يوسف
سامي اليوسف
كان التصوف الإسلامي قد اجتاز مسافة طويلة
حين بدأ محي الدين بن عربي الحاتمي الطائي
(560-638 هـ/1165-1240 م) يكتب مؤلَّفاته الغزيرة في
أواخر القرن السادس الهجري (الثاني عشر
الميلادي). ففي الشطر الأخير من القرن الثاني
للهجرة كانت رابعة العدوية قد أسستْ مذهبًا
تدشِّنه نزعةُ الحبِّ الإلهي، التي صارت فيما
بعد جزءًا من نظرية المعرفة الصوفية، والتي
سوف يُصار إلى تطويرها على يد ابن عربي نفسه،
لتصبح نظرية في المحبة الشاملة.
وبعد وفاة
رابعة بجيلين، أو زهاء ذلك، ازدهرت مدرسة
بغداد في التصوف برئاسة الجنيد الذي سماه
القوم "سيد الطائفة"؛ وكان "علم
التوحيد" أبرزَ إنجاز حققتْه تلك المدرسة
البغدادية. وعلم التوحيد هذا هو ينبوع سوف
تستفيد منه مدرسة "وحدة الوجود" التي
طوَّرها الصوفيون الأندلسيون دون سواهم من
أهل التصوف الإسلامي.
ومما هو معلوم
أن ابن مسرَّة القرطبي، المتوفى في العام 931
م، قد وصل إلى بغداد يوم كانت عاصمةً للتصوف
في العالم الإسلامي كلِّه. وحين عاد إلى
قرطبة، التجأ إلى أحد جبالها وعاش معتزلاً
الناس، باستثناء ثلة من المريدين الذين راح
يلقِّنهم مذهب وحدة الوجود. بيد أن جهود ابن
مسرَّة لم تؤتِ ثمارها بسرعة؛ إذ لقد مرت مئة
وخمسون سنة على وفاته قبل أن يظهر في الأندلس
أيُّ صوفيٍّ ذي شأن.
وأيًّا ما كان
المرء، فقد عرف ذلك الأفقُ النائي عن مراكز
الحضارة العربية في المشرق جملةً من رجال
التصوف الذين مهَّدوا السبيل أمام ابن عربي.
وكان ابن العريف أول صوفي كبير بعد ابن
مسرَّة؛ ثم تلاه ابن برِّجان وأبو مدين شعيب
وابن قسي في القرن الثاني عشر الميلادي (السادس
الهجري)، الذي عرف أشرس صراع دموي بين الشرق
والغرب.
ومما هو جدير
بالتنويه أن الغزالي، القادم من مدينة طوس
إلى بغداد، كان يعمل في مطلع ذلك القرن نفسه،
أو في أواخر القرن السابق، على تطوير نظرية
صوفية تصبُّ جلَّ اهتمامها على معرفة
الحقيقة، بل حصرًا على معرفة الله سبحانه.
وبذلك يكون الغزالي قد أسهم في تمهيد السبيل
أمام ابن عربي، وكذلك أمام مدرسته التوحيدية.
فمما هو مؤكد أن الشيخ الأكبر قد جعل للإنسان،
أو لوجوده، غايتين تتكاملان في غاية عليا:
معرفة الله وبلوغ الكمال – إذ لا كمال إلا
بمعرفة الله سبحانه. ولكن مقولة معرفة الله لم
تكن جديدة البتة عهدذاك. فلقد جاء في المجلد
الأول من الهرمتيكا أن "عدم معرفتك
بالله هو أرذل الرذائل على الإطلاق".
ليس من
السهولة بمكان أن يلمَّ المرء حتى بالمحاور
الكبرى لتراث الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي
إذا حصر نفسه ضمن مقالة واحدة ضيقة المساحة.
ففضلاً عن أن مؤلَّفاته هي من الكثرة بحيث
تكاد أن لا تحصى، وبالإضافة إلى أن نصوصه
شديدة التعقيد، بحيث لا تعنو كثيرًا للفهم
الصافي، في بعض الأحيان على الأقل، فإن منهجه
الكثيف مركَّب من عناصر شديدة التبايُن
والتنوع؛ إذ إن الرجل ينبع من ينابيع لا تُحصى
بتاتًا، شأنه في ذلك شأن كلِّ مفكر عملاق. فهو
يصدر عن الفلسفة اليونانية، ولاسيما
الرواقية والمشَّائية؛ كما يصدر عن القرآن
والسنة النبوية والموروث الصوفي الإسلامي
وتراث المتكلِّمين الإسلاميين، مثلما يستفيد
من التراث العربي جملة، ولاسيما إخوان الصفا
وفلسفة المعتزلة؛ وكذلك من الشعر العربي الذي
بلغ أوج النضج قبل ولادة ابن عربي بكثير.
وبسبب من كثرة الينابيع وتَبايُن أصنافها،
فقد جاء مذهبه غنيًّا بالمحتويات والرموز
والأفكار الشديدة التنوع؛ بل لعل في الميسور
أن يقال بأن تراث الشيخ موسوعة صوفية قائمة
بذاتها.
ومما يزيد
الأمر تعقيدًا أن ابن عربي قد صمَّم سلفًا على
أن يبعثر مذهبه داخل كتبه، ولاسيما داخل الفتوحات
المكية الذي يشبه دغلاً من الأدغال الكثيفة
لكثرة ما يحتوي من الموضوعات والأفكار
والأخيلة والصور والمفاهيم. يقول الرجل في
مقدمة الفتوحات:
أما
التصريح بعقيدة الخلاصة، فما أفردْتُها على
التعيين، لما فيها من الغموض، لكن جئت بها
مبدَّدة في أبواب هذا الكتاب، مستوفاة،
مبيَّنة، لكنها كما ذكرنا متفرقة. فمن
رَزَقَه الله الفهمَ فيها، يعرف أمرها،
ويميِّزها من غيرها؛ فإنها العلم الحق والقول
الصدق، وليس وراءها مرمى، ويستوي فيها البصير
والأعمى. تُلحِقُ الأباعد بالأداني، وتلحم
الأسافل بالأعالي.
