** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 حركيّة التأويل في التراث النقديّ الموازنة للآمدي أنموذجا

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
بن عبد الله
مراقب
مراقب
avatar


التوقيع : حركيّة التأويل في التراث النقديّ  الموازنة للآمدي أنموذجا Image001

عدد الرسائل : 1537

الموقع : في قلب الامة
تعاليق : الحكمة ضالة الشيخ ، بعد عمر طويل ماذا يتبقى سوى الاعداد للخروج حيث الباب مشرعا
تاريخ التسجيل : 05/10/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 8

حركيّة التأويل في التراث النقديّ  الموازنة للآمدي أنموذجا Empty
27092012
مُساهمةحركيّة التأويل في التراث النقديّ الموازنة للآمدي أنموذجا

حركيّة التأويل في التراث النقديّ

الموازنة للآمدي أنموذجا



الحبيب بو عبدالله

* على سبيل التقديم:

يعدُّ كتاب الموازنة للآمدي ( ت
370 هـ ) من الكتب والمصادر الأمهات في تراثنا النقدي فهو علامة بارزة
وفارقة في تاريخ النقد الأدبي ، أسهم به صاحبه في القرن الرابع هجريا في
تأسيس أصول الاتجاه التطبيقي في نقد الشعر عند العرب. ولقي كتاب الموازنة
من الحظوة والشهرة ما يؤكد قيمته ومنزلته فقد أثار الكتاب بمنهجه وقضاياه
وأسلوب صاحبه في الموازنة، اهتمام النقاد فأولوه من فائق العناية ما يستحق
درسا وتحليلا أو نقدا ومناقشة . ولسنا نروم في هذا المقام الكشف عن مختلف
القضايا النقدية التي عالجها الدارسون المعاصرون من خلال الموازنة فكثرتها
تحول دون إحصائها. إن الذي يعنينا هو الإشارة إلى أن ذلك المتن الشعري في
الموازنة لا سيما ما تعلق بشعر أبي تمام وكيفية تعامل الآمدي معه شرحا
وتفسيرا وتأويلا بدا مبحثا لا يزال في حاجة إلى مزيد الدرس رغم أهمية بعض
الدراسات النقدية، القليلة التي تطرقت إلى الموضوع، بصفة متفاوتة ومن زوايا
نظر مختلفة. فقد بدت لنا تلك الأبيات الغوامض من شعر أبي تمام والتي وصفت
بالإشكال والاستغلاق والإبهام فلا يدركها الذهن إلا بعد إتعاب الفكر وكد
الخاطر، قد شكلت متنا شعريا أجرى الآمدي على بعضها آلية الشرح حينا وآلية
التأويل حينا آخر، واستساغ بعضها فبرره، واستهجن بعضها الآخر فرفضه ونفر
منه.

وكان المعنى في هذا الشعر قضية
القضايا، وصف من خلاله الآمدي المعركة بين أنصار البحتري ممن يفضل ” حلاوة
اللفظ وحسن التخلص ووضع الكلام في موضعه، وصحة العبارة وقرب المعاني
وانكشاف المعنى وهم الكتاب والأعراب والشعراء المطبوعين، وأهل البلاغة”
وبين أنصار أبي تمام ومن يفضل ” غموض المعاني ودقتها وكثرة ما يورده مما
يحتاج إلى استنباط وشرح واستخراج . وهؤلاء أهل المعاني والشعراء وأصحاب
الصنعة ومن يميل إلى التدقيق وفلسفي الكلام”.

و كما أثارت هذه الخصومة بين
القديم والمحدث في الشعر عديد القضايا النقدية المتصلة بالطبع والصنعة ،
واللفظ والمعنى ، والغلو والمبالغة فإنها أثارت أيضا قضايا أخرى تتصل
بالفهم والتقبل والشرح والتأويل .. فكثيرة هي الأبيات التي توشحت بسحر
الغموض وفن البديع فخفي معناها واحتجب ، واستشكل أمرها عند النقاد ولا يكاد
يظهر سرها ويبين غرضها إلا بعد طول ممانعة ومماطلة وطول تنقيب وتنقير.

ولا يمنع ذلك النقاد من الاختلا
ف في أمرها بين من يتوسل لها التأويل القريب أويتمحّل لها التأويل البعيد،
وبين من يردها ويرفضها لأنها مما يمجها الذوق لخروجها عن سمت العرب في
صناعة الشعر.

لذلك سنحاول أن ننظر في التأويل
وكيف أنه مثل آلية قرائية لفهم المعنى / المعاني في الشعر القديم وأثار من
قضايا الفهم والتقبل وصراع التأويلات ما هو حقيق بالتتبع والاستقصاء..

ويقودنا في ذلك كله مقصد أساسي هو الكشف عن وضع التأويل في تراثنا النقدي ومدى حركيته وفاعليته في التعامل مع الشعر.

التأويل و قضاياه في “الموازنة”: لحظة المحاورة

1- في مصطلح التأويل:

اقتصرنا في ضبط الدلالات
اللغوية والاصطلاحية لمفهوم التأويل على لسان العرب. فقد عدد ابن منظور
للجذر اللغوي ( أ،و،ل) جملة معان يمكن حصرها في ما يلي :


  • أول : الأول، الرجوع، آل الشيء، يؤول أولا ومآلا، رجع، وأول إليه الشيء رجعه.
  • وأول الكلام وتأوله: دبره وقدره، وأوله وتأوله ، فسره.
  • قال ابن الأثير: هو من آل الشيء يؤول إلى كذا أي رجع وصار إليه.
    والمراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل
    لولاه ما ترك ظاهر اللفظ. ويقال ألت الشيء وأؤوله إذا جمعته وأصلحته، فكان
    التأويل جمع معاني ألفاظ أشكلت بشكل واضح لا إشكال فيه.
  • التأوّل والتأويل تفسير الكلام الذي تختلف معانيه ولا يصح إلا بيان غير لفظه.
  • التأويل المرجع والمصير مأخوذ من آل يؤول إلى كذا أي صار إليه. وأولته صيرته إليه.
  • وآل ماله يؤوله إيالة إذا أصلحه وساسه. والائتيال: الإصلاح والسياسة.

