إمبـراطـورية الأدلجـة
هل نعرفـها حقـاً..
2010/08/16
مطاع صفدي
الضلال لا يقع ضحيته الأفراد
فقط، بل الأمم والحضارات كذلك. فمن المستبعد القول أن شعباً بكامله قد ضلَّ
طريقه، وأنه وقع فريسة احتيال أو خداع أو تآمر. ومع ذلك فالتاريخ طافح
بأمثلة الضلالات الكبرى التي انساقت فيها بعض الأمم والحضارات. وقد دفعت
أثماناً باهظة لأخطائها. وربما أودت بها جملةً وتفصيلاً. والأمثلة الحيّة
الأقرب إلى عصرنا، هي كالنازية على سبيل النمذجة الإطلاقية. فالأمة
الألمانية المعروفة بتفوقها في مختلف الميادين الحضارية، حتى على أقرب
أقرانها من أمم الغرب، انحرفت في تيار ضلالها الكبير ذاك. لا يمكن القول
أنها كانت مخدوعة فحسب، وأنها استفاقت فجأة على حقيقتها بـ (فضل) هزيمتها
العسكرية الساحقة. فقد التحقت ألمانيا كلّياً تقريباً، بجماهيرها وطبقاتها
المتوسطة والمثقفة، وراء حلم ألمانيا فوق الجميع. وأن العرق الجرماني يحق
له السيطرة على بقية عروق البشرية، تحت وطأة النخبة والفرادة لمزايا الجر
من الألمان وحدهم.
اليوم يتم مراجعة القدرة
الهائلة التي تنطوي عليها الأيديولوجيا الشعبوية في حدّ ذاتها؛ فلم يجر
الكشف عن أسرارها التكوينية الرهيبة إلا بعد أن امتلأ القرن العشرون
بتجاربها التدميرية الهائلة. ومع ذلك إذا كان (عصرها التجريبي) ذاك قد مضى
وانقضى، إلا أنها قد تبلغ عصرها الذهبي راهنياً مع احتلالها لضمائر مليارات
البشر العائدين إلى معابد الأديان وأشباهها. وفي هذه الحالة هل يجوز الحكم
أن الأيديولوجيا على خطأ دائماً. هذا مع التمييز طبعاً أن الأيديولوجيا قد
لا تكون نتاج صناعة إرادية في أصلها. فهي نوع من آلية شكلانية تستخدم
أفكاراً معينة، قابلة لتحويلها إلى معتقدات بسيطة، تستهوي تطلعات الجمهرات
الأوسع، وقد تطرح على هذه الجمهرات حلولاً جاهزة سريعة لبعض مشكلاتها
الحيوية المستعصية. فالناس العاديون مساقون عادة بأدلجات باطنية لا يعونها؛
يرددون الكلمات والأفكار الشائعة في أوساطهم، ويطلقون الأحكام عينها على
الأفعال والحالات المشتركة فيما بينهم، بحسب المعايير المتواترة على ألسنة
الجميع حولهم. فليست الأدلجة محصورة فقط بتنميط الأفكار الكلية الكبرى،
والتحشيد الجماهيري الأوسع وراءها. هنالك دوافع حيوية عميقة مفروزة في
التكوين العضوي النفسي للأفراد والجماعات للتعلق بالمعتقدات الشائعة، التي
تردّ على تساؤلاتهم العفوية، وتمنحهم الأجوبة التي يشتهونها، دون أن تكون
حاملة فعلاً لحلول الصحيحة الواقعية.
هذه الخصائص الثابتة في طبيعة
الإنسان، هي التي تشتغل عليها صناعة الأيديولوجيا الكبرى المسيَّسة
لمجتمعات كاملة، بحسب نمذجات معينة من تنميط التفكير، والممارسة وفي
الثقافة التاريخية، فإنه ليس ثمة من حضارات عظمى، ومن سلطات حاكمة محتكرة
لقيادتها، إلا وهي مصحوبة بالتسويغ الأيديولوجي لدى صنَّاعها وأتباعها،
لمجمل انجازاتها، وبالتالي لصياغة وحدتها المفهومية، في عين ذاتها؛ وفي
ثقافة الفلسفة أنها هي الساعية، عبر مختلف مدارسها ومذاهبها، إلى إعادة
الفصل بين تفكير الفكر، وتفكير الأدلجة. ذلك أنها هي وحدها المتمسكة بحصتها
من السؤال فيما حولها، وإزاءَ كل ما هو جاهز التشكيل والمعقولية المباشرة
معاً.
