قصيدة الزمن الثاني
بقلم: عيد السامري
(ناقد عراقي)
بعد مضي زمن كتابتها (1977)، أي زمن الحرب، يبقى لقصيدة «بوصلة الدم»
زمنها، الذي يُبقيها راهنة حتى اليوم. الصحيح أن لكل قصيدة زمنين: زمن
الكتابة، وزمن البقاء. قصيدة بول شاوول في هذا المعنى هي قصيدة الزمن
الثاني. القصيدة التي تظلّ، والتي لا يشحّ معناها، ولا يشيخ مبناها. يقول
الشاعر: «الصوت المعلّق بالنجوم القديمة يستوري في بصمات الظلال ينتفخ في
الوادي يهدل في الطيور يتراخى في غياب النبات يترقّط في جلد النمر يتمدّد
فوق البحر ويهطل مع الأمطار» (1).
الحصانة الزمنية، في هذه القصيدة،
أراها متأتية من قول الشيء في غيابه، أو أنه، على وجه الشعر، الاحتفاء
بحضور الغائب. هي قصيدة سياسية، إنما من دون سياسة. قصيدة السياسة، لكن من
غيرها: قصيدة الشيء في غيابه. لا حرج علينا، في هذا المقام، قولنا، إذاً،
إن في ذلك ميزة أصلية في شعر بول شاوول؛ الخاصّ عندما يكون غياباً: «دفقت
دماءها على منحدرات العالم وانتصبت تشهد ظلمة الأفول لترتفع سنابل لخيال
النمال وغرائز الزواحف آه يا رنين الشهوة لتسحبْ على مدّك آذاناً مثقوبة
ويفرحْ في مجدك دوار مغلق» (2).
أيضاً، هي قصيدة قطيعة، في معنى حيادها
وعدم تفجّعها، لكنها ليست القطيعة التي تفضي إلى العزلة مثلما تفضي إلى
النبذ، بل هي قطيعة الطائفة والأحزاب والتحارب قبل كلّ شيء: «يموت شعبي
مكفّناً برياحه» (3).
الدم شمال الجسد
يطرح عنوان
القصيدة معاني عدّة لولوجها، الصحيح أنه يشقّ طرقاً في ذلك: «التئام» الدم
كبوصلة لا يخفي الرغبة التي تقوده، في معنى أنها بوصلة حيّة ترغب وتشتهي.
بوصلة شهوانية تشدّ من الشَّعر رحّالتها، وتقودهم من أيديهم، الرحّالة
الذين لن يُخرجوا البوصلة حتى يفقدوا نصف عيونهم ونصف أفواههم. قبل ذلك
امتثالهم، من حيث افتراض أن حضور البوصلة يعني ضياع الجهات، ويعني التيه،
ويعني ارتقاء البوصلة إلى مرجعية، الأرجح وحيدة، حينما الدم مبتغاها
وشهوتها: هكذا يكون الدم، نجمة المجوس، سيّداً للجهات، له الأجنحة، لكنه،
قبل هذا وذاك، الجهة. هو الشمال الذي تطارده البوصلة وتشتهيه: جهة الشمال
في جغرافيا الجسد. في المقابل من ذلك، أو في موازاة ذلك، يتكرّر الرحّالة
في ما يشبه اللازمة: «الأشرعة ساكنة في الرمل/ عمر أبيض/ (يطلع منها رحّالة
الدم والكلمات)» (4)، والصحيح أن تطوّراً، قد يصحّ وصفه بالدرامي، يطاول
اللازمة - الرحّالة لأنهم في ما بعد: «يلوكون صراخاتهم الرحّالة يلوون
القضبان ويدلفون إلى داخلهم» (5)، وبعد ذلك: «الرحّالة يتقدّمون في حدود
خطأهم يرسمهم خيالهم على الطواحين» (6)، أيضاً «الرحّالة يختصرون الطريق
فوق أجسام بيضاء» (7)... إلخ، وذلك كلّه ينهض على أساس أن «المراحل القادمة
تقضم أظافرها في الزناد» (8).
