يبدو لمن يفكّر في مضمون النصوص المتعلقة بحقوق الإنسان أنّ المواثيق
المتوافق عليها تتعلق بمجتمع مثالي تصبو الإنسانية اليوم إلى بلوغه، وتعمل
جاهدة عبر تضامن دولي لإنجاز الشروط التي تجعله واقعا يعيشه الإنسان في
حياته اليومية، ونظاما يحكم العلاقات التي تقوم بين الناس في كل جماعة
بشرية ويسود في العلاقات بين المجتمعات المختلفة على عدة أصعدة. ولن ننكر
الطابع المثالي للحديث عن حقوق الإنسان، لأننا لا نستطيع في أية جهة من
العالم الحديث عن أيّ مجتمع تكون فيه حقوق الإنسان متحققة بصورة تامّة، أو
الإشارة إلى مجتمع تظهر حقوق الإنسان بصورة كاملة في علاقاته بما عداه من
المجتمعات. فتاريخ الإنسان في كلّ جهات العالم مليء بالسلوكات والتوجهات
التي تمسّ، في العمق أحيانا، تصوّر الإنسان لذاته بوصفه القيمة الأسمى في
الكون. ولكن موافقتنا على الوصف بالمثالية لمجتمع حقوق الإنسان لا يتنافى
لدينا، كما سنحاول توضيحه، مع الإمكانية التي نراها قائمة لدى إنسانية
اليوم للسير بصورة متدرّجة نحو تحقيق الشروط اللازمة للعمل في كلّ مجتمع
بمقتضى حقوق الإنسان.
نرى أنّ سعي الإنسانية المعاصرة لتحقيق مجتمع يسوده العمل بمقتضى حقوق
الإنسان مر بعدة مراحل عرف فيها السعي الإنساني إنجازات تسير في الطريق
المطلوب، ولكنه عرف أيضا تعثّرات ظهرت من خلالها بعض الفجوات في تحقيق
الغاية المطلوبة. ونضع تساؤلنا حول إمكانية مجتمع حقوق الإنسان ضمن البحث
عن جدل الإنجازات والتعثرات، وضمن البحث عن جدل القيم التي أصبحت واقعا
إنسانيا والعوائق التي لا تقل عن تلك القيم من حيث الواقعية والتي لا يمكن،
في نظرنا التغافل عنها وعدم أخذها بعين الاعتبار عند التفكير في وضع حقوق
الإنسان في العالم المعاصر. ليس في تساؤلنا إنكار لما تحقّق، ولكننا نراه
غير كاف بالنسبة للغاية المثلى المأمول تحققها، ولبس في تساؤلنا دفع نحو
التفكير بتشاؤم في الموضوع، ولكنّنا نريد أن نوجّه التفكير نحو الإدراك
الجدلي للقيم المنجزة والتعثرات القائمة.
نبدأ بلحظة نرى لها قيمة استثنائية بالنسبة لتاريخ التفكير الإنساني في
حقوق الإنسان، وهي لحظة صدور الميثاق العالمي المتعلق بهذه الحقوق عن منظمة
الأمم المتحدة سنة 1948. فهذه لحظة تحقق فيها وعي بأن العمل بمقتضى حقوق
الإنسان لازم للحفاظ على القيمة التي يتصورها الإنسان لذاته، وممكن لأنّ
الإنسان الذي تتعلق به تلك الحقوق قادر على توفير الشروط الموضوعية التي
تجعل للإنسان الحامل في ذاته لتلك الحقوق، وجودا واقعيا.
