سيغموند فرويد (1856 – 1939)
يعتبر فرويد مؤسس التحليل النفسي. في البدء كانت دراسته الثانوية متجهة نحو
الفلسفة، والآداب، والفنون، لكنه بعدئذٍ اتجه نحو دراسة الطب وتخصَّص في علم
الأعصاب. في العام 1883، عمل فرويد لدى الطبيب النفسي مينيرت وقام بأبحاث حول
الكوكايين الذي تنبه إلى تأثيراته المخدرة. وفي العام 1885، قضى فترة تدريب في
مستشفى سالبيتر في باريز حيث اطلع على كيفية معالجة مرضى الهستيريا عن طريق التنويم
المغناطيسي – وهو تلك التسمية التي تطلق على التنويم المفتعل، وحيث يظهر المأمور
تجاوبًا كبيرًا مع ما يُوحى إليه –، وهي الطريقة التي كان يمارسها شاركو. وهكذا، من
خلال هذه الطريقة التي كان يؤثر فيها على المستويات غير الواعية لنفسية مرضاه،
مهَّد طبيب الأعصاب الفرنسي (شاركو) لفرويد الطريق أمام اكتشاف ما سيعرف بـاللاوعي.
وهكذا أيضًا، في العام الذي تلا، افتتح فرويد في ڤيينا عيادةً بدأ يمارس فيها، من
أجل معالجة مرضاه، التنويم المغناطيسي الذي سرعان ما استبدله بطرائق أخرى (كطرح
الأسئلة، والمشاركة الحرَّة)، الأمر الذي ساعده على اكتشاف الصدمات النفسية القديمة
التي سببت حالات العصاب لدى مرضاه. وهكذا من ثم، ومستوحيًا من خبرته ومن ممارساته
في مجال العلاج النفسي – وبمساعدة فيليم فلييس الذي كان يتراسل معه ما بين أعوام
1887 و1904، ويساعده على تحليل نفسه – باشر فرويد، تدريجيًا، وضع نظريته المتعلقة
باللاوعي ومبادئه الأساسية (كالرقابة الذاتية، والكبت، والرغبة الجنسية "الليبيدو"،
وتأثير الأحلام، إلخ...). تلك العوامل التي ستشكل لاحقًا أسس التحليل النفسي. تلك
الأسس التي شرحها بشكل مستفيض في كتابه تفسير الأحلام الذي أصدره في العام
1900، والذي أكَّد فيه على حقيقة عقدة أوديب وعلى التوزع الثلاثي للنفس الإنسانية.
بعد ذلك، ورغم الاستنكار التي ولَّدته أعماله – وخاصةً حين تحدث عن الرغبة الجنسية
عند الأطفال –، ورغم عدم التفهم الذي لاقاه، خاصة في فرنسا حيث باشر معممو أعماله
بانتقاده على ما أسموه "جلافته الألمانية"، تابع فرويد أبحاثه بكل تصميم؛ تلك
الأبحاث التي كان يعتقد أنها ستشكل، بعد أبحاث غاليليو وداروين، ثالث ثورة حقيقية
في مجال معرفة الإنسان لنفسه ولمكانته في هذا العالم.
وبسرعة بعد ذلك، باشر فرويد بالتعرف على أول تلاميذه (كأبراهام، ويونغ،
وفيرينسزي...). وفي العام 1910، أسس الجمعية الدولية لعلم النفس. وفي العام 1923
اكتشف أنه مصاب بسرطانٍ في فكه. وفي العام 1938، بعد أن وضع هتلر يده على النمسا
(الأنسشلوس)، لجأ فرويد، بسبب أصوله اليهودية، إلى لندن حيث توفي في العام الذي
تلا.
كانت النصوص التي نشرها، بدءًا من أحد أول كتبه
دراسات حول الهستيريا
(الصادر عام 1895، الذي كتبه بالتعاون مع بروير الذي خاف بعدئذٍ من أبعاد النظرية
التحليلية، فتخلى عنها بسرعة)، تغتني بشكل مستمر بتجارب احتكاكه المستمرة مع مرضاه
(ففي عام
1901 نشر علم نفس الحياة اليومية، وفي عام 1905
نشر ثلاث مباحث في نظرية الجنس).
ونؤكد في هذه المرحلة على كتابه السخرية
وعلاقاتها باللاوعي
(الصادر أيضًا عام 1905) والذي أصبح يشكل نقطة علام في
تطور علم التحليل النفسي، ونقطة انطلاق أعمال ستتطور لتوسع لاحقًا مجال تطبيقاته
بحيث أصبحت تشمل الأدب والفن، ففي عام 1907:
الهذيان والأحلام في غراديفا جنسن؛ وفي العام
1910: ذكرى من الطفولة لليوناردو ده فينشي...
وعلى توسع هذه الأعمال من ثم لتشتمل على الثقافة ككل. فكان في العام 1913 كتابه
الطوطم والحرام الذي أعلن فيه عن فرضيته المتعلقة بـ"الجريمة البدئية" كعامل
مؤسس للحضارة. مشيرين إلى أن فرويد، لم يتردد خلال كامل حياته في إعادة صياغة كل
فرضياته معالجًا من خلالها موضوعان متتاليان ومترابطان: حيث يؤكد الموضوع الأول على
فعل كل ما له علاقة بوظائف اللاوعي وبدايات الوعي والوعي، بينما يعالج الموضوع
الثاني، الذي باشر الخوض فيه في العام 1910، مبادئ الهو والأنا والأنا العليا.