أكثر من لازمة تتكرر في القصيدة لا من
حيث التركيب فحسب، وإنما في المعنى حين الترحال والجذور «الصَّدَفية»
لازمتان أصليتان. يقول الشاعر: «ولكم كان الترحّل سيّد اللحظات نثار الوصل
يترك الوجوه مفجوعة تحت برق الحوافر والرماح ولكم كان الترحّل وطناً آخر
تُشكّ أعلامه على قباب رفعتها الصلوات والنذور نحن القبائل الأزلية» (9).
وفي مكان آخر: «حرفان عموديان في مدّك الرملي: «دم»/ حتى «أفردت» وكانت
الوحدة المنتظرة/ تعشق بلا جذور/ تسكن بلا جذور/ تطير بلا جذور» (10)
وصولاً إلى قوله: «يموت شعبي تصبح أصدافه جذوراً» (11). صَدَفية الجذور هذه
هي «التفسير» الوحيد لعمودية الدم، من حيث أن عمودية هذا الأخير تصدر عن
كونه لا يسيل على الأرض وإنما يتساقط ويهطل.
لا يبكي بول شاوول في شعره،
ولا يشقّ ثوباً، «نُشرّع بوابة الخيال على الدم/ نهيل على الجثث تراباً
لحصيد جديد» (12). أصلاً ليس للفجيعة أن تكون مادّة في شعره. ربما يصلح هذا
القول مدخلاً، غير مثالي بالضرورة، إلى الحديث عن التماسك في أشعاره. هذا
التماسك، بما هو من اللغة نصاعاً، ومن الصورة سعة، ومن البناء خاصية، يصل
بالقصيدة درجة تصيّرها فضيلة شعرية تترك المجال واسعاً لأكثر من تأويل: ليس
أولها وليس الأخير الاعتقاد بأن هذا التماسك هو نوع من فجيعة مضادّة.
فجيعة من دون فجيعة، على طريقة شاوول التي أسلفنا ذكرها.
فروسية اللغة
لا أحد يحتفي
باللغة احتفاء بول شاوول بها، وقبل ذلك «مراودتها»، درجة جواز الحديث عن
وجود فروسية لغوية لدى هذا الشاعر،، لكنها ليست تلك الاستعراضية. لا يستعرض
شاوول في لغته، لكن يتأنّى، عندما يكون التأنّي من صميم الحكمة، الشعرية
أولاً وخصوصاً. لغة بول شاوول ليست للتأمّل مثلما تكون ألوان اللوحة، لأنها
لغة من لحم ودم. لذلك سنراها في هذه القصيدة مثخنة كما يليق بلغة لا تكتب
الحرب، بل تحياها. لغة هذه القصيدة هي لغة تطلع من رحم الحرب، تراقب نفسها
مقدار ما ترصد خارجها: هل يستوي نقدنا إذا ما ادّعينا أنها لغة «مصابة»، من
فرط حضورها، في بعض «مواقع» القصيدة.
في هذه القصيدة التي يتماهى فيها
الصوت مع الرصاص من حيث أن له أزيزاً، يحضر الجسد ممتلئاً، لكنه لا يكتسب
معناه الحقيقي إلاّ من خلال عريه. وفي العلاقة بين معنى الجسد وعريه يتقرن
الرصاص، بما هو من الفعل الإلغاء، بالجسد (الملغى) من طريق البوصلة:
«للأجساد بوصلة الرصاص» (13)، لذلك «عندما تحرق المدينة/ يلمع الموت في
الجمر/ يلمع الموت بعد الرماد» (14). هكذا لا يكون الموت، في اعتباره
الجسديّ، إلاّ في العري: الجمر بما هو من الشيء المحترق عريه، كذلك الرماد
بالنسبة إلى الجمر.
قصيدة تقرضها الرغبات من رؤوسها، اقتباساً من الشاعر
في غير كتاب (15)، لكنها الرغبات التي قوامها ألوان فاقعة تليق بـ«فعل»
الموت، وقبل ذلك بحواس الدم، حينما تكون البوصلة حاسّة، على مثال ما يكون
البصر أو السمع.