ثورة النساء في.. الميتة الثالثة والأخيرة لعبد شويخ
كريم كطافة
ثورة النساء في.. الميتة الثالثة والأخيرة لعبد شويخ
11/12/2011
|
غلاف الرواية |
(عبد
شويخ) هذا فلاح يشبه فلاحي قرية (أم دهلة) مكان الحدث الروائي في رواية
العراقي (أسعد الهلالي) الموسومة بـ(الميتة الثالثة والأخيرة لعبد شويخ)
والصادرة عن دار الشؤون الثقافية في بغداد. ينتمي لزمن دخول الاستعمار
الانكليزي لأرض الرافدين وهو في كل الأحوال لا يمكن له أن يموت ويحيا مرتين
ليموت في الثالثة
ميتته الأخيرة.. إنما استلاب فلاحي قريته الكائنة على مجرى الفرات، أولئك
الباحثون عن الفحولة والشجاعة المتنحية بعيداً في سلوكهم اليومي، جعلهم
يختلقون لأنفسهم أسطورة الميتات المتعددة لذلك الرجل حتى وهو يدفن بأيديهم
عن عمر ناهز المئة عام..!!.. أنها الأسطورة القديمة الجديدة لبشر هذه الأرض منذ
الميتتات والانبعاثات المتعددة لـ(الإله ديموزي) السومري. يزدردون فصول
حياتهم
المجللة بالذل والإهانات مع الآهات والحسرات ولا يملون من الانتظار..
انتظار الغائب، المنقذ، المخلص. سُرقت مباهج حياتهم على دفعات مدروسة من
قبل شخص غريب (دامس البرغوث) قَدِم إلى القرية كلاجيء يبحث عمن يجيره. ولما
أغاثوه ومنحوه ما أراد هو وعشيرته، وكأي (شرير) في التاريخ استولى مع
الوقت على كل شيء بمعية (سركال) تبين لاحقاً أنه أبن له من امرأة
(إنكليزية..؟) دخلت البلد من ثغره
المائي (البصرة) كراهبة للتبشير قبل أن يخطفها هذا الـ(دامس) ويمارس عليها
فحولة لم تتعرف عليها في حياتها، الأمر الذي جعلها تستمرئ الخطف وتعيش معه
سنة كاملة، قبل أن تلتقي مجدداً بأعضاء بعثتها التبشيرية وتغادره تاركة له
أبناً بعيون زرق وشعر أشقر، سيكون هو سركاله وذرائعه اليمين لاحقاً.
فحولة
(عبد شويخ) كانت هي الثيمة المحورية التي أرادها الكاتب لروايته. أراد
منها تثبيت دلالات أخرى أبعد من دلالتها الجنسية. لعله كان مسكوناً
بأسطورة (أبي زيد الهلالي) الذي لا أدري إن كان أحد أسلافه الأباعد من
قرينة
اللقب المشترك، ذلك الدونكيشوت العربي الذي ما فتأت قصص مغامراته
بانتصاراتها وانكساراتها لها فعلها السحري الذي يراود مخيلة الخائفين
المرتجفين الملتمين حول (كوانين) النار في ليال الشتاء الطويلة والقاسية،
في بلاد ما فتأت أرضها تنبت الأشرار كما الفطر السام. جعل الكاتب من (عبد
شويخ) الغائب- الحاضر رمزاً مقابلاً لكل شرور وقسوة وظلم (دامس) الحاضر
على
الأرض.. ألا يكفي أنه الوحيد القادر على تعليق هذا الـ(دامس) من كعبيه في
قلب نخلة فارعة متدلي الرأس مثل خفاش بائس..؟ ليبرز السؤال؛ إذن من كان
الند لهذا المستبد في الرواية.. الند الأرضي.. وليس الأسطوري؟
هنا تأتي المفاجأة التي وجدتها رائعة ومدهشة وتُحسب لـ(الهلالي)، إذ لطالما
كانت أفعال الرجال غائبة، وهم يعيشون انتظارهم السلبي لظهور (عبد شويخ)،
كان من المحتم ظهور من يملأ هذا الفراغ.. لا بد من ظهور
الند الكفء القادر على تلطيخ فحولة ورعونة وقسوة المستبد وسركاله الهجين
بالوحل. ظهرت النساء هنا هن َّ الند الكفء..!! النساء اللواتي كنَّ هدفاً
ومرمى غزوات (السركال) إذ لم يسلم فرج امرأة في القرية من سائله
اللزج وقمل شعره الأشقر على حد قوله هو، بما فيهن نساء أبيه الأربع، إنما
دون علمهن وعلمه هو أنه الأبن البيولوجي لـ(دامس).. تماماً مثلما كانت
الأرض ومضخة الماء والسلطة هي الهدف الذي حصل عليه الشرير (دامس)..!!
