خيارات تركيا الإيرانية: الحرب الصامتة!
أضيف في 20 يوليوز 2012
كثيرة
هي الشكوك التي طاولت محاولات تركيا الأردوغانية لتعزيز علاقات أنقرة
بطهران خلال العقد الماضي. المراقبون الأتراك قبل الدوليين وجدوا في المسعى
التركي انحرافا مزاجيا أكثر من كونه سلوكا عقلانيا استراتيجيا ثابتا. ولا
شك أن الموقف الأوروبي (الغربي أساساً) من مسألة إنضمام تركيا إلى
الإتحاد الأوروبي، يبرر نزوع أنقرة نحو محيطها عامة، وخياراتها الإيرانية
خاصة، كرد فعل آلي، وربما استفزازي للحلفاء الأطلسيين.
السلوك التركي كان ينسجم
مع مدرسة وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو في "تصفير" المشاكل مع
الجوار. وخيارات تركيا الإيرانية تتسق مع منطق الـ "بزنس" الذي ران إدارة
حزب العدالة والتنمية للحكم في البلاد. وإتخذ الإقتراب من طهران مسارات
جدية، ليس فقط في مسألة التبادلات الإقتصادية، بل في مواقف سياسية متقدمة
إتخذتها انقره لصالح إيران، لاسيما في شأن البرنامج النووي الإيراني، ورفض
تركيا لعقوبات حلفائها الغربيين ضد طهران.
لكن التطورات اللاحقة كشفت
مدى اصطناعية وهشاشة الحلف التركي – الإيراني. تقدمت تركيا في الموضوع
الفلسطيني، منذ مواقف أردوغان المتشددة إزاء إسرائيل، إنتهاء بالصدام مع
إسرائيل وما تلى ذلك في مسألة السفينة مرمرة. الموقف التركي في هذه
المسألة الأساسية عند الرأي العام العربي، سحب البساط نسبيا من احتكار
إيران (الغير غربية) لخطاب المقاومة والممانعة في المنطقة.
ورغم تناقض النظامين
السياسيين في تركيا وإيران ما بين العلمانية التي يتمسك بها أردوغان (حتى
حين يخاطب "إخوان" مصر وتونس) وذلك الاسلامي بقيادة الولي الفقيه في
طهران، ورغم تناقض الخلفيات التاريخية للبلدين بين صفويين وعثمانيين، ورغم
تنافس الخطاب السياسي والسلوك اليومي لأنقرة وطهران، بقيت إدارة هذا
التحالف مقبولة ظاهريا، وحتى عمليا، وذهب المتفائلون إلى وصفها
بالتكامليه. بيد أن الربيع العربي فرض واقعه، وعجّل في تعرية روابط ضعيفة
لا تحتمل زلزال المنطقة.
وجدت إيران في ربيع العرب
إمتدادا لثورتها الإسلامية، ثم رأت في تلك الثورات نقمة على الحلف القريب
من واشنطن دون غيره. لم تر أنقرة ذلك، إعتبرت الحراك ثورة على الطغيان،
تعاملت مع الحدث بآليات سياسية لا بآليات إيديولوجية. إرتبكت طهران، لكنها
أسرعت بتجاوز الإرتباك والمشي في قطار التغيير والتبشير به لا سيما في
سوريا.
لا مكان لتوافق بين تركيا
وإيران في المسألة السورية، واستطرادا العراقية أيضا. في الميدان الأخير
أضحى التراشق الإعلامي بين رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ونظيره
التركي رجب طيب أردوغان يعبّر بشكل دقيق عن تناقض مصالح أنقرة وطهران في
العراق. حتى أن ذلك التراشق إتخذ منحى طائفياً يعكس مصالح تركيا السُنية
مقابل مصالح إيران الشيعية.
