مايتا ) مروية اليسار الأمريكي اللاتيني بنبرة لا
تخلو من التهكم، نابشاً عن الأسباب التي أدت إلى فشله وتحطم آماله. وشخصية
مايتا تجسيد فني بارع لنمط اليساري الطفولي الذي لا يعيش إلا في حالة تمرد
طائش، محاطاً بهالة من الأوهام الكبيرة، وبنزعة إنشقاق دائمة عن رفاقه.
والانعطافة الأعظم في حياة مايتا والتي ستقرر مصيره في النهاية هو التقائه
بضابط شاب ( بايخوس ) لا تعنيه النظريات كثيراً، مؤمن بالثورة المسلحة،
والعمل الفعلي في الساحة، وعلى الفور، ومن غير الاعتماد كثيراً على
المثقفين.. يغري بايخوس الشاب مايتا الذي في الأربعين ببدء الثورة المسلحة
في منطقة نائية اسمها خاوخا، وهناك حيث يعمل بايخوس مشرفاً على السجن
الحكومي يخطط للثورة سريعاً، ويقرر ساعة الصفر، لكن كثراً من رفاقه
سيتراجعون في أثناء التنفيذ مما يؤدي إلى مقتله وإيداع مايتا في السجن.
وسنلّم بتفاصيل كثيرة عن مايتا وبايخوس وبقية رفاقهما من خلال وجهات نظر
بعض أولئك الرفاق أنفسهم وبعض ممن عاصروا الحدث وكانوا شهوداً عليه. أما
الحقيقة النهائية الصافية المطابقة للحدث في واقعيته التاريخية فلن نحصل
عليها أبداً.
سعد محمد رحيم
روائي وناقد من العراق
saadrhm@yahoo.com More Sharing Servicesشارك|
Share on facebookShare on emailShare on favoritesShare on print