تستوقفنا من هذه التحديدات بعض
المعاني المفيدة لغويا في ضبط مفهوم التأويل والكشف عن علاقتها بدلالته
الاصطلاحية أيضا. والطريف في هذه الدلالات اللغوية الاشتقاقية تأكيدها على
أن التأويل في ماهيته وجوهره حركة.

فأول هذه المعاني التي تدل
عليها كلمة التأويل هو الرجوع إلى أصل الشيء قصد الكشف عن معناه ومغزاه.
ومتى اقترن الفعل بالكلام تمحضت الدلالة فيه إلى حسن التدبير والتقدير وما
ينتج عن ذلك من تفسير المبهم والغامض فيه بتوضيحه وبيانه. ثم تتدرج الدلالة
نحو وجه اصطلاحي في العبارة مفاده أن التأويل تجاوز ظاهر اللفظ إلى باطنه
لوجود دليل يسمح بهذا التجاوز فيكون التأويل بهذا المعنى “حركة ذهنية
عقلية” تقوم على استنباط المعنى الخفي الثاوي في باطن النص والمحتجب وراء
ظاهر اللفظ والمسوغ في ذلك الدلائل أو القرائن التي تسمح بهذا العبور من
الظاهر إلى الباطن ومن الحقيقة إلى المجاز ومن الغامض إلى البين الواضح
كشفاً عن حقيقة المراد.

فالتأويل إذن هو حركة رجوع إلى
الأصل، أو ترجيع على حد تعبير الجرجاني في تعريفاته. وكأن التأويل بهذه
الحركة العكسية يحاكي ويضاد -في آن واحد- فعل اللغة في أصل نشأتها زمن
البدايات والأصول وهي تحاول عبر فعل التسمية امتلاك الوجود، وذلك بإطلاق
الأسماء على الأشياء فيغدو الوجود تبعاً لذلك أليفاً بيّناً واضحاً ناطقاً
بالمعنى بعد أن كان غامضا موحشا يلفه الصمت والسكون.

كذا هو النص الشعري لحظة يكون
متسربلاً بالغموض والغرابة والإبهام إلى حد الوحشة، فيكون شبيهاً بالوجود
في صورته الأولى قبل أن تنطقه اللغة بأسمائها وتحول غرابته إلى ألفة، غير
أن النص على خلاف هيئة الوجود الأولى، وباعتباره كياناً لغوياً في الأصل،
يكون كياناً ممتلئاً بالمعاني المتعددة زاخراً بالدلالات المتنوعة، فلا
نستطيع حينئذ امتلاكه والظفر بتلك المعاني والدلالات الخبيئة فيه إلا بفك
التسمية وكشف العلامات والعودة/الرجوع بالعلاقات بين الدوال والمدلولات
والأسماء والمسميات إلى هيئتها الأصلية في الكلام… ولا يكون ذلك إلا بفعل
التأويل.

2- التأوّل / التأويل عند الآمدي :

استعمل الآمدي في خطابه النقدي
الجذر اللغوي (أ.و.ل) وصاغ منه عديد المشتقات، فاستعمله في صيغته المصدرية
المتداولة مفردة وجمعاً (تأويل/تأويلات)، وراوح بينها وبين صيغة (تأوّل) في
العديد من المواطن. كما أنه استعمل الفعل آل في المضارع بدلالته اللغوية
بمعنى الرجوع، وصرف الفعل تأول مسنداً إلى المفرد والجمع. وصاغ منه اسم
الفاعل في صيغة الإفراد (متأوّل). فهذا التنوع في الصيغ الصرفية (المصدر،
الفعل، اسم الفاعل) التي استخدمها الآمدي في خطابه يكشف عن وجه من وجوه
حركية هذا المصطلح. فهو تشكل في تلك الصور اللغوية التي تؤكد مرة أخرى
دلالة الحركة في التأويل.

وسعياً منا إلى الإفادة من بعض
مستويات الدراسة المصطلحية، حاولنا أن نرصد حضور مصطلح “التأويل” وصنوه
“التأوّل” وبقية المشتقات (الفعل/اسم الفاعل ) في كتاب الموازنة، فاكتفينا
في هذا المقام بالمستوى الوصفي.

فقد استعمل الآمدي في موازنته مادة (أ. و. ل) بتلك الصيغ الاشتقاقية التي ذكرنا ثماني وثلاثين [38] مرة، توزعت في أجزاء الكتاب

إن قيمة هذا الجدول الإحصائي
تكمن في ما يقدمه لنا من معطيات عن حضور مصطلح التأويل وبقية المشتقات في
موازنة الآمدي. فنلحظ استعماله بكثافة واضحة في الجزء الأول، وبالمقابل
انخفض تواتر ذكر المصطلح بصورة جلية في الجزأين الآخرين إلى حد الغياب
غياباً تاماً في القسم الثاني من الجزء الثالث. فبم نفسر هذا التفاوت
الكبير في حضور مصطلح التأويل وإجرائه آلية في تفسير الخطاب الشعري وإنتاج
المعنى فيه؟؟

إن تفسير هذا التفاوت يرتبط في
تقديرنا بمنهج الآمدي في الموازنة وطريقته أو “استراتيجيته” في عرضها. فقد
سلك في بناء كتابه منهجا طمح من خلاله أن يظهر بصورة الناقد المحايد الذي
يطمع في تحقيق الإنصاف في مسائل الخلاف بين الخصمين حول شاعرين كبيرين لكل
منهما طريقته ومذهبه في صناعة الشعر.