ومن هنا قيل أن الأمم لا تفكر،
وإنما تعتقد أو تؤدلج وهي مضطرة أن ترسم تطورها وفق الانتقال بين (عقيدة)
وأخرى. لكن هذه النقلة لا تحدث ولا تتحقق في الزمن الحضاري، إلا عندما
يتمكن الفكر من إحداث (القطيعة المعرفية) بين أجوبة الماضي العجوز وبين
أسئلة المستقبل الفتيّ غير المستنفد بعد. لكن الخطر الذي يتهدد القطيعة
المعرفية، هو في تحولها إلى مجرد جسر عابر بين أيديولوجيا زائلة وأخرى
آتية. وهذا ما صار واضحاً بصورة خاصة في الانتقالات السريعة والمفاجئة
للمنظومات الفكرية (العقيدية) التي تتبناها الفئات المثقفة في سياق
التطورات السياسية لدول العالم الثالث. فقد شهدت منعطفات المرحلة
الاستقلالية للكليانات العربية الناشئة، موجاتٍ من الأفكار (الثورية)، تخلق
فيما بينها معارك حول الشعارات ومنهجياتها أكثر حدّة وفعالية مما تؤثر في
إنتاج متغيرات جدّية في أوضاع شعوبها البائسة؛ في حين يعتبر الغرب أنه
تجاوز عصر المراهقة الفكرية، مستوعباً دروس تجاربه المرة مع أيديولوجيات
القرن العشرين. فقد خفّت حماسة أجياله الجديدة للأفكار الكلّية الباهرة.
أصبح من الصعب على النخبة الثقافية الوقوعَ مجدداً في أفخاخ جنان الأوهام
الموعودة. ليست اليساريات القديمة هي المتروكة وحدها في متاحف التاريخ. ها
هي كذلك ليبراليات الرفاه الكاذب، تعصف بها أزمةُ الاقتصاد المالي
الافتراضي الراهنة. فالمجتمعات المخدوعة بفقاعات حداثة المظاهر الزائفة،
وما يصاحبها من تنميط أساليب الحياة الفردية اللاهية بألاعيب الإعلام
الصناعي الاستهلاكي، هي الباحثة اليوم عن الأسباب الحقيقية لانهيار وعيها
النقدي المتقدم، تحت سطوة آليات التضليل الذاتي، كانعكاس لا يقاوم، لقوة
التضليل العام المنظم من قبل الخبرات العلمية المتفوقة المحتشدة في خلفيات
أحدث صناعة وأخطرها، اسمها صناعة العقول، ومشتقاتها المنشغلة في تصميم
وتصدير نماذج السلوك الإنساني، وصياغة الأذواق الفردية، وتحديد موضوعات
ميولها ورغباتها، والتدخل حتى في أخصّ حميميات إنسان العصر، كما تنحتُها
وتحدّد ملامحَها أساليبُ ترويج البضائع. ومعها ترويجُ نماذج البشر.
هكذا أصبح العالم العربي
والإسلامي حقلَ تجارب للأفكار المعلّبة، سواء منها الوافدة مع موجات الغزو
الاستعماري أو المصنوعة داخلياً بإرادة وتصميم بعض النخب الباحثة عن مراكز
قوى في أوساطها. لكن التطور الأعلى الذي بلغته هذه الظاهرة أصبح هو الطابعَ
المميز لذروة الغزو الأمبريالي، المرتدّ بأعنف قواه العسكرية والسياسية
والعلمية على الشرق، فيما يشبه صراع المصير الأخير لقصة التفوق الغربي على
بقية العالم. وفي هذا السياق تنقلب الحرب البوليسية والعسكرية ضد الإرهاب
إلى حروب أيديولوجية أولاً بامتياز، ضد مختلف الثقافات الوطنية المغطاة
بعباءة الإسلام، كدين وحضارة معاً.
معامل السلاح، مجاورة لمعامل
تصنيع (الأداليج) المصدَّرة إلى ما وراء البحار. حتى تبدو شعوب الشرق كأنها
عزلاء من أية مقاومة فكرية أو عقيدية، معرضة فقط للانصباب في قوالب
التعليب، المصدِّرة لتحولاتها الطارئة عليها، من فوق رؤوسها، وغير النابعة
من ذاتيتها. فقد أصبحت عواصم الشرق وأريافه بخاصّة بمختلف التسميات من
جمعيات وبعثات ومؤسسات تحمل عناوين شتى للإصلاحات الاجتماعية؛ ولجان حقوق
الإنسان والمرأة والطفل.. ومعها سيول جارفة من الندوات والمؤتمرات وحلقات
البحث..إلخ. هناك بنود واضحة ثابتة في ميزانيات الدفاع والخارجية الأمريكية
وبعض الأوربية، للإنفاق على أسراب هذا النوع من الجراد المثقف الذي يغزو
صحارى العرب والإسلام ومدنها الهجينة. مما يدفعها إلى الانغلاق أكثر وراء
قلاع عصبياتها المتوارثة.