ظهور المرأة بهذا الفعل (أن تكون هي الند الكفء)، كان الثيمة الثانية
الموازية للثيمة الأولى في هذا العمل الروائي. فحولة – أنوثة. لتنتصر
الأنوثة في النهاية. لقد أنضج الكاتب ثيمته الموازية بتمهل ودأب شديدين في
أحشاء النص وعلى نار مستعرة.. نار ظلت تمور في أفئدة النساء على مدار
النص.. امرأتان فعلتا الثورة أو التمرد بعدما طفح الكيل وتركتا للرجال
الاحتفال بالنتائج.. (هدية المحسون) و(فتنة) قادتا التمرد بدون اتفاق فيما
بينهما.. كل واحدة كانت تجري وراء ثأرها أو مأثرتها الشخصية بمفردها..
والاثنتان تعرضتا للاغتصاب والغدر كسائر نساء القرية.. الأمر هنا يشبه إلى
حد ما خروج الشعوب هذه الأيام متمردة ناقمة على مستبديها بلا قيادات، بلا
خطط، بلا أهداف واضحة باستثناء الهدف الوحيد (الحرية)..!! (فتنة) وهي تفيق
مع
طلوع الفجر من فعلة اغتصابها وافتراس جسدها من قبل السركال، تذهب إلى
الفرات بنية الانتحار.. فعل عراقي قديم (التطهر من الدنس بالماء) لكنها
وبدلاً من أن تواصل انتحارها تخرج من النهر بعد أن طهر جسدها من الدنس
بجثة الطفل (صباح) تلميذ المدرسة الذي غرق في ذات الفجر وهو يردد أمام
(المعيبر) نشيد (نحن الشباب لنا الغد..!!). تعب الرجال وهم يبحثون عنه في
النهر.. مشهد (مدهش وخطر) عن رجال يقودهم معلم القرية يبحون في الفرات عن
مستقبل ميت... لتأتي (فتنة) وتنتشل الجثة، ثم تعود إلى كوخها لتغزل خطة
تمردها، كانت الخطة بسيطة بساطة الأدوات المستخدمة لإنجازها، دارت على كل
النساء راجية من كل
أمرأة لها ثأر مع (دامس) وسركاله أن تضرب على جاونها فارغاً طيلة الليل..
أما (هدية المحسون) فقامت بالفعل الذي كان على كل امرأة أن تفعله (قطع عضو
السركال) رمز فحولة الظالم واقتداره، بل رمز الفحولة المقموعة لدى رجال
القرية. قطعته هذه الـ(هدية) بسكين كانت تحت مخدتها أثناء انشغاله
باغتصابها
وهو مندهش من سهولة استسلامها له.. بهذين الفعلين انتهت أسطورة فحولة
الظالم وجبروته.. مات السركال من النزف في مكان تجمع فضلات القرية
(المخيسة) ومات أبوه فوقه كمداً وقهراً وإنشداهاً من الأصوات
التي ثقبت رأسه طيلة الليل.. ولما وصل الرجال الذين قضوا الليل يعدون
الخطط الحربية والهوسات الحماسية للهجوم على الظالم، وجدوا أن كل شيء قد
انتهى.. وما عليهم عندها سوى الاحتفال بالنتيجة..!! بهاتين الثيمتين
المتداخلتين (فحولة – أنوثة) اجترح (الهلالي) سابقة تحسب له.