لأجل ذلك تميز الجزء الأول من الموازنة
بطابع نظري تطبيقي فاشتمل على جل القضايا النقدية التي آثارها الكتاب مثل
السرقة والبديع وأخطاء اللفظ والمعنى..، وهي قضايا دخل الآمدي في سجال
وجدال في شأنها مع أنصار أبي تمام بصورة خاصة. فهذا
الاختلاف في مثل هذه القضايا وما اقتضاه من جدال وحجاج هو الذي يفسر هذه
الكثافة في استعمال التأويل، ليس مجرد لفظ أو عبارة يجري بها الكلام أو
الخطاب، وإنما منهج في القراءة وآلية في الفهم وأداة في الجدال والاحتجاج.

أما في الجزأين الثاني والثالث من الموازنة
فقد غلب عليهما التمثيل بالشعر على حساب النقد والتعليل واقتصر الآمدي على
ذكر شواهد من شعر الطائيين في عديد المعاني والمواضيع والأغراض، ثم
التعليق عليها يسيرا قصد إبراز تكافئهما أو أفضلية أحدهما على الآخر.

لذلك تقلص حضور التأويل لفظا وعبارة وممارسة وإجراءً، بصورة واضحة إلى حد الغياب تماماً في القسم الثاني من الجزء الثالث.

أما عن عبارتي تأويل وتأول فقد استعملهما الآمدي بصفة متقاربة جداً. فقد تواتر لفظ التأويل اثنتي عشرة مرة في الكتاب، وتواترت عبارة التأوّل عشر مرات، مما يدل على أن الآمدي كان يراوح بينهما في الموازنة
على سبيل الترادف في المعنى والدلالة. وهذا ما أشار إليه ابن منظور في
معجمه لحظة جمع بين العبارتين فقال: “التأوّل والتأويل تفسير الكلام الذي
تختلف معانيه ولا تصح إلا ببيان غير لفظه”

فهما يتفقان إذن في الدلالة على
التفسير والإبانة ورفع ما يعلق بالكلم من إشكال في اللفظ، أو غموض في
العبارة كشفاً عن وجوه المعنى التي يحتملها الكلام وفق دليل معين..

ونلفي لدى عبد القاهر الجرجاني
أيضا تأصيلا لغويا للتأول/التأويل ورد في سياق مخصوص من الحديث عن التشبيه
وما يتعلق به من “الاشتراك في الصفة”، يقول: “وليس ههنا عبارة أخص بهذا
البيان من التأوّل، لأن حقيقة قولنا “تأولت الشيء” أنك تطلبت ما يؤول إليه
من الحقيقة أو الوضع الذي يؤول إليه من العقل لأن “أولت وتأولت، فعلت
وتفعلت من آل الأمر إلى كذا يؤول إذا انتهى إليه المآل والمرجع..”.

ورغم هذا الترادف بين
العبارتين، فإننا نلحظ تداولا واستخداما لعبارة التأويل في الخطاب النقدي
القديم (12) أكثر من عبارة التأوّل، ولعل صيغتها الصرفية (تفعيل) وما دلت
عليه من معنى الحركة وخفة جريانها على اللسان واقترانها باستمرار بعبارة
التفسير(=تفعيل)، يبرر في زعمنا انتشار عبارة التأويل وانحسار لفظة
التأوّل.

ولعل دوران العبارة في فنون
وعلوم شتى من المعرفة على مسار التاريخ يَسَّرَ لها أن تترقى في مراتب
التجريد الاصطلاحي لتستقر بذاتها لاحقاً مصطلحاً أوحد في الخطاب النقدي

3- تجليات حركية التأويل في الموازنة :

أ- التأويل وإشكال المعنى:

عرض الآمدي في مقدمة موازنته مذاهب النقاد في الشاعرين أبي تمام والبحتري.
وما يستوقفنا في هذا الكلام هو تلك الصفات التي وَسَمَ بها شعر كلّ منهما
تأكيداً على الاختلاف بينهما في صناعة الشعر، وما يستتبع ذلك أيضا من تباين
في مدى حاجة كل نمط من الشعر إلى الشرح والتأويل، يقول: “ووجدتهم فاضلوا
بينهما لغزارة شعرهما وكثرة جيدهما وبدائعهما ولم يتفقوا على أيهما أشعر؟
وذلك لميل من فضل البحتري ونسبه إلى حلاوة اللفظ وحسن التخلص ووضع الكلام في موضعه وصحة العبارة وقرب المعاني وانكشاف المعنى،
وهم الكتاب والأعراب والشعراء المطبوعون وأهل البلاغة، وميل من فضل أبا
تمام ونسبه إلى غموض المعاني ودقتها وكثرة ما يورده مما يحتاج إلى استنباط
وشرح واستخراج، وهؤلاء أهل المعاني والشعراء وأصحاب الصنعة، ومن يميل إلى
التدقيق وفلسفي الكلام..”

إن صفات الشعر المنسوبة إلى أبي تمام والبحتري تبرز التقابل بين مذهبين أو طريقتين في صناعة المعنى وإبداعه في الشعر .

فمذهب البحتري يتأسس على “قرب
المعاني وانكشاف المعنى” ولذلك فضله أهل الطبع ومن يميل إلى الوضوح والبيان
في الشعر جرياً على سنة الأوائل واتباعاً لسمت العرب في الكلام.