هل نقول بعد هذا، أن شعوب الشرق
لم تعد تستطيع التفكير لذاتها وبذاتها. وربما فقدت طلائعُها الواعية حسّ
المبادرة في أخص شئون مجتمعاتها. فانعدام الحريات أفقد هذه الطلائع ليس
القدرةَ على المعارضة ضد أنظمتها الحاكمة فحسب، بل جعلها أشبه بالقطعان
الشاردة الباحثة عن مصادر رزقها اليومي، حيثما تنحني الرؤوس لالتقاط
الأعشاب اليابسة، دون أن يتاح لعيونها التطلع إلى أعلى، نحو آفاق التحرر
الحقيقية. فالقمع السياسي الأهلوي المستمر، والمتنامي والمترافق مع الغزو
الأمبريالي المستديم والمتنوع بأسلحة القوة والأدلجة معاً. أصاب أخيراً
مقتل الإبداع الإنساني، بحرمان النهضة من صناعة عقلها الحضاري؛ أمست
مجتمعاتها ممنوعة من وعي مشاكلها، قبل أن تكون عاجزة عن إيجاد حلولها.
انعدام حرية التعبير المتوارث من جيل إلى آخر، عطل فعاليات المؤسسات
العلمية والإصلاحية، بدءاً من تزوير الجامعات بأشباهها من معاقل الجهل
والتجهيل المدعوم بالشهادات والألقاب الأكاديمية.
قد ينقضي عصر الأيديولوجيات
الكبرى، لكنه يحلّ محلَّه عصرُ الأداليج الصغرى، المتوالدة من بعضها كالفطر
المسموم، والآخذة بعقول وأذواق وسلوكيات الأجيال الصاعدة، دونما أية قدرة
نظامية على رد الأذى العام، أو في الأقل، الكشف عن بُؤر فبركاته المحلية.
فعوامل التضليل الذاتي ومؤسساته المكشوفة، أصبحت تضاهي أشباهها المورّدة من
وراء البحار.
قد يمكن القول أنه في مناخ فوضى
الأضاليل العابثة بالحدود الدنيا من بقايا ثوابت العقل العربي النهضوي،
فقد تمخّضت معارك الصدق والكذب، الأصالة والتزوير، التي خاضتها
الأيديولوجيات الانقلابية ضد بعضها، تمخضت عن تركيز حصيلة إيجابية صامدة،
هي المتجلية في حركات الثورة الدائمة التي تلتزمها جبهات المقاومة العربية
والإسلامية المتوزعة من شواطئ الأبيض المتوسط إلى العمق الآسيوي الإسلامي.
هذه الثمرة الناضجة والمتبقية من العصر (الثوري)، لعلّها تسجل خطوطاً راسخة
في صفحات النضال الشعبي الأصيل، لكنها قد تكون مقتصرة حتى الآن على حسابات
الأرباح والخسائر في الحقل السياسي وحده؛ أما الحقل الأيديولوجي فهو مازال
ساحة مفتوحة لفوضى الأضاليل المعلبة. فالأمبريالية تراهن على التعويض عن
خسائرها المحدودة في إخفاق مشاريعها الاستعمارية المتلاحقة، سياسياً وشبْه
عسكريٍ كذلك، بنوع من ماكرو استراتيجية عظمى شمولية، في استبدال أمم العرب
والإسلام بقطعان نوافل مجتمعات الاستهلاك والفساد البنيوي المعمم. تلك هي
الوسيلة الشيطانية الأخيرة للالتفاف على المشروع النهضوي من داخل خلاياه
الحيوية عينها، وإجهاض المقاومة الشعبية من ثمراتها المتوقعة، المبشرة
بحتمية النهضة المقاومة الشاملة، فهي المعارك القادمة الأشد ضراوة بكل
المعاني من كل سابقاتها، لأنها الناهضة بأسلحة الحقيقة وحدها، متى أصبحت
عقيدةُ الحقيقة هذه أقوى من عصور الأداليج المتفانية فيما بينها.