مفرقًا، مبدئيًا، بين اللذة وبين الواقع، ومحاولاً في نهاية المطاف تطبيق التحليل
النفسي واستنتاجاته على المسألة الدينية (فكان في العام 1927 كتابه مستقبل وهم)،
وتطبيقه أيضًا على مستقبل الثقافة (فكان في العام 1930 كتابه
قلق
في الحضارة)،
لا بل أنه تجرأ على التعرض للتوراة بحدِّ ذاتها (فكان في العام 1939 كتابه الشهير
موسى والتوحيد).
وأيضًا، وبغض النظر عن مسألة مدى الدقة العلمية للتحليل النفسي، ورغم أن الأفق
البيولوجي والقطعي الذي قدم فيه شرحه للنفس البشرية قد يبدو "تأريخيًا" (ما يبرر
التحوير الذي قام به بهذا الخصوص لاكان على سبيل المثال)، إلا أن فرويد قدَّم للفكر
المعاصر اقترحات كانت لها تداعيات في منتهى الأهمية: حيث بوسعنا أن نستخلص من كلِّ
ما يؤكده الانهيار الكامل لتلك المنظومة المتعلقة بالكائن الإنساني ككيان مستقل بحد
ذاته وكمركز للتحكم بالعالم. كما أنه، في الوقت نفسه، بيَّن أن الحدود الفاصلة بين
ما يعتبر طبيعيًا وبين ما هو مرضي ليست حدودًا واضحةً تمامًا، وأن كل ما ننظر إليه
كمكتسبات للثقافة الإنسانية يمكن أن يكون مجرد خداع نظر كبير يحاول التستر على
انعدام المعرفة الأساسية لطبيعة اللاوعي. وهذه المسألة، إن تجاوزنا من خلالها
الأوساط المحدودة للمحللين النفسيين، هي مسألة فلسفية صرفة.
ونتوسع قليلاً في واحد من أشهر كتبه الذي
هو
علم نفس الحياة اليومية، الصادر في عام 1901، حيث
يبين العنوان الفرعي للكتاب أنه محاولة لتطبيق التحليل النفسي على أفعال الحياة
اليومية، ما يؤكد، إن تجاوزنا التحليلات والبراهين التي يقدمها صاحبنا، صحة نظرياته
المتعلقة بالحياة النفسية العادية للأشخاص العاديين، وليس فقط ما يتعلق منها
بـ"المرضى".
ما يعني أننا إن تجاوزنا دراسة المصابين بالعصاب والأحلام، نرى أن فرويد قام بتعداد
تلك الظواهر العادية جدًا إلى حدِّ أنها تبدو وكأنها حوادث لا تذكر – أي كحوادث لا
أهمية لها، وتبدو للوهلة الأولى بلا معنى وغير مهمة: كبعض الأمور الصغيرة التي
ننساها، وبعض الأخطاء الصغيرة، وبعض الهفوات، وبعض زلات اللسان التي يمكن أن تصدر
عن أيِّ شخص. لكن ما يحصل هو أن اللاوعي، ومن خلال تلك الحوادث الصغيرة في حياة أي
شخص، يستفيد، حسب فرويد، من أية فرصة تتاح له كي يفعل ما يفعل ويعبر عن نفسه.
وهكذا، تصبح الهفوة أو ما قد يبدو مجرد نسيانٍ بسيط ليس وليد الصدفة أو بسبب ما قد
يبدو "تعبًا" أو "عدم انتباه" عارض، إنما، وعلى الرغم من عدم أهميتها من حيث
المظهر، نرى أنها حوادث ذات معنى عميق لأنها تبين، تمامًا كما يبين الحلم، الرغبات،
والهواجس، والشهوات التي لا نبوح بها، والتي يتم التحكم بها عن طريق الوعي. وهكذا،
لا يكون مجرد نسيان – اسم شخص على سبيل المثال – فعلاً بهذه البراءة التي يبدو
عليها للوهلة الأولى؛ فهو قد يعبِّر عن عواطف مكبوتة أو متناقضة تجاه ذلك الشخص.
كذلك الأمر فيما يتعلق بالشيء الذي نضيعه لأنه، وعلى عكس ما يبدو، غالبًا ما يكون
نسيان مكان هذا الشيء مترافقًا مع مضامين وأمور لا نريد تذكرها.
والنتيجة، فإنه يمكن القول بأن
علم
نفس الحياة اليومية
يقدم تحليلاً لا يقل أهميةً عن ذلك الذي قام به فرويد والمتعلق بالأحلام، تلك التي
كانت تبدو وكأنها أمر بلا أهمية قبل أن يقوم التحليل النفسي بتصحيح مفهومها. ما
يعني أن فرويد، ومن خلال هذا الكتاب، وسَّع مجال تحليلاته لتشمل كل مجالات الحياة
العادية: ما يعني أنها تعني الجميع (وفي هذا المضمار، غالبًا ما نلاحظ أن فرويد قدم
أمثلة مستقاة من حياته الشخصية). ما يعني، أيضًا، أنه يقول لنا بأن الحاجز الذي
يفصل بين ما قد يبدو طبيعيًا وبين ما هو مرضي، هو حاجز هشٌّ جدًا وغير ثابت. وأنه
بالتالي، يجب علينا في هذه الحياة أن نكون يقظين فنتمعن دائمًا بعمق فيما نفعل
ونحاول أن نفسر كل ما يحدث معنا ويحيط بنا.
ملاحظة من المعرِّب: لسيغموند فرويد ما يقارب الـ190 مبحث ومؤلف، تطرق هذا التعريف
فقط لبعض من أهمها.
ملاحظة:
تم تعريب هذا النص عن قاموس ناثان الفلسفي،
تأليف جيرار دوروزوي وأندريه روسيل.
تعريب:
أكرم أنطاكي