وأما مذهب أبي تمام فإنه يقوم
على “غموض المعاني ودقتها وكثرة ما يورده مما يحتاج إلى استنباط وشرح
واستخراج” ولذلك فضله أهل المعاني وأصحاب الصنعة ومن يميل إلى الدقيق
اللطيف من الكلام، مما يستدعي إعمال الفكر وكد الخاطر لشرحه وفهمه..

وإذا كان الشرح يشترك مع
التفسير في دلالة الكشف والبيان، فإن الاستخراج والاستنباط عمليتان ذهنيتان
تنهضان على العبور من ظاهر الكلام إلى باطنه وفق أدلة وقرائن إبانة للمعنى
الخبء وكشفا للمراد. وهذا هو التأويل.

فالآمدي إذن جمع بين الشرح والتأويل على سبيل التظافر والتكامل في التعامل مع نمط من الشعر وصفه بالغموض والدقة واللطافة في المعنى.

ولعل شغف أبي تمام بالغوص على لطيف المعاني ودقيقها وولعه بالبديع وفنونه يمثلان أبرز الخصائص التي دفعت بشعره إلى دائرة الغموض والإشكال والاستغلاق..

وهو شغف أو “شره” شبيه بالشهوة
الآسرة تستبد بالشاعر فتصير له عادة أو طبيعة، وإن كانت في مذهب الشعر صنعة
وتكلفاً وحملاً للنفس على ما لا يُطاق، فيكون الشاعر كالناحت من نفسه أو
كيانه معنى أو معاني أبكارا مما قد يشرف به على الهلاك.

أما البحتري
فقد تميز بجودة اللفظ واستواء الشعر وانكشاف المعنى، لذلك كان كثير الجريان
على اللسان، سريع العلوق بالقلوب والأذهان.. فهو في معظمه لا يحتاج إلى
إجهاد الفكر وكد الخاطر للفهم. من هنا كان المعنى إشكالا في شعر أبي تمام بصورة خاصة. ولما كان وضع المعنى في شعره على هذه الصورة من الغموض والإبهام لم يتردد الآمدي في الإقرار بأن فهم هذا الشعر لا يتحقق إلا بالشرح والتأويل .

إن المعنى في شعر أبي تمام
غالباً ما يكون خفياً دقيقاً باطناً غير ظاهر، مخبوءاً في قاع النص،
محتجباً وراء بلاغة العبارة وكثافة الصورة. لذلك لم يكن الأمر هيناً مع
الآمدي في التعامل مع هذه الأبيات الغوامض العويصة المعنى والغريبة اللفظ
والمعقدة التركيب…

فانطلاقاً من مرجعيته النقدية
المحافظة والتزامه بمقاييس عمود الشعر، كان موقفه من هذه الأبيات في أغلب
الأحيان، النقد والرفض بنعت المعنى واللفظ فيهما بالخطأ والفساد، بعد أن
أسقط منها “كل ما احتمل التأويل ودخل تحت المجاز”. لقد أراد الآمدي بهذا
الموقف أن يبدو في صورة الناقد المنصف الذي يرفض موقف المتعصبين لأبي تمام،
والذين أفرطوا في تفضيله “وقدموه على من هو فوقه من أجل جيده وسامحوه في
رديئه، وتجاوزوا له عن خطئه وتأولوا له التأوّل البعيد فيه”. كما يرفض موقف
أولئك المنحرفين عنه الذين قابلوا الإفراط بالإفراط “فبخسوه حقه واطرحوا
إحسانه ونعوا سيئاته وقدموا عليه من هو دونه، وتجاوز بعضهم ذلك إلى القدح
في الجيد من شعره وطعن فيما لا مطعن عليه فيه”.

فكيف تعامل الآمدي مع فساد المعنى في شعر أبي تمام؟

ما هو مدى حضور التأويل منهجاً في القراءة والفهم تسويغاً وتبريراً لمعنى أو رفضاً وإقصاء لمعنى آخر؟

وما هي أبرز الآليات التي استدعاها الآمدي أثناء تأويل المعنى في الشعر؟

يعسر في الحقيقة استقصاء مختلف
المعاني التي خطأ فيها الآمدي أبا تمام والبحتري، لذلك رأينا في هذا المقام
أن نكتفي باختيار أمثلة راعينا فيها التنوع حتى تنهض بوظيفتها في الدلالة
والتمثيل على إشكالية العلاقة بين المعنى والتأويل في كتاب الموازنة.

وآثرنا أن ندرس هذه العلاقة
انطلاقا من ظاهرتين: ظاهرة “صراع التأويلات” وظاهرة “تعدد المعنى”. وليس
يخفى علينا مدى التكامل والتداخل بين الظاهرتين، غير أننا انتهجنا الفصل
بينهما في التحليل إجراءً منهجياً قصدنا من ورائه التأكيد والتنصيص على
أهمية بعض قضايا التأويل في النقد العربي القديم.


  • المعنى وصراع التأويلات:

لقد كشف الآمدي في هذا الباب عن
خطته في استقصاء خطأ المعنى في شعر أبي تمام فقال: “وأنا أبتدئ بالأبيات
التي ذكرت أنّ أبا العباس أنكرها، ولم يقم الحجة على تبيين عيبها وإيضاح
الخطأ فيها، ثم أستقصي الاحتجاج في جميع ذلك، لعلمي بكثرة المعارضين ومن لا
يجوز على هذا الشاعر الغلط ويوقع له التأوّل البعيد: ويورد الشبه
والتموية…”.

وليس يخفى ما في هذا الكلام من
حرص الآمدي على إقامة الحجة في الطعن والإنكار، لا سيما وأنه يقوم شعر شاعر
له من الأنصار من لا يجوزون عليه الغلط ويحاولون دفعه ولو “بالتأوّل
البعيد”!