لعل من شأن هذا
المقبوس الصريح أن يؤشِّر إلى حقيقة فحواها
أن منهج الفتوحات المفكَّك المبعثر إنما
صيغ على هذا النحو عن سابق عمد وتصميم. فالشيخ
لا يريد لأحد سوى خاصة الخاصة أن يستوعب
المستوى الأعلى بين مستويات مذهبه الخاص.
وهاهنا ينبغي تثبيت قول لابن عربي وثيق الصلة
بهذا الموقف المنهجي. يقول: "أما رعاع الناس
فلا كلام لنا معهم." وربما اتخذ ابن عربي
هذا الموقف لأن العامة قد اعتادوا على مهاجمة
أناس التصوف وتسفيههم. ولكن كيف يمكن لمنهج
التوحيد الوجودي أن يشمل هؤلاء الرعاع الذين
لا لغة له معهم ولا كلام؟ ماذا، هل يتركهم
خارج الوحدة؟!
وبما أن منهج الفتوحات
مهوَّش إلى حدٍّ لا خفاء معه، أو هو مختلط
العناصر ومفكَّك الأوصال، بل مؤلَّف من أنسجة
شديدة التبايُن والاختلاف، فقد راح الشيخ
يصرح بأنه ليس مسؤولاً عن ذلك الخلل؛ وما ذاك
إلا لأنه يكتب وفقًا لما أُملِيَ عليه من
قِبَلِ جهة سرية تلهمه ما يكتب أو يقول. فمن
المعلوم أن الصوفية، الشديدة الميل إلى فتح
الوحي نفسه، قد أدخلت مقولة "الكشف" إلى
منهجها المعرفي وجعلته بابها الأول إلى
الحقيقة. ولا مرية في أن كتاب الفصوص،
الذي ألَّفه في دمشق سنة 627 هـ/1229 م، هو أوضح
مرجع يمكن للمرء أن يعتمده بكثير من الثقة،
إذا ما أراد أن يفهم مذهب ابن عربي، وذلك لأن
مآربه واضحة، ولأن أسلوبه أقل وعورة من أسلوب الفتوحات.
بيد أن ثمة
أمرًا شديد الأهمية هاهنا؛ وخلاصته أن
المقبوس الأخير كاد أن يصرِّح بأن الشيخ قد
خلط عقيدة الخلاصة بعقيدة العوام. فلماذا فعل
ذلك؟ لا أظن بأنه أقدم على هذه الخطوة خوفًا
من الفقهاء؛ فهو في حماية ملك دمشق المعظم
عيسى بن السلطان العادل الذي كان يحضر دروسه
ويقبِّل يده في دمشق. وقد لا نحصل على أية
إجابة شافية إذا لم نقتنع بأن ابن عربي كان
يحاول أن ينشئ دينًا جديدًا شاملاً كليًّا أو
تركيبيًّا، بل هو حاشد للمذاهب كلِّها، ومن
شأنه أن يتناسب مع المستويات العقلية لجميع
الناس. ومما هو جدير بالذكر في هذا السياق أن
لابن عربي بيتًا من الشعر يؤكد توجُّهه صوب
بناء مذهب يضمُّ جميع أصناف العقائد. يقول:
عَقَدَ الخلائقُ في الإله عقائدًا * وأنا
اعتقدتُ جميعَ ما عَقَدوه
ولعل هذا
النزوع أن يكافئ بالضبط قول هيغل بأن مذهبه قد
احتوى على جميع المذاهب السالفة. وربما جاز
الزعم بأن مذهب كلٍّ من الرجلين هو بنيان
تركيبي أو توليفي؛ إذ إن الفلسفات القديمة
حاضرة فيهما حضورًا ناصعًا.
ويُكثِر الشيخ
من الحديث عن مستويات الناس، الذين يصنِّفهم
في أربع مراتب، هي "العامة" و"الخاصة"
و"خاصة الخاصة" و"خلاصة خاصة الخاصة".[1]
وفضلاً عن ذلك، فإنه كثيرًا ما يتحدث عن "الاستعداد"،
الذي هو الطبع، أو الشخصية برمَّتها؛ إذ يذهب
إلى أن المرء لن يُرزَق من الفهم إلا بحسب
استعداده الذي لا يطيع سواه. وهذا يعني أن
الناس ليسوا على مستوى واحد، وإنما هم درجات
متباينة؛ ولكلِّ درجة منهم صنف من أصناف
الاعتقاد لا يناسب سواها من الدرجات. وبما أن
الشيخ يريد لمذهبه أن يضمَّ جميع أصناف
البشر، وذلك وفقًا لنزعة صلح الأضداد
والمتباينات التي يتبنَّاها أهلُ التصوف،
فقد راح يعمل على أن يمنح كلَّ مستوى من
مستويات الناس ما يتناسب مع استعداده الخاص.
وهذا هو السبب الذي جعل الفتوحات شيئًا
أشبه بالكشكول، أو بإناء تتخالط فيه
المتنافرات والمتباينات. ومع ذلك، فإن هذا
الكتاب يحتوي على كنز ذهبي محلول في الرغام.
ومما هو جد نافع أن يتمكَّن العقل المتذهِّن
من أن يفرز ما هو ذا قيمة عمَّا هو بغير قيمة.
وأيًّا ما كان
جوهر الشأن، فإن الفكرة المركزية في مذهب ابن
عربي هي مقولة "وحدة الوجود"، التي
تنطوي، بشكل إضماري، على مبدأ الوصال
والاتصال بين جميع أجزاء الكون. ومما هو جد
معلوم لدارسي الفلسفة أن هذه الفكرة لم تكن
جديدة البتة في زمن الشيخ الأكبر. فهي صريحة
في المذهب الرواقي الذي رسَّخه رجال شرقيون،
وكذلك في كتاب برمنيدس لأفلاطون؛ وهي
معروفة عند الهنود القدماء في الأوبنشاد؛
كما أن ثمة إشارات تؤشِّر إليها في بقايا
الشذرات الفرعونية التي ترقى إلى الألف
الثالث قبل الميلاد. والأهم من ذلك أنها صريحة
في التراث الهرمسي، المنسوب إلى هرمس المثلث
بالحِكَم، وهو من يُعتقد بأنه إدريس النبي
المعروف. وأغلب الظن أن ابن عربي قد اطَّلع
على التراث الهرمسي في مصر، حيث سُجِنَ بتهمة
الزندقة، ولم يخرج من السجن إلا بعدما تدخَّل
السلطان نفسه، وذلك سنة 603 هـ/1206 م.