نرى في الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان لحظة غبر مسبوقة في التاريخ،
لنضج الإنسانية ووعيها بوحدتها بوصفها قيمة أسمى لا مثيل لها في الكون الذي
تحيا فيه. لا ننكر أن بعض الوعي الذي تعلق بحقوق الإنسان وجد قبل الإعلان
العالمي عن هذه الحقوق في بعض الثقافات والحضارات التي عرفتها الإنسانية،
وفي الشرائع والديانات المختلفة. ولكن ذلك لا يمنعنا من تأكيد وصفنا
للإعلان العالمي عن حقوق الإنسان بأنه لحظة تاريخية متميزة بالنسبة للوعي
بتلك الحقوق. فما صدر عن الأمم المتحدة سنة1948تعبير عن وعي الإنسانية
بوحدتها من حيث هي قيمة أسمى في الكون، إذ تنطبق الحقوق المعلن عنها على
جميع أفراد الجنس البشري مهما كان جنسهم وموقعهم المجتمعي أو أفكارهم
وعقائدهم أو انتماؤهم إلى هذه الثقافة أو تلك. الحقوق التي تضمّنها الإعلان
العالمي تهمّ الإنسان من حيث هو إنسان، بغضّ النظر عن الحيثيات الخاصة
التي تمثل فيها اختلافاته عن الغير. وبتعبير آخر، إن للإنسان ضمن الميثاق
العالمي الذي تعلق بها قيمة في ذاته يكون من واجب الإنسانية بأكملها الحفاظ
عليها.
كان الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان قيمة جديدة في تاريخ موضوعه من حيث
إن النص الذي صدر كان يتعلق بالإنسانية كاملة وموحدة، ومن حيث إنه سما بها
فوق اختلافاتها العرقية والجنسية والثقافية والحضارية. وقد كان نص الإعلان
بلورة متطورة بالنسبة للنصوص التي ظهرت قبله في موضوعه بعد الثورة
الفرنسية، ثم عند نشأة الولايات المتحدة الأمريكية.
تتمثل قيمة الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان، من جهة أخرى، في كونه ظل
منذ ظهوره منفتحا على إضافات جديدة وسعت من مجالات حقوق الإنسان، إذ شمل
النص بعد طهوره إشارات إلى الحقوق الجماعية وإلى حقوق الأمم والشعوب، على
حقوق الإنسان بجنسيه وحقوق الطفل، وكذلك حقوق الإنسان في حالتي السلم
والحرب.
تظهر قيمة الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، من جهة ثالثة، من حيث إنه أصبح
معيارا يقاس به مدى اندراج حياة مجتمع ما في إطار اعتبار الإنسان بوصفه
قيمة أسمى سواء بين مكوناته أوفي علاقاته مع مجتمعات أخرى. فكل مجتمع يسعى
إلى خلق الشروط الملائمة للعمل بمقتضى حقوق الإنسان بصبح دليلا على إمكانية
قيام الحياة الإنسانية على ذلك الاعتبار، ويصبح في الوقت ذاته نموذجا
لمجتمعات أخرى.
ما يميز لحظة انبثاق الميثاق الدولي حول حقوق الإنسان هو اجتماع
الإنسانية حول بداية رسم الطريق أمام أمل، هو قيام مجتمع تصبح فيه حقوق
الإنسان واقعا قائما في الحياة اليومية للناس سواء داخل كل مجتمع أو
بالنسبة للعلاقات بين المجتمعات. لكن التشاؤم من عدم إمكان قيام ذلك
المجتمع قائم بدوره، ويجد في مجتمعات كثيرة، وكذلك في الواقع الدولي الراهن
مظاهر تبريره. ومن مبررات التشاؤم النظر في ماضي الإنسانية الطويل حيث لم
يكن ذلك المجتمع ممكنا بسبب الشروط المضادة لتحققه. ولذلك نرى أن الانتقال
من النظر إلى مجتمع حقوق الإنسان بوصفه مستحيلا إلى ذلك المجتمع نفسه بوصفه
ممكنا، يقتضي أن يكون هناك بحث مستمر عن العوائق التي عاقت حقوق الإنسان
في الماضي عن أن تكون المعيار المشترك الذي يوجه أفعال الإنسان إزاء
الإنسان في شخص الغير فردا وجماعة.
نجمل التعبير عن عوائق حقوق الإنسان في الميل إلى التدمير. فهناك دائما
بالنسبة للفرد وللأمم أيضا ما يدفع نحو الاتجاه نحو تدمير الإنسانية في
الغير الذي هو في عمقه تدمير للذات أيضا، وذلك باعتبار وحدة النوع الإنساني
من حيث استحقاق كل ذات فردية فيه للتمتع بحقوق الإنسان الواردة في
المواثيق العالمية. تاريخ الإنسانية في هذا المستوى مليء بالحروب والنزاعات
المدمرة التي كانت باستمرار إطارا ملائما لاختراق حقوق الإنسان كلها،
وأهمها حق الإنسان في الحياة. وكانت هذه الحروب بين أمم متجاورة، كما كانت
كذلك بين أمم متباعدة، بل وعرفت المجتمعات الإنسانية في مختلف جهات العالم
صراعات مدمرة داخل كل مجتمع بين مكوناته التي قد تختلف أصولها العرقية أو
الدينية أو الإيديولوجية أو الثقافية. وكانت هذه الحروب الداخلية بدورها
مجالا لسيادة السلوكات المضادة لاحترام حقوق الإنسان.