يقول الآمدي معلقاً على الخطأ
الثاني من تلك الأبيات التي أنكرها أبو العباس وحاول الآمدي إقامة الحجة
عليها ببيان وجوه الخطأ فيها: “وأنكر أبو العباس قول أبي تمام:

رقيق حواشي الحلم لو أن حلمه بكفيك ما ماريت في أنه بـرد

وقال: هذا والذي أضحك الناس منذ
سمعوه وإلى هذا الوقت. ولم يزد على هذا شيئا. والخطأ في هذا البيت ظاهر،
لأني ما علمت أحداً من شعراء الجاهلية والإسلام وصف الحلم بالرقة، وإنما
يوصف بالعظم والرجحان والثقل والرزانة، ونحو ذلك…” ، ثم شرع في الاستدلال
على ذلك بضرب أمثلة من شعر المتقدمين أمثال النابغة والأخطل والفرزدق
وغيرهم وقدّم بالمقابل شواهد أخرى في وصف الحلم بالخفة في سياق الذم
والقدح. وعلّق على ذلك قائلاً: “فهذه طريقة وصفهم للحلم، ولما مدحوه بالثقل
والرزانة، ذموه بالطيش والخفة.”

ولم يقتصر الآمدي على تخطئة أبي
تمام في وصف الحلم بالرقة، وإنما خطأه أيضا في وصفه البرد بنفس الصفة،
يقول: “وأيضا فإن البرد لا يوصف بالرقة، وإنما يوصف بالمتانة والصفاقة
وأكثر ما يكون ألوانا مختلفة(…) ولو لا أنه قال “رقيق حواشي الحلم” لظننت
أنه ما شبهه بالبرد إلا لمتانته. وهذا عندي من أفحش الأخطاء..”.

ويستدرك الآمدي في الأخير أن
أبا تمام لا يجهل المعنى الصحيح الذي يوصف به الحلم، ويفسر انحراف أبي تمام
عن صحة المعنى وخروجه عن عادة الشعراء في هذا الوصف برغبته الشديدة في
الابتداع “ولكنه يريد أن يبتدع فيقع في الخطأ”.

وقد أشار محقق ديوان أبي تمام
بشرح الخطيب التبريزي إلى ما أثاره هذا البيت من اختلاف بين النقاد، فهو
“من أبياته المشهورة التي أكثر المتعصبون لأبي تمام وعليه القول فيها،
فمنهم كما قال ابن المستوفي من انتصر له بحق ومنهم من لم تساعده الحجة في
الانتصار له. وقد ذكره الآمدي في الموازنة وعابه وأكثر من التشنيع عليه…”

فلما كان البيت يتضمن معنى صاغه
أبو تمام بطريقة خرج فيها عن سمت العرب في الكلام وما جرت به العادة بينهم
في وصف المعاني، فردّه عليه النقاد المحافظون وأنصار النموذج، طفق بعض
أنصار أبي تمام يبحثون عن تأويل لطيف وتخريج دقيق فيجعلون لهذا المعنى في
البيت، وعلى الصورة التي ورد عليها، وجهاً من وجوه الصحة والصواب.

فلقد ذهب المرزوقي مثلا مذهباً
في التفسير والتأويل ركز فيه على صفتي “الرقة” و “الدقة” وكيف أن العرب
توسعت في الكلام بهما. “فالرقة تستعمل في صفة الفاخر من الثياب وغيره حتى
يقال عندي ثوب أرق من الهواء وهذا كما يستعملون الدقة في صفة اللؤم
والشر(…) ويقال: فلان دقيق اللوم ودقيق الشر… ولما كان الوصاف يكنون عن أصل
الإنسان وجوهره بالثوب، حتى قالوا في الأصلين يتفقان: رقعتهما واحدة وهما
من ثوب واحد، وتوسع بعد ذلك، فقيل جوهر فلان رقيق الحاشية وعلى هذا قول أبي
تمام “رقت حواشي الدهر فهي تمرمر” ويقال طاب الهواء ورق النسيم، وإذا كان
الأمر على هذا صح أن يوصف البرد الكريم بالرقة، وإذا صح ذلك، سلم قول أبي
تمام من طعن الطاعن، ويشهد له أيضا قول الآخر:

إذا النفر السود اليمانون نمنمـوا له حول برديه أرقوا وأوسـعوا

وإنما كان كذلك، لأن “الرقة” منقول عن موضعه هاهنا…”

فنحن إذن إزاء موقفين نقديين
نموذجيين يعبران عن وجهتين أو مذهبين في التعامل مع ضرب من المعاني الشعرية
التي متى صيغت بصور مخصوصة أثارت جدلا في الفهم واختلافاً في التأويل
والتقويم. فكل موقف نقدي من المعنى في بيت أبي تمام –سواء كان طاعناً أو
مدافعاً- هو في تقديرنا، “موقف تأويلي” من اللغة في جوهره يختلف من موقع
إلى آخر ومن رؤية إلى أخرى… فكلما كانت الرؤية إلى اللغة الشعرية تقعيدية
صفوية إبلاغية كان المعنى مشروطا بسننها وقوانينها ومقيداً بعادة العرب
وسنن الأوائل في تصريف الكلام. وهنا يضيق مجال التأويل لأن المعنى محدد
بذاك الإطار التداولي في استعمال الكلام، وكل خروج عليه يعد عيبا وخطأ.

وكلما كانت الرؤية إلى اللغة في
الشعر فنية بلاغية جمالية أي باعتبارها اللغة/الشعر، كان المعنى متحرراً
من كل قالب تعبيري جامد ثابت ويتشكل في أي صورة فنية يختارها الشاعر أداء
لمقاصد مخصوصة.. فتتسع دائرة التأويل حينئذ تبعاً لاتساع العبارة في
الدلالة.