بيد أن مذهب
وحدة الوجود لم يصبح ينبوعًا لفلسفة قائمة
بذاتها في أيِّ يوم من الأيام إلا على يد ابن
عربي قبل سواه. وهذا هو التجديد الكبير الذي
أضافه الشيخ إلى تاريخ المذاهب العالمية. ثم
إنه قد عرض نظرية وحدة الوجود ضمن نسيج مشبع
بالجدلية الشديدة الحيوية، بحيث يصح الزعم
بأن ابن عربي هو أول فيلسوف جدلي في تاريخ
الجنس البشري. وفضلاً عن ذلك، فإنه قد خلَّص
مقولة "الوجد" من ميدان التجريد الذهني
القاحل إلى مناخ ذاتي، يمزج الفكر بالوجدان
الذوقي الشفاف، ولاسيما وجدان الحب الذي هو
برهة ضرورية لازمة لهذا المذهب الكوني الشامل.
وبفضل هذه المزية الأخيرة يختلف ابن عربي عن
فلاسفة يونان، وكذلك عن اسبينوزا وشلِّنغ
وهيغل، الذين سوف يتبنون مبدأ وحدة الوجود،
ولكن على نحو تجريدي ذهني، ذي طابع آلي فقير
إلى الروحانية، أو إلى كلِّ عاطفة وخيال.
وخلاصة هذه
المقولة الذائعة جد الذيوع أن الوجود واحد في
ذاته وحقيقة أمره، أي متواصل ومتلاحم – وإنْ
هو تكثَّر في أجزائه وأسمائه وما فيه من
الصفات والمحمولات. وفضلاً عن ذلك، فإن
الوجود، عند مستوى اللبِّ أو الماهية، هو
الحق إيَّاه وليس سواه؛ ولكنه يصير الخلق
عندما يُنظَر إليه في "أعيانه" وممكناته
المضمرة، أي في جزئياته وصوره الكثيرة التي
لا تُحصى. وهذا يعني أن الشيخ قد استعار فكرة
"الصورة" و"الهيولى" من أرسطو، فحذف
الهيولى، وأحلَّ محلَّها مقولة الحق الذي هو
الاسم الآخر للماهوي أو الكلِّي؛ بل قُلْ إنه
الشارط اللامشروط. فأصبح كلُّ شيء يتركَّب من
الصورة التي تخصه وحده، والتي يستتب الحق
فيها استتبابًا شاملاً.
يقول الشيخ في فصوص
الحكم:
فإن
للحقِّ في كلِّ خلق ظهورًا. فهو الظاهر في
كلِّ مفهوم، وهو الباطن عن كلِّ فهم، إلا عن
فهم من قال إن العالم صورته وهويته.
وهذه هي
بالضبط مقولة "التجلِّي" التي تتبوأ
المرتبة الثانية في مذهب ابن عربي، أي بعد
مقولة "وحدة الوجود" مباشرة. فلقد وَهَمَ
آسين بلاثيوس، المستشرق الإسباني المعروف،
حين زعم في كتاب عنوانه ابن عربي بأن
الشيخ الأكبر متأثر بأفلوطين وبنظرية "الفيض"
التي قال بها ذلك اليوناني اللغة والمصري
الولادة، والذي استفاد كثيرًا من التراث
الهرمسي الفرعوني بعدما تُرجِمَ إلى اللغة
اللاتينية قبل ولادته بنصف قرن أو زهاء ذلك.[2]
ففي صُلب الحق
أن التجلِّي ليس الفيض بتاتًا. فهو عند ابن
عربي صدورُ الأشكال أو الصور، بل الموجودات
كلِّها، عن حقيقة واحدة تتخذ من العالم مظاهر
لوجودها. أما الفيض الذي قال به أفلوطين فهو
سلسلة من الأشياء المتدفِّقة، يكون أولُها
سببًا لثانيها، وثانيها لثالثها، وهكذا إلى
ما لانهاية، حتى يصح القول بأن السابق علَّة
اللاحق، وبأن هذا الأخير معلول لما سَبَقَه.
وهكذا، فإن
ابن عربي يصنِّفكَ في الأذكياء إذا ما اعتقدت
بأن الحقيقة، أو الماهية، لا وجود لها خارج
العيان، أو خارج المحسوسات. ولهذا، فإن في
ميسورك الذهاب إلى أن الشيخ قد أعاد للطبيعة
جلالها الوثني القديم، ولاسيما حين أكَّد على
أنها تحوز من القدرات الخلاقة ما يمكِّنها من
تشكيل الصور الجديدة التي لا تتكرر بتاتًا.
وبما أن كلَّ شيء لا يتكرر، فإن الوجود طازج،
يانع، فتيٌّ، على نحو دائم. ففي عقيدة الشيخ
أن العالم يتغير "مع الأنفاس"، وإنه إذ
يتغير، فإنما هو يصنع صورًا جديدة تشبه الصور
القديمة، ولكنها لا تطابقها تمام التطابُق.
وهاهنا تراه يستفيد من الآية القرآنية
الكريمة التي تقول: "بل هم في لَبْسٍ من خلق
جديد."
ومما قد يكون
صريحًا إلى حدٍّ ما أن فكرة التجدد الدائم
للأشياء تنطوي انطواءً إضماريًّا على فكرة
التطور الذي يقول به ابن عربي في مواضع كثيرة
من كُتبه، ولاسيما حين يقول بأن النخلة هي آخر
أفق النبات وأول أفق الحيوان، ولهذا فقد
جعلها أخت آدم، أو أخت الإنسان.
ومما هو جدير
بالتنويه، في هذا المقام، أن اسبينوزا قريب
بعض الشيء من ابن عربي القادم من الأندلس.
