18:01
إنما المطلق يفهم أفهوميّاً
وللنسق
الفلسفي الهيغليّ قاعدة حصريّة ألا وهي "أن الحقّ يدرَك ويقال لا كجوهر بل
كذلك كذات"(1) . وجوهر المطلق لا يتحقّق إلاّ من جهة الاستحالة الذاتيّة،
"أي من حيث يتصيّر لنفسِهِ موضوع نفسه، فلا يستوضع
نفسَهُ إلاّ من
حيث يتوسط نفسه بنفسه"(2) . ليس لفلسفة المطلق من موضوع بل هي نفسها ذاتها.
فقط الجملة [الكلّ] تملك حقيقة مجرّدة. عندما تدرس الفلسفة الحقيقة
المجرّدة تدرس الجملة كذلك. هذه الجملة تشير للوعي
وأيضاً لفلسفة المطلق(3) ؛ يقول هيغل، "الأنا المطلقة تحوي كلّ الحقيقة؛ هي الجملة وخارجها ليس هناك من شيء" (4).
تجد
الفلسفة في الأفهوم "وحدة الكينونة والفكر" لذلك على المطلق "أن يفهم
أفهوميّاً"(5) . كذلك تحمل الفلسفة جملة الخبرات الإنسانيّة في "الأفهوم"،
المعنى الشفاف بالكامل للفكر. فنحن لا يمكننا أن ندرك دون أفاهيم،
وكما يقول هيغل "لا يمكن أن نفكّر دون أن نفكّر"(6) .
فلسفة هيغل هي فلسفة الأفهوم حيث تحتل "الأنا العزيزة"(7) مكانة مرموقة، وليس كوخاً افترضه كركيغورد لبنّاء القصر الجميل(8) .
إنما الأفهوم بيانٌ تأمّليّ
والطريق
التأمّليّة ليست تشييداً مصطنعاً يضاف من الظاهر إلى المضمون، بل انقلاب
المضمون نفسه وتصيّره إلى صيرورة تعيّن ذاتيّ. (9) و"نعتقد أنّه من
المسلّم به"، يقول هيغل (في كتابه "أوائل فلسفة الحق")، "أن
الطريقة
التي بها تنتقل الفلسفة من موضوع إلى آخر تقيم الدليل على برهنة علميّة،
التي هي المعرفة التأمّليّة عامة المتميّزة عن سائر المعارف الأخرى"(10) .
من هنا ينطلق بول ريكور مؤكّداً على أن "الهيغليّة هي
فلسفة تأويل
مزيّنة بفلسفة معرفة"(11) ؛ فمهمة الفلسفة ليست أن تقول للناس ما يجب عليهم
أن يأملوا، بل بالأحرى أن تسمح لهم أن يأملوا بطريقة عقلانيّة بمساعدتهم
على "إدراك الـ ما - هو". "وظيفة الفلسفة هي
إدراك الـ ما - هو"،
يقول هيغل في موضع آخر، "لأن الـ ما - هو هو العقل. بما يخص الفرد، كلّ هو
ابن زمانه؛ كذلك أمر الفلسفة، فهي تختصر زمانها في الفكر. الاعتقاد بأن
فلسفة ما يمكنها أن تتخطّى عالمها الذي
تعاصره، هو اعتقاد مغرق في الجنون يزيد جنوناً على الاعتقاد أن فرداً يمكن أن يتخطّى زمانه ويَعْبر عن الرودس(12) (13) Rhodus".
أمّا
التأمّل الفلسفي فقوامه الاعتصام بالتاريخ لإزالة التعارض القائم بين
النظر والعمل من خلال تدبير ميتافيزيقي للانفصام والتمزّق الذي يصيب العصر،
إذ "لا ريب أنّ كلّ فلسفة إنّما تصدر عن عصرها، وعن اللاإتيقيّة
إذا
ما شاء المرء أن يفهم تمزّق ذلك العصر على سبيل انعدام الإتيقيّة؛ ولكنّ
الفلسفة لا تفعل ذلك إلاّ لتغيّر ما بالإنسان فتصلحه ضدّ فساد العصر،
ولتحفظ الجملة التي مزّقها الزمان" . (14)
فالفلسفة بما هي نظر تأمّلي
هي نشوء في المطلق نفسه كفلسفة، هذا المطلق الذي لا يثبت على هوّيته إلاّ
من حيث ينفرق على نفسه ولا يكون إلاّ من حيث ينتفي إلى غير نهاية؛ "من
الممكن أن الفلسفة لا تنفكّ تموت" . (15)
يؤكّد هيغل إلى أن الحاجة إلى
الفلسفة لا تنبعث إلاّ "حين تزول القدرة على التوحيد وتمّحي من حياة البشر،
وحين تكون المتقابلات قد فقدت رباطها الحيّ وتفاعلها، فتصير قائمة برأسها؛
إذاك تظلّ تلك الحاجة عَرَضاً من
الأعراض" (16). كلّما أفسد
الزمان الثقافة وهوت تكاوينها، فارتفعت عن حياة البشر قوّة التوحيد، وزال
الرباط الحيّ الذي يأصر الأطراف المتقابلة، يكون قد حان آن الحاجة إلى
الفلسفة (17)؛ وبلسانه، "تأتي الفلسفة دائماً متأخرة. بما أنها تَفَكُّر
العالَم، تفصح عن ذاتها فقط حين يكمل وينتهي الحقيق مراحل تشكّله" . (18)
...
شقاء الفيلسوف
إن
الإنجاز الرومانتيكي الذي حقّقه هيغل على صعيد سؤال الفلسفة لهو حقيقة
إنجاز تاريخي، بالمعنى الهيغليّ للأفهوم، كما العام. فالموسوعيّة والنسقيّة
والأفهوميّة واسطقسها الديالكطيقيّ الجوّانيّ... كلّها مسائل أساسيّة
ميّزة،
مجتمعة، طرحه حول سؤال الفلسفة عن سائر الأطروحات التي سبقته ولحقته في
هذا الصدد. ولكنّا إذا نطرح مع بول ريكور، (الهيغليّ المعاصر، بما تيسّر!)،
سؤال "ساعة الفلسفة" كما ارتآها هيغل نتيجة
للتوليفات التاريخيّة،
نقع في مأزق نرجسيّة الفيلسوف التاريخي الذي أتى به القدر في اللحظة
المناسبة للتفلسف، دون غيره، هذه اللحظة التي من خلالها فقط يمكنه رؤية
وجمع كلّ التجارب الإنسانيّة. "أمّا عصرنا نحن،
علّه ليس عصر
الفلاسفة"، يشكو ريكور آسفاً، "إن اللحظة السعيدة آن تتجمع كلّ الخبرات
الإنسانيّة، ربّما، لا تتحقّق إلاّ قليلاً في التاريخ" .(19)