ولعله من الطريف هنا أن نورد
موقفا آخر من المعنى في بيت أبي تمام لناقد معاصر وجد في موقف الآمدي قصورا
في فهم عبارة “الحلم” في البيت أفضى به إلى تخطئة الشاعر. ولعل في هذا
الرد- الذي تجاوز الإطار التاريخي للنقد القديم وانفتح على النقد الحديث
عبر المحاورة والنقد– دليل على حركية التأويل وكيف أن المعنى في الشعر
يرتحل عبر التاريخ ويسافر في المكان والزمان..، فيكتسب بذلك صبغة التعدد
والكثرة فهو معنى مفتوح/منفتح على آفاق الزمن حاضراً ومستقبلا ًوإن كان من
الماضي آتيا!!

فقد اعتبر محمد رشاد صالح “أن
مرد الخطأ يعود إلى معنى كلمة “الحلم” فمعناها ههنا الصفح وليس العقل، وقد
قال أبو تمام في قصائد أخرى: “رقيق حواشي الصفح” فأراد أن يأتي بنفس
المعنى، ولكن لكيلا يبتذل معناه غير لفظة (الصفح) إلى الحلم بمعنى الصفح(…)
فمعنى بيت أبي تمام كما تفسره أشعاره، وكثير من أشعار الشعراء يفسر بعضه
بعضاً، أن الممدوح كثير الصفح وأن لصفحه مظهرا من الرقة واللطف ومبطناً من
القوة والمتانة حتى لو أن صفحه كان في يدك ما شككت في أنه برد يماني يغطي
مظهره وحواشيه طرز حريرية ناعمة لطيفة، ويكون مبطنه نسيج صفيق متين يحكي عن
القوة…”

وانتهى بعد عرضه مختلف الدلالات
والمعاني التي استخرجها من هذه الصورة التعبيرية في البيت إلى القول:
“وهكذا أتى أبو تمام بأقوى تعبير في معنى لم يتمكن منه أحد من الشعراء
السابقين واللاحقين (…) وكان من حق أبي تمام أن ينال الثناء لقاء هذا
التعبير الجميل الخلاق وأن يبجل لأنه اخترع معنى لم يهتد إليه غيره..”

ومهما كان من أمر، فإن المعنى
في هذا البيت أثار من الاختلاف ما تراوح بين حدة الطعن وقوة الانتصار مما
يؤكد أن المعنى في الشعر القديم إشكال تتعدد فيه الرؤى والأفهام
والتأويلات.

ونورد هنا مثالين آخرين أحدهما للبحتري، والآخر لأبي تمام جمعنا بينهما لأن إبن رشيق تكفل بالرد فيهما على الآمدي.

فقد عاب الآمدي في باب “ما أخطأ
فيه البحتري من المعاني” بعض الأبيات من شعر البحتري جرياً على منهج
الموازنة بين الشاعرين في إبراز مساوئهما وأخطائهما أو محاسنهما وبدائعهما.

يذكر الآمدي هذا البيت للبحتري ويعلق عليه:

هجرتنـا يقظى وكادت على عـا داتهـا في الصدود تهجـر وسـنى

وهذا أيضا عندي غلط، لأن خيالها يتمثل له في كل أحوالها، كانت يقظى أو وسنى أو ميتة، والجيد قوله:

أرد دونـك يقظـاناً، ويأذن لــي عليك سكر الكرى إن جئت وسـنانا

فصحح المعنى وأتى به على حقيقته (…) وإنما أخذ معنى بيته الأول- وعليه بنى أكثر أوصافه للخيال- من قول قيس بن الخطيم:

أنـي سـربت وكنت غيـر سروب وتقـرب الأحـلام غيــر قريب

مـا تـمنعـي يقظـى فقد تؤتينـه في النـوم غيـر مصـرد محسـوب

وما أظن أحداً سبق قيساً إلى
هذا المعنى في وصف الخيال، وهو حسن جدّا، ولكن فيه أيضا مقال لمعترض وذلك
هو الذي أوقع البحتري في الغلط، لأن قيساً قال: [ما تمنعي يقظى فقد تؤتينه
في النوم"، فأراد أنها أيضاً تؤتيه نائمة، وخيال المحبوب يتمثل في حال نوم
المحبوب ويقظته كما ذكرت (...)، إلا أنه يتسع من التأوّل في هذا لقيس ما لا
يتسع للبحتري لأن قيساً قال: "فقد تؤتينه في النوم" ولم يقل: "فقد تؤتينه
نائمة"، فقد يجوز أن يجعل على أنه أراد ما تمنعي يقظى وأنا يقظان فقد
تؤتينه في النوم أي في نومي. ولا يسوغ مثل هذا في بيت البحتري، لأن البحتري
قال "وسنى" ولم يقل في الوسن]

يرفض ابن رشيق في رده على
الآمدي تخطئته البحتري في هذا البيت، ويعتبر بالمقابل أن المعنى “صحيح، لا
فساد فيه ولا غلط”. فقد اكتفى ابن رشيق بنقل الفقرة الأولى (حدود البيت
الثاني للبحتري) ثم عقب بردّه قائلا: “وأنا أقول: إن مراده أنها لشدة هجرها
له و نخوتها عليه لا تراه في المنام إلا مهجوراً، أو لا تراه جملة،
فالمعنى حينئذ صحيح لا فساد فيه ولا غلط [ولعل الرواية "وكادت"] وهذا موجود
في كلام الناس اليوم مثله، يقولون “فلان لا يرى لي مناما صالحا”، وليس بين
بيتي البحتري تناسب من جهة المعنى جملة واحدة، لأنه أولا يحكي عنها وثانيا
يحكي عن نفسه، بلى إن في اللفظ اشتراكاً ظاهراً”.