المسألة السورية مفصلية
بالنسبة لتركيا كما بالنسبة لإيران. الأولى تعتبر سقوط النظام السوري
انتصارا لها، بينما ترى الثانية في هذا الإحتمال نكسة وهزيمة لطموحاتها،
كما لاستقرار نظامها السياسي. أنقرة تجاهر في انتقاد النظام السوري وتفتح
حدودها لعشرات الآلاف من اللاجئين السوريين وتوفر لا شك ميدانا خلفيا
للمعارضة السورية وجيشها الحر. طهران تجاهر في دعم النظام السوري وتدفع
حكومة المالكي في العراق للسير على هذا المنوال، بينما لا يخفي حزب الله
الموالي لإيران دعمه لـ"نظام المقاومة والممانعة" في سوريا، فيما تتحدث
تقارير عن دعم مالي لوجيستي وعسكري من قبل ايران وبغداد وحزب الله لنظام
دمشق.
خطوط التماس بين تركيا
والمنظومة المؤيدة لدمشق شهدت صدامات مباشرة تعكس حجم تناقض الخيارات
التركية للخيارات الإقليمية الدولية المؤيدة لنظام الأسد. التراشق
الإعلامي بين المالكي وأردوغان يعكس تراشقا غير مباشر بين طهران وأنقرة.
واسقاط الطائرة التركية من قبل الدفاعات الجوية السورية يعكس صداما بين
أسلحة روسية وأسلحة أميركية. كما أن قرار أنقرة نشر منظومة الدرع الصاروخي
الغربي على أراضيها، يعكس صداما عسكريا بين الولايات المتحدة وحلفائها
الأطلسيين من جهة، وكل من روسيا وإيران من جهة ثانية.
تملك طهران ودمشق أوراق
ضغط على حكومة أردوغان من خلال المسألة الكردية. فنشاط حزب العمال
الكردستاني، لاسيما عملياته العسكرية الأخيرة داخل الأراضي التركية،
يُعتبر رسالة واضحة على قدرة الحلف السوري – الإيراني على اللعب داخل
الملعب التركي. بيد أن للأمر جانب مضاد، بحيث أن علاقات تركيا مع أكراد
العراق سجلت تقدما إيجابيا لافتا، انعكس سلبا على علاقة أربيل ببغداد
المالكي، وانعكس أيضا على الموقف الكردي العراقي من الأزمة السورية لجهة
انتقاد النظام السوري ودعم المعارضة، لا سيما الكردية منها. طبعا ينعكس
التقارب التركي مع اربيل على اكراد إيران أيضا.
إيران هي ثاني أكبر مورد
للغاز الطبيعي إلى تركيا بعد روسيا. كما توفر إيران 30 في المئة من واردات
تركيا من النفط الخام. لكن ضعف البنى التحتية الإيرانية سبب قطعا
لامدادات الغاز لتركيا لعدة أسابيع، الأمر الذي جعل الجانب التركي يبدي
شكوكا في امكانية ان توفر إيران شروط الشراكة الاقتصادية مع تركيا. يضاف
إلى ذلك سلسلة من المعوقات الاقتصادية الايرانية، من انغلاق، وتأخر في
اصدار تراخيص الاستيراد، والتأخر في تخليص السلع عند البوابات الجمركية
الإيرانية، وارتفاع الرسوم الجمركية وكثرة التغييرات في أسعار تلك الرسوم،
كل ذك أضرّ بسمعة إيران، ودفع المصدرين الاتراك الى الحدّ من أعمالهم
التجارية مع ايران، والبحث عن أسواق أكثر ملائمة لبضائعهم.
محصلة القول أن الخط
البياني الإيراني في المنطقة يشهد تراجعا يوميا، بينما يشهد الخط البياني
التركي تقدما مريحا دون أن يصل هذا التقدم إلى حد الإجتياح. فلا تركيا
تخطط لمجابهة حاسمة لحصد ثمار الحراك العربي، ولا يبدو ان العالم سيسمح
لها بذلك. أنقرة أدركت ذلك، فلم تبادر إلى الإقدام أكثر في الملف السوري
دون قرار أممي، ودون موقف موحد وواضح من الحلفاء الأطلسيين. لكن تركيا
تراقب وتستعد وتعمل بجد، وربما بحد أدنى من الضجيج، من أجل إجراء الترتيب
الدراماتيكي الواجب حيال خياراتها الإيرانية حال حسم الأمور في سوريا.
محمد قواص