فمما هو معلوم أن ذلك الفيلسوف اليهودي
المتنصِّر، الذي عاش في القرن السابع عشر، من
أصل أندلسي، شأنه في ذلك شأن الشيخ المولود في
مرسية والناشئ في إشبيلية. ولقد نزحت أسرة
اسبينوزا من البرتغال إلى هولندا قبل ولادته
بأربعين سنة. ويبدو أن تلك الأسرة قد كانت
لديها مخطوطات ذات صلة ما بمدرسة ابن مسرَّة
الجبلي أو القرطبي، وهي التي بلغت ذروتها مع
ابن عربي وابن سبعين والشبستري في القرن
السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي).
فالتشابه بين
فلسفة اسبينوزا وبين مذهب ابن عربي لا يخفى
على المتأنِّي، وإن تكن هنالك فروق بين فلسفة
الشيخ العضوية الحية، والمزودة بشحنة روحية
شفيفة، وبين فلسفة اسبينوزا الخاثرة
اللاعضوية، أو ذات البنيان المعدني
المتصلِّب. فمما هو ناصع بعض الشيء أن مقولة
"الحق" عند ابن عربي هي مقولة "الجوهر"
عند اسبينوزا؛ وهي ما سوف تصير مقولة "المطلق"
عند شلِّنغ وهيغل.
يقول هيغل في تاريخ
الفلسفة: "إما أن يكون اسبينوزا وإما أن
لا تكون الفلسفة." ومن اسبينوزا أخذ هيغل
بعض الأفكار، وبنى فلسفته الجدلية الشديدة
الإيغال في التجريد الذهني. ولا مرية في أن
هذه الفلسفة تختلف كثيرًا عن مذهب الشيخ
الأكبر الذي يعتمد على الخيال، وكذلك على
الوجدان، بدلاً من التذهُّن والتجريد الموغل
في التهويم. ولكن فلسفة هيغل تتشابه مع مذهب
ابن عربي في نقاط كثيرة، أو قُلْ إنها ليست
باليسيرة. ومما ينبغي التأكيد عليه أن
العناصر المشتركة بين الرجلين لاوجود لها قط
في فلسفة اسبينوزا، وقد لا يكون لها أيَّما
وجود في أيِّ مصدر آخر.
وأغلب الظن أن
هيغل قد التقى بتراث ابن عربي التقاءً
مباشرًا؛ إذ لا بدَّ من أن يكون قد تُرجِم
شيءٌ من تراثه إلى اللغة اللاتينية. ولا غرابة
في ذلك؛ فقد عرف الغربيون كلاً من ابن رشد
وابن سينا، بكل توكيد. ثم إن الحيوية النسبية
التي تتمتع بها فلسفة هيغل لا يمكن لها أن
تكون قد صدرت عن كتابات اسبينوزا الناشفة أو
القاحلة. ولعلَّ من شأن هذا الأمر أن يشجع
المرء على الظن بأن هيغل قد ألمَّ بشيء من
تراث ابن عربي إلمامًا مباشرًا. وربما تشجعتَ
كثيرًا على الأخذ بهذا الظن إذا ما علمتَ بأن
الإسبان أسَّسوا مدرسة لترجمة التراث العربي
إلى اللاتينية في طليطلة، وأن تلك المدرسة قد
ظلت تعمل منذ نهاية القرن الحادي عشر وحتى
نهاية القرن الرابع عشر.
أما المقولة
الثالثة التي تنبثق من مبدأ وحدة الوجود فهي
مقولة "الحب" التي تنطوي على النزوع نحو
توحيد البشر ومؤاخاتهم وحثِّهم على الاتجاه
صوب السلام. ففي الحقِّ أن التاج الذي يتوِّج
مذهب ابن عربي هو أنه جعل من الإنسان غاية
غايات الوجود. أما غاية الإنسان نفسه فهي
الكمال حصرًا. وفضلاً عن ذلك، فقد ذهب الشيخ
إلى أن التذاذ الإنسان بكماله هو أشد أصناف
الالتذاذ. وفي هذا ثمة سموٌّ شاهق عظيم.
وفي مذهبه أن
الشفقة على الناس هي واحدة من أبرز المناقب
الأخلاقية، وأن إقامة النشأة الإنسانية
ورعايتها وتعهدها بالصيانة أَوْلى من هدمها
أو إلحاق الأذى بها. وبما أن الإنسان ما
خُلِقَ إلا من أجل الكمال، فإن "من سعى في
هدمه فقد سعى في منع وصوله لما خُلِقَ له"،
على حدِّ قول الشيخ في الفص الثامن عشر من فصوص
الحكم.
ولقد بجَّل
الشيخُ الإنسانَ كثيرًا، بحيث صار في ميسوركَ
أن تقول بأن مذهب ابن عربي هو المذهب
الإنساني، أو بأن الشيخ هو من أسَّس المذهب
الإنساني الذي لم يتبلور قبله في أية فلسفة
تبلورًا ناصعًا، ولو أنه عرف الإشارات في
مذاهب الفلسفة اليونانية، ولاسيما المذهب
الرواقي حصرًا. يقول ابن عربي في الجزء الثاني
من الفتوحات:
فلما
أراد الله كمال هذه النشأة الإنسانية، جَمَعَ
لها بين يديه وأعطاها جميع حقائق العالم،
وجَعَلَها روحًا للعالم، وجعل أصناف العالم
كالأعضاء من الجسم المدبِّر له. فلو فارَقَ
العالمَ هذا الإنسانُ مات العالم.
ويقول في موضع
آخر من الكتاب نفسه:
أنت
المصباح والفتيلة والمشكاة والزجاجة.
فلا معنى
للكون بغير الإنسان الذي تدور الكواكب من
أجله؛ بل إن جميع الأشياء قد خُلِقَتْ لتخدمه
وتصونه. فبالإنسان كَمُلَ العالم. كما أنه "زبدة
مخض الطبيعة التي ظهرت بتحريك الأفلاك".
وإذا خرج الإنسان من العالم بقي العالم مثل
النخالة. ووجودُه يحفظ الوجود، بحيث يزول
الوجود إذا زال الإنسان. وقد جاء في المجلد
الثاني من الهرمتيكا أن الإنسان هو "كمال
العالم وتاجه وجماله"، بل إنه مَن يضفي
عليه الزينة والحُسْنَ الفائق.
وهذا يعني أن
الإنسان الذي رآه ابن عربي بوصفه سرَّ العالم
وروحه وعلَّة وجوده، لا يقل عن كونه القيمة
العليا التي لا تبذها أية قيمة دنيوية أُخرى.
