د . خضير الخزاعي
لغة
الحوار هي القناة الامثل للتواصل بين البشر اذ بها يتمكن الآدميون من
العيش المشترك وبدونها يتخلى الانسان عن ابرز سماته التي تؤهله لأن يكون
سيداً مكرماً في هذه الارض.
وحينما
نتحدث عن لغة الحوار انما نتحدث عن قيمة عليا لا يجيد استخدامها الا الذين
تكاملت انسانيتهم، فكل آدمي قد يمتلك القدرة على الكلام ولكن الذين يجيدون
الحوار هم قلة من المتحضرين الذين يزنون الامور بميزان العقل ويضيفون على
الحياة اسمى معانيها الانسانية اذ كل انسان آدمي ولكن ليس بالضرورة ان يكون
كل آدمي انساناً، كما ان كل الذين يجيدون الحوار يحسنون استخدام اللغة
اداةً للتعبير عن الافكار، ولكن ليس كل الناطقين يجيدون الحوار لأن ادوات
الحوار ليست الفاظاً وجملاً فقط يتبادلها المتحدثون، وانما هي تواصل جاد
بحاجة الى انفتاح القلب والعقل معاً، اذ بدون هذا الانفتاح لا يمكن لكل
الالفاظ ان تجسّر العلاقة بين طرفين مختلفين، لكن القلب المفتوح والعقل
المنفتح هما السبيل الأمثل والطريق الاصوب للعبور الى ضفة الآخر مهما كانت
مساحة الخلاف معه. والعقل المنفتح يدرك جيداً أن الآخر الذي يتواصل معه
مثيل له يمتلك عقلاً مدركاً، وبالتالي فلا تٌُحتكر الحقيقة ولا تُسلب من
الآخر، وبذلك تبدأ أولى خطوات التقارب الإنساني حينما يتبادل الطرفان
الاعتراف بالآخر، اعتراف بقدرته العقلية وملكاته الإنسانية وامكاناته
الابداعية، وبذلك تقوم العلاقة بين الطرفين على اساس متكافئ متين مادته
الاحترام المتبادل الذي هو النتيجة الطبيعية للاعتراف المتبادل. بعدها يأتي
دور القلب المفتوح الذي لا تغلق فضاءاته الكراهية والنفور المانع من
الاقتراب، انما يتسلح بالقدرة على الجذب والمغناطيسية التي تشد هذا الطرف
بذاك وهي الخميرة الاساسية لديمومة التواصل والاقتراب، فيما بيننا نحن
البشر، خاصة وأن القلوب المفتوحة بامكانها ان تقرب المسافات بين العقول ذات
الرؤى المختلفة، وتختصر البعد بين المختلفين، وقد يدعم هذا الاتجاه تحرر
العقول من عقد القداسة التي نغلف بها ذواتنا والذي يترشح عنها قداسة ما
تفرزه الذات وحقانية ما يترشح عنها، وبهذا تأخذ الموضوعية طريقها للعمل وهو
ما يوفر هامش اخذ وعطاء مع الآخر الذي يفترض بنا ان نحترم رأيه ونعترف
بأمكانية ادراكه للحقيقة، بذلك نتنازل عن بعض القناعات التي ليس بالضرورة
ان تكون حقاً مطلقاً، وان ما يخالفها باطل محض.
وإذا
ما تخلص العقل من عقدة القداسة المفضية لوهم احتكار الحقيقة، فأن انفتاح
القلب سوف يساهم في انفتاح العقل على الرأي الآخر لقبوله أو تقييمه
بموضوعية وحياد، وبذلك نكون قد خلقنا اجواءً للحوار المتكافئ الذي يوصلنا
الى المشتركات في وسط الطريق أو حتى الى الركون للحق الذي يستحق ان يكون
هدفاً للمتحاورين من اصحاب العقول المنفتحة والقلوب الكبيرة التي تتسع
ايجابيتها لقبول الآخر فلا تضيق به ولا تعطل اجتيازه لحدود الوعي، وذلك من
شأنه ان يوفر الارضية الصالحة للتلاقي التي يمكن ان نؤسس عليها عيشا
مشتركا، بل وتلاقحا فكرياً يغذي التجربة الانسانية ويثريها وينمّيها، وهذا
هو قمة ما يسفر عنه الحوار الايجابي البناء المنتج الذي لو قدر له ان يسود
فتتعاطاه البشرية لعجّلت في حركة تنميتها ورقيها ولجنبت نفسها الاحتراب
والصراع الذي جربته الانسانية نفسها فلم تحصد منه غير الموت والدمار
والخراب والعذاب من هنا فالحديث عن الحوار وتبنيه ليس ترفاً فكريا كما
يتوهم البعض، وانما هو ضرورة حياتية تتضاعف اليها الحاجة بقدر متناسب مع ما
تقطعه البشرية من اشواط المعرفة التي قد تتحول نتائجها الى كوارث انسانية
اذا لم نضبط ايقاعاتها بالعقول المفتوحة والقلوب الكبيرة.
ان
امتلاك الانسان لناصية العلم صيّرت منه كائنا خطيراً قد يقضي على النوع
الانساني كله بعد امتلاكه القدرة على انتاج اسلحة الدمار الشامل والذي يكفي
بعضه لأبادة اضعاف سكان الارض بضغطه زر. لذلك يتبوء مبدأ الحوار موقعاً
متقدماً في حياة الناس لانه يمثل عنصر توازن في كبح جماح غرور القوة التي
تسوّل لاصحابها الشر المستطير، عندما يستخدمها الانسان المغرور فينهي بها
الحياة على الارض كلها ولذلك لا سبيل للحياة أن تستمر الا بإشاعة روح
الحوار الكفيل بدرء مخاطر غطرسة القوة التي قد تنسف كل ما بناه الانسان من
حضارة، وما ابدعه من فنون ورخاء واعمار طيلة حياته.
من
هنا لا خيار لنا الا ان نتعايش بسلام ولا تعايش سلمي بلا حوار متكافئ قائم
على اساس الاعتراف المتبادل والاحترام المتبادل وادوات ذلك كله قلب مفتوح
وعقل منفتح والا فالنهاية الكارثية بالانتظار.