العرب بين الحداثة وما بعدها |
|
|
حين أخذ العالم، مع دخول العِقد الأخير من
القرن المنصرم، يتلقّف رسائل جديدة تشير إلى أنه
بدأ يدخل عصراً جديداً، راح يجد نفسه أمام حالة
جديدة من انعدام الوزن والكآبة وافتقاد اليقين،
بنحوٍ أو بآخر. وكان على الجموع البشرية الكبرى أن
تعيش بعض الوقت على هذا النحو، قبل أن تأخذ تضبط
ما يحدث ضبطاً نظرياً تبارى الكثيرون في تناوله،
مع اختلافات حادة أو ضئيلة في فهمه وإدراك آفاقه.
وقد عبّر أحدهم عن ذلك، حين كتب ما يلي: "لقد
أصبحت الحيرة وافتقاد اليقين هما العلامتان
المميزتان لعالمنا". جاء ذلك في كتاب حرره اثنان
من الباحثين هما "هارتمان" و"فيلانوفا"، وصدر عام
1992 في لندن تحت عنوان "النماذج الأساسية
المُفتقدة". وها قد مرّت سنون جديدة على العالم
الجديد "النظام العالمي الجديد"، ليكتشف البشر أن
هذا الأخير يظهر أخطبوطاً عملاقاً يهدد العالم في
أمنه وسلمه ومستقبله. ويتجلى ذلك في الحروب
الساخنة والأخرى الباردة، التي راحت تعم العالم،
لتفرّخ -في هذا السياق- مشكلات ومعضلات وأزمات
أخذت تظهر كأنها متأبيّة على الحلول المقبولة، مما
وسّع من أهمية بعض التصورات الفكرية، ومنها فكرة
"إدارة الأزمات دون حلّها".
ولعلنا نرى في الكتاب المذكور فوق أحد العناوين
العريضة لعملية التحول من "العالم القديم" إلى
"العالم الجديد"، فهو يتحدث عن نهاية "النماذج
الأساسية" التي هيمنت في العالم الأول، وحملت
عنواناً كبيراً فضفاضاً، هو "الحداثة". أما هذه
الأخيرة، فقد تجلت في عدة عناصر أسّست، بدورها،
للغرب الحديث، ومنها "التقدم" و"الحرية" و"العقل"
و"العلمانية". وبالمقابل يتحدث عن "نماذج جديدة"،
تأتي جميعها تحت عنوان "ما بعد الحداثة"، وقد
تندرج في هذا الإطار النماذج التالية: ظهور هُويات
إثنية وأخرى مذهبية وثالثة دينية ورابعة عنصرية
وأخرى جِهوية وإقليمية وغيرها، وذلك مقابل هويات
قومية ووطنية وحضارية ومجتمعية سوسيولوجية. وثمة
ناظم يتقاطع عنده الحديث عن نماذج حداثية وأخرى ما
بعد حداثية، وهو القول بنهاية النظم الشمولية،
ومنها نهاية الإيديولوجيات. وهذا -بدوره- يُفضي
إلى الحديث عن "ما بعد المجتمع الصناعي"، وكذلك عن
"ما بعد المجتمع الرأسمالي"، أي عن "مجتمعات
المعرفة والمعلوماتية" وما يدخل في هذا
الحقل.
ويبدو أنه من الأمور الأولية، في هذا السياق،
أن يتم وأدُ منظومات بالمفاهيم السوسيولوجية
الاقتصادية والسياثقافية الكبرى، التي ظهرت فيما
سبق، أي في مرحلة الحداثة، منذ عهود النهضة
والتنوير الغربية الحديثة. فالقول بـ"نظام عالمي
جديد"، ينبغي، والحال كذلك، أن يتحرر من الشحنة
الأيديولوجية والهوية أو النّسب السوسيولوجي
الاقتصادي، قياساً على القول بـ"نهاية
الأيديولوجيات". ومن شأن هذا أن يقود إلى إسقاط
مهمة البحث العلمي في ضبط ذلك المجتمع وغيره من
المجتمعات المماثلة له أو المشابهة.
ومن هنا، راح القول يترسّخ في أوساط من
الباحثين بأن العلوم الاجتماعية والإنسانية عموماً
تفقد أهميتها بل ضرورتها، لتبقى الساحة مفتوحة
أمام العلوم الطبيعية والتكنولوجية وما يدخل في
نطاق المعلوماتية والاتصالاتية. ومن شأن ذلك أن
يفتح الطريق واسعة أمام عودة أنساق إيديولوجية إلى
السطح، ومنها -مثلاً- ما يأتي تحت مصطلح "علم
اجتماع الصغائر" (Microsoziologie). فهذا الأخير
يرفض الإقرار بمفاهيم البنى المعلوماتية والشمولية
الناظمة لعصر الإقرار بالجزئي والخصوصي. وإذا
أخذنا ذلك محدّداً، يغدو القول بضرورة البحث في
النظام التربوي (في حال العمل على تقصي مشكلاته
النوعية الخاصة) بالعلاقة مع النظام الاقتصادي
والآخر السياسي في بلد معين، أمراً نافلاً: إن
دعوة ما بعد الحداثة على صعيد التربية -مثلاً-
تعني البقاء في أسْر البنية الذاتية المُغلقة، من
حيث الأساس.
لم تستطع النظم العربية أن تحقق -حتى حينه-
مهماتها التي تندرج في حقبة الحداثة (غربياً)، وفي
حقبة تحقيق الاستقلال الوطني والتقدم الاجتماعي
عربياً. فالكوارث الكبرى والصغرى التي تتالى على
البلدان العربية راهناً، تظهر بمثابتها "صعوبات
صغيرة" هنا وهناك، يتبجّح البعض في هذا البلد
العربي أو ذاك بأنهم يمتلكون القدرة على
تجاوزها.
ما يحدث في العراق يُراد له أن يظهر كأنه حالة
أصبحت طبيعية، وعلى الجميع أن يقروا بها، وكذلك
الأمر في فلسطين ولبنان: لقد انتهى "عصر الحداثة
الغربية"، وجاء بعده عصر ما بعدها، وما زال العرب
-في كتل واسعة منهم- غرباء حِيال ذلك، إضافة إلى
تحويلهم إلى ضحايا عليهم أن يصادقوا على إقصائهم
من حلبة التاريخ المتدفقة.