وبذلك صار الكائن البشري ماهيةً جليلة عظيمة
المقدار في مذهب الشيخ. وإذا ما تذكَّر المرءُ
أن البنيوية، مع ميشيل فوكو، قد أعلنتْ موت
الإنسان والعالم كليهما، فإنه سوف يدرك الفرق
الكبير بين هذه الحضارة الحديثة، التي
أُسمِّيها حضارة السخام، وبين الحضارات
القديمة التي قدَّست الإنسان وجعلتْه الكائن
الوحيد الذي يستحق السُّكنى إلى جوار الله
سبحانه.
بيد أن مذهب
وحدة الوجود قد بلغ أوْجَه حين قال بمبدأ
الحبِّ الشامل الذي تحدث عنه الشيخ الأكبر
كثيرًا في الفتوحات، كما تحدث عن لوازمه،
ولاسيما الجمال والمرأة. ففي اعتقاد الشيخ أن
العالم هو التجلِّي المثالي للجمال، وأنه ما
ثمة إلا الجمال وحده. وهو يحمد الله لأنه أظهر
الجمال وسَتَرَ القبح. وعنده أن الجمال سبب
الحب؛ وحسب الجميل أن يكون لكي يُعشَق على
الفور.
أما المرأة
فما من أحد أكرمها كما فعل الشيخ سوى الرسول (ص).
ففي اعتقاد الشيخ أنه لا يعرف قيمة المرأة إلا
من عرف سبب وجود العالم. بل لقد ذهب الرجل
مذهبًا لم يقل به من قبل أيُّ صوفي أو فيلسوف،
وذلك حين قال في الفص السابع والعشرين من فصوص
الحكم إن في المرأة يكتمل ظهور الحقيقة،
وذلك لأنها الكائن الوحيد الذي يتبدى فيه
الحق فاعلاً ومنفعلاً في آنٍ واحد.
بيد أن أنصع
برهة عبَّر بها الشيخ عن مذهبه في الحبِّ
الشامل، الذي من شأنه أن يعانق جميع أصناف
البشر دون تمييز، فهي تلك التي انطوى عليها
ديوانُه ترجمان الأشواق. وهذه هي بعض
الأبيات أقبسها من تلك القصيدة النادرة
المشهورة التي طالما درسها الدارسون:
لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورة * فمرعى
لغزلان، ودير لرهبـان
وبيت لأوثـان، وكعـبة طائف * وألواح
توراة، ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنَّى توجَّـهتْ *
ركـائبُه، فالحب ديني وإيماني
إذن، لقد صار
الحبُّ ديانة الشيخ ومذهبه؛ أو لعله أن يكون
واحدًا من أمتن ركائز ذلك المذهب.
ولقد أطلق
الشيخ الأكبر اسم "الهوى"، الذي هو الحب،
على الله سبحانه، وذلك في هذا البيت الشعري
اللافت للانتباه:
وحقِّ الهوى، إن الهوى سببُ الهوى * ولولا
الهوى في القلب ما عُبِدَ الهوى
ولعل مما هو
بيِّن أن كلمة "الهوى" الثالثة في هذا
البيت هي وحدها التي تعني الحب؛ أما "الهوى"
في المواقع الأربعة الأخرى فلا تعني سوى "الله"
سبحانه وتعالى.
وعندي أن قيمة
ابن عربي لا تبلغ أوْجَها إلا حين يفكِّر بهذه
القضايا الذاتية، وليس حين يسرد الأفكار
المجردة المعقومة، مثل مقولة "الأعيان
الثابتة" ("مُثُل" أفلاطون؟)، ومقولة
"النفس الكلِّية" الزائفة التي استعارها
من الرواقيين، أو قوله بالعدم الذي لا ينفعل،
أو بتحول الحق في الصور، أو فكرته عن
اللامتناهي الذي لا يدخل في الوجود، مما أفضى
به إلى القول بأن كلَّ ما يدخل في الوجود فهو
متناهٍ بالضرورة. والجدير بالتنويه أن هذه
الفكرة هي أنسوجة في نسيج المذهب الهيغلي. ولا
يدري المرء ما إذا كان هيغل قد استعارها من
ابن عربي، أم أن الاثنين كليهما قد صدرا عن
مصدر واحد قديم.
ولكن السؤال
الذي لا بدَّ له أن يخطر في البال هو هذا:
لماذا راح ابن عربي يتبنَّى المذهب الإنساني
وما يقتضيه من التزام بمبدأ المحبة الشاملة
أو مبدأ الإخاء البشري؟ ألا يجوز الزعم بأن
الزمن الذي عاش فيه قد كان بمثابة الحاضنة
التاريخية التي أنبتت ذلك المذهب ذا النزعة
الإنسانية؟ وهل من فكر خارج التاريخ؟ فمن غير
المعقول أن تتشكَّل المذاهب والفلسفات بمعزل
عن أزمانها، أو على حيدة من ظروفها التاريخية
والاجتماعية والثقافية.
ولعلَّ من شأن
الإنابة إلى الطور التاريخي الذي عاش فيه ابن
عربي أن تسعفنا، كثيرًا أو قليلاً، إذا ما
حاولنا أن نستوعب السبب الذي دفع الرجل نحو
اتخاذ موقف إنساني نبيل. فقد عاش في عهد اشتدت
خلاله وطأة الحروب الوحشية على الناس، سواء
في الشرق أو في الغرب. إذ احتدم القتال داميًا
شرسًا في الأندلس ابتداءً من سنة 1085 م، وظل
شديدًا عنيفًا حتى أواسط القرن الثالث عشر
للميلاد، أي حتى وفاة ابن عربي، أو بعدها
بقليل. ولقد جَرَتْ في ذلك الزمن معركتان من
أكبر المعارك التي عرفتْها الأندلس طوال
تاريخها، وهما معركة الأرك (1194 م) ومعركة
العقاب (1212 م). ولقد انتصرت دولة الموحدين في
الأولى، ولكن جيشهم قد تعرض لمذبحة رهيبة في
الثانية؛ وأسفرت العقاب عن سقوط قرطبة
وإشبيلية ومعظم الأندلس في أيدي الإفرنج، بل
لم يبقَ للعرب سوى إقليم غرناطة الجبلي وحده.
وحين وصل ابن
عربي إلى المشرق سنة 598 هـ/1201 م، كانت مئة سنة،
أو أكثر، قد مضت على بداية الحروب الصليبية
التي شملت الأناضول والشام والجزيرة ومصر
والحجاز. وكانت عشرات المعارك قد خيضت،
ولاسيما في زمن زنكي ونور الدين. ولقد عاصر
الشيخ معركة حطين (1187 م)، كما عاصر الحروب التي
دارت بين صلاح الدين وقلب الأسد (1189-1192 م). وقبل
حطين بإحدى عشرة سنة، انتصرت قونية السلجوقية
نصرًا مؤزرًا على الجيش البيزنطي في معركة
ميرياكفالون (1176 م). والحقيقة أن تلك المعركة
هي التي حسمتْ مصير الإمبراطورية البيزنطية
لصالح الأتراك فيما بعد. لقد كانت معركة
ميرياكفالون مجزرة للجيش البيزنطي. فحين قامت
الحملة الصليبية الرابعة بمداهمة مدينة
بيزنطة نفسها سنة 1204، فإنها لم تصمد البتة
أمام تلك الهجمة، فسقطت في أيدي الإفرنج
الذين كانوا يعتقدون بأن العاصمة البيزنطية
هي معقل الكفر، شأنها في ذلك شأن بغداد
والقاهرة ودمشق. وحين دخل الغربيون إلى داخل
أسوار بيزنطة فقد جزروها ونهبوها وارتكبوا
فيها أشنع الفظائع والسفالات.
لقد أُنهِكَت
القوى في حوض البحر المتوسط إنهاكًا مضنيًا
في زمن ابن عربي، الأمر الذي أطمع المغول
وأغراهم على التوجه غربًا؛ فزحف جنكيز خان
صوب أفغانستان وإيران وبلاد ما وراء النهر،
وأخذ يجتث الحياة في تلك الأقاليم، خلال
العقد الثالث من القرن الثالث عشر للميلاد،
أي يوم كان ابن عربي مازال يكتب الفتوحات
وقبل أن يبدأ بكتابة الفصوص.
وكان نزول
الحملة الصليبية الخامسة على مدينة دمياط، أو
ضَرْبُ الحصار المرير حولها لمدة سنتين (1219-1221
م)، فعلاً من أبرز الأفعال التاريخية في ذلك
العصر. ولقد كان الخَطْب جَلَلاً لدرجة أن
الملك العادل قد اغتمَّ ومات حين سمع بالنبأ
وهو في دمشق، التي سوف يأوي إليها ابن عربي
طوال ما تبقى من عمره (1223 م).
وأما قونية،
عاصمة السلاجقة في الأناضول، التي زارها
الشيخ مرتين، فأكرمه ملكُها، وزوَّجه بإحدى
أميراتها (وهي والدة تلميذه صدر الدين
القونيوي)، فقد مُنِيَتْ بهزيمة ساحقة على
أيدي البيزنطيين سنة 1212.
وعلى ضوء تلك
الأوضاع التاريخية التي تفاقم فيها الشرُّ
واستطار، فإنك قد تملك أن تجد السبب الذي جعل
ابن عربي يتحمس لمبدأ وحدة الوجود التي تفضي
تلقائيًّا إلى وحدة الأديان ووحدة البشر،
وكذلك إلى الحبِّ الإنساني الشامل. لقد شدَّد
الشيخ على أن الإنسان هو القيمة العليا
والغاية النهائية في هذا العالم. فها هو ذا
يقول: "الإنسان هو العين المقصودة."
ولعلَّ هذا القول أن ينطوي على إشارة إلى
مفهوم التطور. فالصوفية تؤمن بأن العالم في
الترقِّي الدائم؛ وهذا يتضمَّن أنها ترى
الإنسان نتاجًا لتحولات طويلة، حتى لكأن
الطبيعة لا تتطور إلا لكي تنتج الروح. وبما أن
الإنسان نتاج لتطور طويل جدًّا، وبما أن
التطور لم يخلق ما هو أرقى منه، فإنه كائن
عظيم بالضرورة.
ومما هو جائز
أن يقال بأن هذا التشديد على القيمة الداخلية
للإنسان هو الردُّ النقيض على همجية البشر
النازعة نحو المجزرة والتدمير. فالكمال وحده
هو الذي يملك أن يتجاوز تلك الضراوة الهمجية
التي من شأنها أن تلغي كلَّ مسافة بين الإنسان
وبين الوحوش المفترسة.
والآن قد يحق
للمرء أن يزعم بأن نظرية "وحدة الوجود"
ما كان لها أن تلقى هذا الاعتناء من رجل عبقري
كابن عربي إلا لأنها حاولت أن تستجيب لمطلب
تاريخي شديد الإلحاح، وهو حاجة الناس إلى
تهدئة الصراع أو إخماد التوتر في حوض البحر
المتوسط. وبما أن الصراع كان ذا طابع ديني،
فقد نوَّه ابن عربي في الأبيات المقبوسة من
قصيدته النونية على أن من واجب الإنسان الطيب
أن يقبل بجميع الأديان، أي أن يقبل بوحدة
الجنس البشري كلِّه.
وفي الحق أن
نظرية وحدة الوجود لم يتحمس لها أيُّ قطر عربي
قبل الأندلس. فلقد كانت النظرية الوحيدة
للمتصوفين الأندلسيين قبل ابن عربي بمئة سنة،
أو زهاء ذلك. وربما جاز الزعم بأن هذا الأمر لم
يكن من قبيل المصادفة؛ بل لعلَّه أن يكون ذا
دلالة واضحة. ففي شبه جزيرة إيبيريا اقتتلت
حضارتان أو ديانتان أو لغتان دون أيِّ أمل في
البلوغ إلى تركيب أو توحيد. وأغلب الظن أن شدة
ذلك الصراع قد كانت السبب الذي دفع المتصوفين
الأندلسيين – ومن جملتهم ابن عربي – باتجاه
وحدة الوجود الواحد الموحَّد المتواصل، الذي
تتكامل أجزاؤه بعضها ببعض.