يصبح مجتمع حقوق الإنسان ممكنا بقدر ما ينمو الوعي بالعوائق التي اعترضت
في تاريخ الإنسانية قيامه. ويصبح ذلك المجتمع ممكنا أيضا بقدر ما تتزايد
لدى الإنسانية المعاصرة التوجهات في مجال السياسات المشتركة،أي على صعيد
المنظمات الدولية،من أجل جعل العمل بمقتضى حقوق الإنسان واقعيا ومرجحا لما
يحفظ حقوق الإنسان أكثر مما يسمح باختراقها .
يتعلق مجتمع حقوق الإنسان بالمستقبل أكثر مما يتعلق بالماضي المليء
بمضاداتها، ولكن هذا لا يدفعنا إلى التركيز على الخطوات اللازمة في
المستقبل فحسب، بل لابد أيضا من اعتبار الماضي ضمن تحليلنا لأنه يتضمن
مجموع العوائق التي عاقت قيام ذلك المجتمع.ذلك أنه سيكون على إنسانية اليوم
أن تعمل على تجاوز كل أنواع الاختراق التي كانت في الماضي. يصبح مجتمع
حقوق الإنسان ممكنا عبر الأمل في قدرة الإنسانية على ألا تجعل نزوعها نحو
التدمير متغلبا على مطلبها في تحقق حقوق الإنسان. ونخرج من الإطار العام
الذي كنا فيه لنبحث في اللاحق في الخطوات التي نرى ضرورة اتخاذها للسير في
طريق جعل مجتمع حقوق الإنسان أمرا واقعيا يلمسه الأفراد، كما تلمسه الشعوب،
في الحياة الإنسانية اليومية.
سيكون على الإنسانية أن تتوافق أكثر من أي وقت مضى حول ما يضمن السلام في
العالم، وذلك لأن السلام كما بينا في السابق هو أعم الشروط بالنسبة للعمل
بمقتضى حقوق الإنسان. فضد السلام، وهو حالة الحرب والصراعات المختلفة التي
تكون لها كذلك دوافع داخل المجتمعات أو في العلاقات بينها، لا يكون وفقا
لشروطه الخاصة إلا إطارا لغياب حقوق الإنسان. لا يعني السلام ضمان حقوق
الشعوب فحسب، بل إنه يضمن أيضا حقوق الأفراد من حيث إنه يضمن الحفاظ على حق
أساسي هو الحق في الحياة. كما أن السلام العالمي يساعد على العمل المشترك
من أجل تلبية كل الحاجات الحيوية التي تضمن صحته وتقيه من الوقوع في
المجاعات. فالإنسانية المتضامنة من أجل العيش في سلام هي التي تضمن الشرط
اللازم لحقوق الإنسان.
2- الخطوة الثانية التي تساعد المضي أماما في طريق العمل بمقتضى حقوق
الإنسان هي سيادة النظام الديمقراطي في المجتمعات. ونرى أنه بإمكاننا القول
إن الديمقراطية في المجتمع هي بمثابة السلام داخل كل مجتمع بين مكوناته
المختلفة.فغياب الديمقراطية يعني مباشرة غياب كثير من الحقوق ومنها غياب حق
الشعوب في اختيار حكامها وفي تقرير مصيرها، وحق كل مكونات المجتمع في
العدالة والمساواة أمام إدارات بلدهم وأمام المحاكم، وفي التمتع بمساواة
بكل شروط الحياة الإنسانية.
3- الخطوة الثالثة الأساسية هي التضامن من أجل استغلال التقدم العلمي
والتقني الذي تحقق للإنسانية خلال القرن العشرين بصفة خاصة لتوجيه نتائجه
واكتشافاته لما يضمن تحقيق الشروط التي تلزم لكرامة الإنسان وحياته وصحته
وتغذيته. وسيكون ذلك مضادا لاستخدام التقدم العلمي لما يسمح، على العكس من
ذلك، بالقضاء على الحياة الإنسانية أو بإلحاق أفظع الأضرار بها.