ولئن بدا موقف ابن رشيق في هذا
الرد مجملا اقتصر فيه على تصويب البحتري في ما ذهب إليه من معنى دون أن
يتوسع في التحليل أو التأويل، فإن الشريف المرتضى قد تعرض في أماليه إلى
هذا البيت و أبيات أخرى للبحتري ولأبي تمام رد فيها على الآمدي رداً أكثر
تفصيلاً وتعليلاً مما يضعنا فعلا إزاء صراع/حوار التأويلات، وهذا يعد بلا
ريب مظهراً آخر من مظاهر حركية التأويل في تراثنا النقدي.

فقد انطلق المرتضى في رده على
فهم الآمدي وتأويله لبيت البحتري المذكور بقوله: “ووجدت أبا القاسم الحسن
بن بشر الآمدي مع ميله إلى البحتري وانحطاطه في شعبه، واجتهاده في تأويل ما
أخذ عليه من خطأ وزلل يزعم أن البحتري أخطأ في قوله…” ، ثم ينقل بيت
البحتري وتعليق الآمدي عليه مراوحاً بين الإجمال والتفصيل في إيراده، ثم
يعقب عليه بهذا الرد: “وقد يمكن من التأويل للبحتري ما أمكن مثله لقيس، لكن
الآمدي قد ذهب عن ذلك، لأن البحتري لما قال: “وسنى” دل على حال الوسن (…)
فقوله “وسنى” ينبئ عن كونه هو أيضاً نائماً، وإنما أراد المقابلة في زنة
اللفظ بين يقظى و وسنى. وقوله “يقظى” متى لم يحمل أيضا على هذا المعنى لم
يصح (…) ألا ترى أن الآمدي حمل قول قيس: “يقظى” على معنى: “وأنا يقظان” وإن
لم يبين الوجه! فكيف ذهب عليه مثل ذلك في قول البحتري! (…) وما يتأول له
في أحد الأمرين يتأول في الآخر.”

نلاحظ إذن كيف أن رّد ابن رشيق
تعلق بتوضيح المعنى في البيت بزيادة تبيانه وشرحه شرحاً معنوياً لخص فيه
المعنى قصد تأكيد صحته ودفع شبهة الفساد عنه. أما المرتضى فقد ذهب في
تأويله المعنى مذهبا فنيا جماليا أكّد فيه أن غاية البحتري في اختياره تلك
الصيغة في التعبير إحداث مقابلة فنية إيقاعية “في زنة اللفظ” وعلى امتداد
البيت بين “وسنى” و “يقظى” دون أن يخل ذلك بالدلالة على حال الوسن وعلى حال
اليقظة وكلاهما “حال مشتركة بالعادة” على حد تعبيره.

ومن هنا كان مأخذه على الآمدي
في أنه لم يتسع في التأويل للبحتري وتسويغ المعنى له مثلما صنع ذلك مع بيت
قيس بن الخطيم، وكأن المرتضى يلمع إلى أن الاتساع في تأويل المعنى في الشعر
ينبغي أن يكون مبدأ ثابتاً وعاماً.

أما المثال الثاني الذي ذكره
ابن رشيق، فهو بيت لأبي تمام، عابه الآمدي في موازنته وجاراه واتبعه في ذلك
عبد الكريم النهشلي فنقله في كتابه. ولم يستسغ ابن رشيق هذا الأمر، فكان
هذا النقل مشفوعا بالنقد والرد:

“وفي كتاب عبد الكريم من المأخوذ على أبي تمام قوله:

مها الوحش إلا أن هاتا أوا نس قنا الخط إلا أن تلك ذوابل

قال: فيه غلط من أجل أنه نفى عن
النساء لين القنا، وإنما قيل للرماح “ذوابل” للينها وتثنيها، فنفى ذلك أبو
تمام عن قدود النساء التي من أكمل أوصافها اللين والتثني والانعطاف.

قلت أنا: أما أبو تمام فقوله
الصواب، لأنهم يقولون “رمح ذابل” إذا كان شديد الكعوب صلبا، وهذا الذي تعرف
العرب، ومنه قولهم: “ذبلت شفتاه”، إذا يبستا من الكرب أو العطش أو نحوهما،
فأما كلام المعترض فغير معروف إلا عند المولدين، فإنهم يقولون “نوارة
ذابلة” وليسوا بقدوة، على أن كلامهم راجع إلى ما قلناه، إنما ذلك لقلة
المائية وابتداء اليبس، وإنما نقل عبد الكريم كلام ابن بشر الآمدي.”

إن هذا الاختلاف في تأويل
المعنى “في البيت والذي أفضى إلى اختلاف في الحكم يعود ضرورة إلى اختلاف في
فهم عبارة “ذوابل”. فنحن إزاء فهمين متقابلين بله متناقضين لمعنى كلمة
“ذوابل” بين دلالتها اللغوية الأولى في أصل الوضع وهي الصلابة والقوة، وبين
دلالة ثانية ناتجة عن تطور في الاستعمال عند المولد ين فأكسب اللفظة معنى
آخر مضادا للأول وهو معنى الضعف واللين…

والطريف أن أبا تمام -وهو
المحدث المولد- أجرى العبارة في البيت على دلالتها اللغوية الأصلية عند
العرب الفصحاء، مما جعلها لفظة مراوغة تنوس الدلالة فيها بين ما هو قديم
وما هو محدث وبين ما هو أصيل وما هو دخيل… فأربك بذلك الأفهام واختلفت
التأويلات والأحكام إلى حد التناقض!