لئن كانت
الرغبة في توحيد الأشياء هي المنقبة الكبرى
للشيخ الأكبر، فإنها مثلبته الأولى، أو
عرقوبه الأخيلي، في الوقت نفسه. فلقد حتَّم
عليه التوحيد الوجودي أن يجيء مذهبُه متعدد
المستويات، بحيث يصالح بين أضداد لا تقبل
الصلح بتاتًا. ولهذا السبب، اضطر الشيخ إلى
اعتماد الترَّهات، مثل مقابلته للخضر، ومثل
التقائه بالسيد المسيح وتوبته على يديه، أو
كاستلامه لكتاب الفصوص من يد الرسول (ص)،
أو حديثه عن جبل قاف والحية المحيطة بالبحر
المحيط. ترى، لو قَصَرَ مذهبه على الخاصة
وحدهم – وهم مَن لا يؤمنون بالخرافات – أفكان
في ميسوره أن يزعم بأنه قد وحَّد جميع البشر
في مذهب واحد؟ وما الجدوى من فلسفة وحدة
الوجود إذا لم تجهر بالدعوة إلى وحدة الجنس
البشري، أو إلى التخفيض من توترات التاريخ،
الذي أدارت له الصوفية ظهرها إلى حدِّ
الطلاق؟ وكيف يتيسر لأيِّ امرئ أن يوحِّد
أولئك الذين يؤمنون بالعلوِّ مع سواهم ممَّن
يقولون بالمحايثة وينكرون الماوراء إنكارًا
حاسمًا ونهائيًّا.
ويبدو أن فكرة
وحدة الوجود، التي تحاول أن تجبر جميع الكسور
وأن ترتق الانشطارات كلَّها، هي فكرة وهمية،
بل اعتباطية، وذلك لأنها تنظر إلى الفِصال
بوصفه عَرَضًا يقبل التجاوز. ومما هو معلوم أن
مذهب هيغل، ذا الطابع التجريدي، الذي يكدُّ
اللغة ويجهدها على نحو مصطنع ومجاني في آنٍ
واحد، إنما يتأسَّس، بالدرجة الأولى، على
مبدأ وحدة الوجود. بيد أن للمرء كامل الحق في
التساؤل عن قيمة ذلك المذهب، جملة وتفصيلاً.
فهو مذهب لا يمجِّد شيئًا سوى القوة؛ ولهذا
فإنه يجهل العواطف والأخلاق جهلاً مطبقًا،
ولا يستبقي من الإنسان إلا هيكله العظمي وحده.
ومما هو جدير بالتنويه أن هيغل قد زعم بأنه
"خاتم الفلاسفة"، تمامًا كما زعم ابن
عربي ذات مرة بأنه "خاتم الأولياء". وفي
الحق أن نقاط التشابه بين الرجلين أكثر من أن
تُحصى؛ ولعل أبرزها أن يكون ذلك التوتر
الجدلي الذي ينسج المنهجين كليهما.
وعندي أن الذي
نسيه الشيخ الأكبر، بل الذي لم يفطن له
بتاتًا، قد يتلخَّص في أنه حاول جادًّا أن
يوحد الوجود بمنهج هو نفسه غير موحَّد قط. فهو
مأهول بالتناقضات والتهويمات والترَّهات، بل
بكلِّ ما يرفضه الذهن الحصيف ويأباه – مع أنه
يحشد، في الوقت نفسه، الكثير مما هو ذهبي نفيس.
ولقد نسي الشيخ أن الوجود ليس موحَّدًا إلا
بقدر ما هو مجزَّأ، وأن البشر يتعذَّر دمجُهم
في الوحدة الشاملة، وأن الصراع بين القوى
التاريخية لن يزول من الوجود إلا يوم يزول
الناس. ولعلَّ في ميسور العاقل أن يدرك من
المايُعاش بالمياومة ما فحواه أن الانشطار
أرسخ من الوصال في مضمار العلاقات بين
الأفراد والفئات الاجتماعية والشعوب وكلِّ
ما يخطر بالبال من الكيانات البشرية. ثم ما
هذا الحب الذي يجهل كلَّ بغضاء؟! هل يجوز أن
نطالب الضحية بأن تحبَّ الجلاد؟!
وعلى أية حال،
فإن الشيخ قد أسرف في الاعتماد على الخيال؛
فكانت النتيجة أن افتقر منهجُه إلى التنظيم
والتجانس. بل لقد جنح ذلك المنهج إلى التبعثُر
والتشتت بشكل لا يخفى على الألباء. وفضلاً عن
هذا، راح يشطح كثيرًا، بل كثيرًا جدًّا. وفي
الحق أنه قد ذهب مذاهب لا ترضاها البداهة،
ناهيك بالعقل المتذهِّن الحصيف.
ومع ذلك
كلِّه، فإن مزاياه كثيرة جدًّا، دون أدنى ريب.
ولولا كثرة مناقبه لما أُتيح له أن يصير محطَّ
الاهتمام منذ زمنه وحتى يوم الناس هذا. وإليكَ
بعضًا من أهم سماته الإيجابية التي جعلته
مرموقًا طوال مئات السنين:
أولاً. يتمتع الشيخ بخيال سوريالي فذٍّ ونادر
المثال في التراث العربي كلِّه. ولقد دفعه ذلك
الخيال العارم أو المتفوِّر إلى التوكيد على
أن العالم يتألف من الصور وحدها. يقول في
الجزء الثاني من الفتوحات المكية: "ما
في العالم إلا صور." والجدير بالتنويه في
هذا المقام هو أن الشيخ قد كان أول رائد يعمل
باتجاه صياغة نظرية في الخيال من شأنها أن
تحدِّد ماهيته ووظيفته النفسية. ولكم أصاب
حين رآه بوصفه برهة وساطة بين "المعقول
والمحسوس"، على حدِّ قوله، أو بين التجريد
والتجسيد، إذا ما تكلَّم المرء بلغة عصرنا؛
وكذلك حين ميَّزه عن العقل، إذ رأى العقل "معقولاً"،
أي مربوطًا، أو مقيَّدًا بالحقائق، بينما جاء
الخيال حرًّا طليقًا، يصعد ويهبط كيفما يشاء.
وهذا يعني أن الخيال مظهر من مظاهر الحرية
التي حُرِمَ العقلُ منها لأنه مشدود إلى
الوقائع والمعاني التي تندُّ عن كلِّ زوغان.
ولكن الشيخ تطرَّف ذات مرة وزعم في الفصوص
بأن "العالم كله خيال في خيال".
ثانيًا. يقف ابن عربي موقفًا إنسانيًا نبيلاً حين
يُبدي إشفاقه على البشر، وحين يجعل الإنسان
أكبر قيمة في هذه الدنيا الدنيَّة، أو حين يرى
فيه الغاية النهائية لهذا الوجود كلِّه.
ثالثًا. إن علاقة الشيخ الأكبر باللغة العربية،
أو درايته بها وبفقهها، لا تبذها أية خبرة
أخرى، حتى وإن كانت خبرة ابن فارس أو ابن جني.
رابعًا. في الشيخ عاشق دافئ الفؤاد، ذو شعور روحي
عميق وأصيل؛ ومن شأن هذه الحال أن تجعل نصوصه
مأنوسة، أو ذات وَقْعٍ يملك أن ينعش روح
الإنسان.
خامسًا. ثمة شاعر جذاب في داخل ابن عربي – وإن كان
شعره لا يخلو من ذلك التليُّف الذي ألمَّ
باللغة الشعرية في العالم العربي قبل ولادته
بكثير.
سادسًا. يتمتع الشيخ بالقدرة على التعبير الرمزي
النازح إلى البعيد. ولا يخفى على قارئه أن بعض
رموزه يكتنفها غموضٌ شديد، كثيرًا ما يجرُّ
النص إلى برهة الانبهام المغلق. ويبدو أنه كان
يتعمد هذا الصنف من أصناف التشكيل الرمزي،
وذلك لكي لا يستوعب أقواله سوى أتباع مذهبه
وحدهم.
ولكن أهم ما في
أمر الشيخ أنه كثيرًا ما ينمُّ عن خبرة نادرة
بالمستدقَّات، أو بالأمور العليا التي لا
تدركها إلا النفوس المطهَّمة والفِطَر
الفائقة ذات القامات الباذخة. ومن أمثلة ذلك
قوله: "علوم الأكابر كلُّها ذوقية"، أو
قوله: "الشوق علم ذوق"، وكذلك قوله: "أنت
الطلسم الأعظم والقربان الأكرم." ولا ريب
في أنه مقنع تمامًا حين يقول: "النفس بحر لا
ساحل له"، أو عندما يؤكد على أن "النور
ليس من عالم الشقاء". كما أنه شديد الدقة إذ
يقول: "لولا الكلام لكنَّا اليوم في عدم."
وربما راقتْ لكَ نصيحتُه هذه: "إرخِ
الستورَ على البدور."
ولئن تأملتَ
فكرته القائلة: "من كمال الوجود وُجِدَ
النقص فيه"، أدركتَ ما فحواه أن للشيخ
بصيرةً ثاقبةً، شديدةَ القدرة على رؤية ما لا
يُرى ولا يُعرَف إلا بواسطة الزكانة وحدها.
ويبدو أن الشيخ لا يبذه أحد حين يتفطَّن
للمستورات، أو حين يستحضر الغائبات
والنائيات.
وأيًا ما كان
جوهر الأمر، فإن ابن عربي واحد من أندر
الكتَّاب الذين كتبوا باللغة العربية، منذ
بداية النثر العربي وحتى يوم الناس هذا. وربما
جاز القول بأن نزعته الإنسانية الأصيلة هي
أفضل ما لديه من نزعات. فالإنسان القادر على
أن يكون إخائيًّا هو أرقى أصناف البشر. ولا
مرية في أنه قد أثَّر في المذهب الإنساني الذي
عرفه طورُ النهضة الأوروبية بعد وفاته بثلاثة
قرون. كما أثَّر – ولو على نحو غير مباشر – في
المنظومة الأخلاقية الجليلة التي تركها
إمانويل كانت، والتي استولدها ذلك الألماني
من صوفيات الشرق وأديانه، عند كلِّ مَن
عَقَلَ أو تخلَّص من عقدة الخواجه. وربما جاز
الظن بأنه كان أسبق الفلاسفة إلى التأكيد على
أن الإنسان هو الغاية التي ما بعدها غاية، أو
القيمة التي لا تبذها أية قيمة دنيوية أُخرى
على الإطلاق.
وبهذا يتبدى
شرفُه وشرفُ مدرسته كلِّها، بل تتجلَّى
قيمتُه التي تميِّزه عن الآخرين. ولا غلوَّ في
الذهاب إلى أنه لا قيمة، لدى أهل الأذواق، إلا
لِمَنْ يتساءل عن القيمة، أو يبذل في سبيلها
مثل هذا الجهد الكبير الذي بذله الشيخ
الأكبر، محي الدين بن عربي، قدَّس الله سره.
1.
ابن عربي، محي
الدين، الفتوحات المكية، دار صادر،
بيروت، بلا تاريخ.
2.
ابن عربي، محي
الدين، فصوص الحكم، دار الكتاب العربي،
بيروت، بلا تاريخ.3.
بلاثيوس،
آسين، ابن عربي، بترجمة عبد الرحمن بدوي،
دار القلم، بيروت، 1979.4.
بوترو، إميل، فلسفة
كانت، بترجمة عثمان أمين، الهيئة المصرية
العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1971.5.
الحكيم، سعاد،
المعجم الصوفي، دار دندره، بيروت، 1981.6.
غارودي،
روجيه، فكر هيغل، بترجمة الياس مرقص، دار
الحقيقة، بيروت، بلا تاريخ.7.
فرنر، شارل، الفلسفة
اليونانية، بترجمة تيسير شيخ الأرض، دار
الأنوار، بيروت، 1968.8.
كرم، يوسف، تاريخ
الفلسفة الحديثة، دار المعارف، القاهرة،
1966.9.
كرم، يوسف، تاريخ
الفلسفة اليونانية، منشورات لجنة التأليف
والترجمة والنشر، القاهرة، 1958.10.
هيغل، فريدريك، محاضرات في تاريخ
الفلسفة، بترجمة أحمد خليل، المؤسَّسة
الجامعية، بيروت،