4- الشرط الآخر الذي ترتبط به كل الشروط السابق هو بناء المجتمع تبعا لما
نسميه هنا منطق حقوق الإنسان. ونقصد بهذه التسمية النسق الفكري الذي تعبر
عنه مجموع البنود التي يتشكل منها نص الميثاق العالمي حول حقوق الإنسان.
تتعلق حقوق الإنسان تبعا للمنطق المتضمن في الميثاق المتعلق بها، بالإنسان في شموليته وفي جميع مستويات حياته.
تتعلق حقوق الإنسان كذلك بالإنسان من حيث هو قيمة أسمى بغضّ النظر عن
الاختلافات القائمة بين أفراد النوع الإنساني وكذلك بين المجتمعات
والحضارات والثقافات الإنسانية.
تقوم حقوق الإنسان، من جهة أخرى،على علاقة جدلية بين الشخص الإنساني
الفرد والمواطن المندمج في الحياة المجتمعية. فالمواطن هو الذات التي تتعلق
بها الحقوق الواردة في الميثاق العالمي ، وهو كذلك الذات التي يكون عليها
الالتزام بالواجبات التي تنبثق عن تعاقدات المجتمع الذي تعيش فيه، من حيث
إن الواجبات هي تطبيق حقوق الإنسان على الغير.لقد تطور مفهوم المواطن في
نفس الوقت الذي تطور فيه مفهوما الحق والتعاقد المجتمعي. وهكذا، فإن الشخص
الإنساني الفرد المواطن هو الذي يشكل عمق انطباق حقوق الإنسان ومعيار ذلك
الانطباق الذي بقدر ما يكون التقدم في الطريق المؤدي إليه يكون ذلك علامة
على إمكانية قيام مجتمع حقوق الإنسان في كل جماعة بشرية.
منطق حقوق الإنسان، كما نراه، هو من منظور آخر، منطق سيادة الحريات في
المجتمع، وهي حريات متعددة بتعدد مجالات الفعل الإنساني. فيقدر ضعف وجود
الحريات في المجتمع تبتعد إمكانية تحقق مجتمع حقوق الإنسان.
منطق حقوق الإنسان هو، كذلك، منطق الاعتراف بالاختلاف بوصفه معطى بشريا
مثل معطى وحدة الإنسانية الذي يجعل الحقوق المعلن عنها في الميثاق العالمي
تهم الإنسانية بأكملها.والسياق المؤطر لتلك الحقوق هو سيادة التسامح على
الصعيد الديني والفكري والإيديولوجي. فمنطق حقوق الإنسان يقتضي الاعتراف
بحقّ الآخر في الاختلاف على جميع هذه الأصعدة. وما يضاد هذا الشرط هو سيادة
الصراعات التي تدمر الحياة الإنسانية بدل منح الإنسان في الذات وفي الآخر
الشروط التي تكون فيها الحقوق محفوظة من كل عبث بها.
يلتقي منطق حقوق الإنسان مع المجتمع القائم على مبدأ التعاقد الذي يكون
إطارا يتحد أعضاؤه على احترام الحقوق الواجبة. والمجتمع التعاقدي هو في نفس
الوقت المجتمع الديمقراطي، وهو ما يجعلنا نقول إن منطق حقوق الإنسان هو في
الوقت ذاته منطق الديمقراطية في المجتمع.
إن هذه الشروط إذا تحققت بفضل التضامن الدولي حولها هي الكفيلة بجعل
مجتمع حقوق الإنسان ممكنا، لا من حيث الإمكان الذهني فحسب، بل من حيث
الإمكان الذي يصبح واقعا يعبر عن نضج الإنسانية ووحدتها ويجعلها مطابقة
لذاتها من حيث هي قيمة أسمى.يظهر الأمل في إمكانية قيام مجتمع لحقوق
الإنسان مع كل مجهود تقوم به المنظمات الدولية لنشر ثقافة حقوق الإنسان، بل
وجعلها واقعا قائما في حياة شعوب العالم المعاصر.