كان لهذه الرواية بهاتين
الثيمتين المتداخلتين والمدهشتين، أن تكون قمة إبداعية يشار لها، لولا
الفخ
الذي سقط فيه كاتبها. الفخ الذي لطالما سقط به كثير من الروائين الذين
يكتبون باللغة العربية.. واقصد به هنا (فخ اللغة).. للأسف أنساق الكاتب
وراء الفهم السائد للغة الرواية وهو فهم مدمر. ما زال كثير من النقاد
والروائيين يعتقدون أن لغة الرواية أي رواية هي لغة كاتبها.. الأمر الذي
يجعل كتاب الرواية يتبارون في تنميق وتزويق لغتهم كمثقفين وروائيين لهم من
الدربة مع الكلمة بصرفها ونحوها ما لهم.. ناهيك عن تفنن وانهماك البعض في
البحث عن الغرائبي والمدهش من تصاريف اللغة المعجمية التي لم يستخدمها أحد،
كل هذا يحدث وشخصيات رواياتهم وهذا مؤكد ليس بالضرورة هم على نمطهم من
الدربة
والدراية بشؤون وشجون تلك اللغة المحنطة في معاجم اللغة العربية.. الأمر
الذي يبعد القارئ رويداً رويداً عن قراءة الروايات.. ستكون العملية متعبة
للقارئ وهو يؤدي مرغماً عملية ترجمة لا تنتهي.. عليه أثناء القراءة (وهذا
ما فعلته أنا) أن يعيد صياغة الحوارات لأصلها ليشعر بالمتعة والقدرة على
المواصلة.. علماً أن الكاتب هو الآخر قد قام بعملية ترجمة إنما بالاتجاه
المعاكس، لقد ترجم حوارات شخصياته وحولها من لغتها
الأصلية التي قيلت بها والتي تعبر عن وعي قائليها حولها إلى اللغة
المعجمية (الفصحى هنا) التي تعبر عن وعيه هو.. مع هذه الحالة، لا محال
سيتحول (الكاتب) ودون إرادته إلى الشخصية الوحيدة في العمل، الجميع ينطق
بلسانه وبأفكاره، تاركاً شخصيات الرواية جثثاً هامدة في النص..!! ماذا يتبقى من أي
بشر سواء كان في النص أو خارج النص حين تسلبه وسيلته الوحيدة للتعبير عن
نفسه وعالمه..؟ أليست اللغة هي وسيلة تفكير وتعبير تعكس وعي القائل.. أليست
المفردات في أذهان البشر مرتبطة بتواريخها وأماكنها.. ألا تعكس طرائق
القول المختلفة طرائق عيش مختلفة بين بيئة وأخرى وأحياناً داخل البيئة
الواحدة.. كيف تأتى لفلاحي قرية (أم دهلة) الكائنة في بقعة منسية على مجرى الفرات ينتمون لزمن معلوم
لنا ومكان معلوم أن يغردون بلغة (سيبويه) و(نفطويه) وكل فطاحل العربية بما
فيها استخدامهم لمفردات التعجب والاندهاش والتذمر (يا للهول.. سحقاً..
اللعنة..
إلخ) وكأننا أمام كائنات في رواية أجنبية مترجمة إلى اللغة العربية
الأكاديمية.. أو أمام كائنات قادمة من بطون التاريخ العربي والإسلامي، في
عملية تغريب قاسية عن فضائهم الروائي (الزمان والمكان)
للأسف، ما
زال النقاد عندنا يمدحون ويثلبون لغة الرواية بتوصيفات لا علاقة لها بلغة
الرواية، يمدحون الشاعرية والرومانسية والبلاغة ومتانة القواعد وغيرها من
شؤون وشجون لا تمت بصلة ربما إلا إلى لغة الكاتب نفسه، في حين أن لغة
الرواية لا تتشكل من لغة كاتبها فقط، بل تتشكل من كم كبير من اللغات
واللكنات واللهجات والتنويعات الكلامية المختلفة، التي تدل على قائليها
زمانياً ومكانياً. شخصيات أية رواية ما هم إلا بشر يخوضون حياتهم بكم كبير
من هذا
التنوع الكلامي الدال على إنسانيتهم، أليس للمفردة امتداد شخصي تدل على
قائلها.. ألا نستدل في حياتنا على بيئة وثقافة ووعي وأصل وفصل هذا أو ذاك من خلال ما يقوله..؟
هذه الأسئلة التي لم تزل إجاباتها ملتبسة ومخترقة أحياناً بالإنكار
والتشويه
لا يتحمل مسؤوليتها الكاتب لوحده بل الفهم السائد للغة الرواية لدى
النقاد، حين يغفل هؤلاء أن لغة أية رواية هي تنوع كلامي كما هي الحياة
وبهذا هي تفترق عن الشعر.. لأن القصيدة هي لغة شاعرها وإن تعددت الأصوات
فيها.. بينما الرواية تبنى من مجموعة أنساق لغوية تكون أحياناً متباعدة
فيما بينها من لهجات ولكنات وأنظمة لغوية وهوامش.. ولا تكون لغة الكاتب إلا
نسق من هذه الأنساق.. لتأتي مأثرة الروائي هنا في القدرة على خلق تناسق
وانسجام وجمال من هذا التنوع الكائن في النص.. ماذا يريد الكاتب أكثر من أن
يكون قائد أوركسترا وهو يوالف وينسج لحناً جميلاً من أنغام كثيرة تصدح بها
آلات مختلفة.. أليست الرواية في واحدة من تجلياتها هي سيمفونية سردية..؟