وإذا كنا نميل إلى اعتبار هذا
الاختلاف مهما كان نوعه أو مداه اجتهادا في التأويل ومظهرا من مظاهر
الجدل(38)الخلاق الذي أثرى الخطاب النقدي القديم، فإن تواتره في بعض
المصنفات النقدية، وحضوره أيضاً بصورة لافتة في الموازنة، جعلنا نصف
الظاهرة بصراع و/أو حوار التأويلات، وهو صراع أو حوار لاحظنا بعض أشكاله في
ما تقدم من أمثلة، وسنضيف مثالا آخر دالا على هذا النوع من صراع/حوار
التأويلات الذي تم في “سياق خارجي” أي بين الآمدي في موازنته وبين النقاد
اللاحقين له ممن خالفه في الفهم أو الحكم..

وأما النوع الآخر من هذا
الصراع/الحوار –والذي ستنعرض له لاحقا- فقد تم في”سياق داخلي” أي بين
الآمدي وأنصار أبي تمام داخل كتاب الموازنة. ولعمري أن هذا الصراع/الحوار
بنوعيه، وما فيه من حجاج وخلاف وسجال ليدل دلالة واضحة على حركية التأويل
في ترائنا النقدي وثراء النص الشعري القديم ومدى غناه الفني والدلالي!!

فأما المثال الأخير الذي نورده
للدلالة على النوع الأول من صراع/حوار التأويلات الذي دار في “سياق خارجي”،
فهو يتعلق ببيتين لأبي تمام قالهما في وصف فرس. ولئن وجد الآمدي في هذين
البيتين وجوها من الخطأ فإن ابن سنان الخفاجي ورغم تأثره بالآمدي في عديد
المواقف النقدية واتفاقه معه على أهمية الوضوح والبيان، فإن ذلك لم يمنعه
من الاختلاف معه في فهم هذين البيتين وتأويلهما تأويلا يدفع عن أبي تمام
تهمة الوقوع في الخطأ أو التناقض.

يقول الآمدي: “ومن خطئه قوله في وصف فرس:

وبشعلة تبدو كأن فلولها في صهوتيه بدء شيب المفرق

قوله “فلولها” يريد ما تفرق
منها في صهوتيه، والصهوة: موضع اللبد، وهو مقعد الفارس من الفرس، وذلك
الوضع أبداً ينحت شعره لغمز السرج إياه فينبت أبيض، لأن الجلد هناك يرق،
وأنت تراه في الخيل كلها على إختلاف شياتها، وليس بالبياض المحمود ولا
الحسن ولا الجميل، فهذا خطأ من هذا الوجه.

وهو خطأ من وجه آخر وهو أن جعله
شعلة والشعلة لا تكون إلا في الناصية أو الذنب وهو أن يبيض عرضها وناحية
منها فيقال: فرس أشعل وشعلاء، وذلك من عيوب الخيل، فإن كان ظهر الفرس أبيض
خلقة فهو أرحل ولا يقال أشعل(…) ومن قبيح وصف شيات الخيل : قول أبي تمام في
وصف هذا الفرس أيضا:

مسود شطر مثل ما اسود الدجى مبيض شطر كابيضاض المفرق

شطر الشيء: جانبه وناحيته، قال
الله عز وجل ( فول وجهك شطر المسجد الحرام) أي ناحيته. وقد يراد بالشطر نصف
الشيء، يقال، قد شاطرتك ما لي، أي ناصفتك، فهذا هو الأكثر الأعمّ فيما
يستعملون، وذلك من أقبح شيات الأبلق على ظاهر هذا المعنى. ولم يرده أبو
تمام وإنما أراد بالشطر ههنا البعض والجزء، أي مسود جزء مبيض جزء، فجاء
بالشطر لأنها لفظة أحسن من الجزء ومن البعض في هذا الموضع…وقد جعله أبو
تمام في أول الأبيات أشعل بقوله: و “بشعلة نبذ” ثم جعله ههنا أبلق، فهذا
الفرس هو الأشعل الأبلق على مذهبه في هذا التشبيه. ولا ينكر هذا من
ابتداعاته.”

إن ما انتهى إليه الآمدي من حكم
على هذين البيتين لم يرق لابن سنان الخفاجي الذي حاول في رده أن يدفع
التناقض في وصف أبي تمام للفرس، وأن يفسر موقف الآمدي بالتحامل على الشاعر.
يقول الخفاجي: “وكذلك ذهب أبو القاسم الآمدي إلى تناقض بيت أبي تمام في
صفة الفرس:

وبشعلة تبدو كـــأن فلولها في صهوتيـه بدو شيب المفرق

مسود شطر مثل ما اسود الدجي مبيض شطر كابيضاض المهرق

قال: لأنه ذكر في البيت الأول
أنه أشعل، ثم قال في الثاني: إن نصفه أسود و نصفه أبيض وذلك هو الأبلق،
فكيف يكون فرس واحد أشعل أبلق؟ وهذا من أبي القاسم تحامل على أبي تمام،
لأنه يصف فرسا أشعل ويريد بقوله -إنه مسود شطر ومبيض شطر- أن سواده وبياضه
متكافئان، فلو جمع السواد لكان نصفه وكذلك البياض، وهذا الوصف من تكافؤ
السواد والبياض في الأشعل محمود، حتى إن النخاسين يقولون: أشعل شعرة شعرة،
فعلى هذا لا يكون شعر أبي تمام من المتناقض”.

لقد مارس الآمدي في هذين البيتين آلية الشرح، فتوقف عند الكلمات الصعبة وغير المتداولة يشرحها ويبينها
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

حركيّة التأويل في التراث النقديّ الموازنة للآمدي أنموذجا :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

حركيّة التأويل في التراث النقديّ الموازنة للآمدي أنموذجا

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: