خدعة الرأي العام
ادريس هاني
الأربعاء 01 غشت 2012 - 01:47
هناك نزوع إلى التّقليل من قيمة الإجماع حتى وإن كان الأمر من جهة
السيرة العقلائية أو المقرر عند أرباب أصول الفقه هو إجماع عقلاء أو فقهاء.
المقللون من حجية الإجماع وقيمته العلمية لم ينظروا إلى خبرة المجمعين بل
إلى ما قد ينتاب هذا الإجماع من خلل وهشاشة حينما يحاول أن يجمع على ما ليس
موضوعا للإجماع أصلا. هذا ناهيك عن استحالة الإجماع التّام إذ لدينا
إجماعات بقدر الأهواء والآراء. في السياسة كما في التشريع هناك معطيات ليست
متاحة للجميع. بل في مجال السياسات لا قيمة للإجماع من الناحية العلمية أو
الأخلاقية لأن مجال السياسة هو مجال مناورات ومصالح وأهواء وغلب. ومثله
الإجماع الذي يصار إليه عبثا في مجلس الأمن حسب ما تمليه المصلحة وعن طريق
الضغط على أهل الإجماع. إذا كان هذا هو واقع الإجماع في مجال النخب وأهل
الخبرة والاختصاص، فأيّ قيمة أخلاقية ومعرفية لإجماع الرّأي العام الذي هو
أقلّ منزلة في التحقيق المعرفي من النخب المتخصصة والمطلعين على سائر
المعطيات؟ ومع أنّنا اليوم نتحدّث عن أسطورة الرأي العام، فإنّ المطلوب هو
التحليل النفسي والاجتماعي و السيكوتيرابي للرأي العام. الرأي العام مريض
وهو في الغالب مصاب بشكيزوفيرينيا وبالبارانويا.
إنه رأي عام يناقض نفسه ويتمظهر بألوان من المواقف والأفكار لا يمكن أن
تصدر إلاّ عن ذات معتلة وفاقدة للتوازن. المشكلة أننا ندين الفرد وحده
لكننا لا ندين الرأي العام. فسلوك الرّأي العام في الغالب هو سلوك أكثر
الأفراد اختلالا وافتقادا للتوازن. إننا نقبل مرض الرأي العام كمظهر للصحة
كما نقبل جنون الرأي العام كحقيقة.
مكنك أن ترصد هذه الظاهرة بشكل ميداني. حاول أن تنسب أفكار ومواقف
الرأي العام للفرد، وانظر إن كنت ستظفر بشخصية عاقلة. بالتأكيد ستجد نفسك
أمام منتهى الجنون. يصدق الرأي العام بسرعة كما يكذب بسرعة. وهو يبني رأيه
على المصلحة الدنيا والنزعة اللاعقلانية ويستند إلى الأساطير في تشخيص
مشكلاته وحلوله. لقد بالغ الفكر الحديث في اهتمامه بالرأي العام. بل لقد
طغى حينما أسند إليه إمضاء المواقف والأفكار الصحيحة. ولأن تلك هي حقيقة
الرأي العام، فقد سعى الإعلام والدعاية للتحكم به وتحريضه على المعقول. لا
نتحدث اليوم عن إقناع بل عن خداع. وفي عصر الصورة هناك خداع الصورة وأثرها
على الدماغ. هناك عمليات غسيل دماغ كبرى تحدث اليوم باسم الرأي العام، ولكن
في نهاية الأمر تختفي خلفها نزعات فردية. إن الرأي العام في النهاية هو
سلطة الرّأي الأقلي والفردي المتغلب بقوة الرأي العام وتخديره.