ملصق فيلم "لون الجنة" للمخرج مجيد مجيدي |
غدت السينما الإيرانية بما تنتجه من أفلام متميزة منذ بدايات التسعينات، تشكل ظاهرة تستحق الإهتمام والمشاهدة المتأملة، لا بهدف الدراسة أو البحث في مكوناتها فقط وإنما أيضاً لأنها ،أولاً، تحقق متعة مشاهدة عالية وتهب المتفرج شعوراً بالإمتلاء ونشوة لا تتأتى إلا من نفحات الفن الحقيقي.. فهي إستطاعت خلال وقت قصير أن تصل للعالمية وتفرض نفسها في المحافل والمهرجانات السينمائية المتعددة بالرغم من الضوابط الرسمية والدينية التي تقيدها، إضافة الى العوائق الفنية والرقابة الصارمة التي تواجهها، وثانياً لأنها تنتهج إسلوباً خاصاً بها يختلف عن بقية سينمات العالم ، وإن تأثرت بالموجة الفرنسية الجديدة التي ظهرت في الستينات والسينما الألمانية في السبعينات .
من هذا المنطلق تعد السينما الإيرانية الأنموذج الأقرب لما يمكن أن نسميه بالسينما الإسلامية من حيث درجة المحافظة والبعد عن مشاهد الإثارة الجسدية أو الإنحرافات السلوكية. وإذا تطرقنا الى تاريخ السينما الإيرانية فسنجد أن المؤرخ السينمائي جورج سادول في كتابه ( تاريخ السينما العالمية ) يعود بالسينما الإيرانية إلى ما قبل مئة عام، وتحديدا في 1900م يوم كان الشاه الإيراني مظفر الدين شاه في زيارة لإحدى الدول الأوربية ورأى جهاز البث السينمائي (المسلاط) وآلة التصوير فأعجب بهما وأحضر إلى إيران أول كاميرا تدخل البلاد، بعدها بسنوات كان هناك مجموعة من المخرجين الأوربيين يقومون بإنتاج وإخراج أفلام إيرانية منهم أفانيس أوهنيان الذي أخرج أول فيلم إيراني بعنوان "آبي ورابي" في عام 1930م ، ثم في عام 1969 أخرج داريوش مهرجيو فيلم "البقرة" والذي أسس به إتجاه الواقعية الجديدة المرتكز على التغيرات التي تعتمل في النفس البشرية وتأثيرات الحياة اليومية فيها ، وبرز في هذا الإتجاه المخرج محسن مخملباف وعباس كياروستامي اللذان تميزا بجمالية الصورة والإستعارات الرمزية المحملة بنقد إجتماعي صارخ وغير مباشر.
إلا أن ما يهم هنا هو سينما العصر الحديث، وبالأخص سينما التسعينات الميلادية أي ما بعد الثورة الإسلامية في إيران بالتأكيد، فمن المعلوم أن الثورة الإيرانية على حكم الشاه في مطلع الثمانينات كانت قد ألقت بظلالها على نواحي متعددة في الحياة الإيرانية ومنها بالتأكيد المجالات الفنية عامة، ومن هنا يمكننا أن نفهم ذلك الشرط التي تضعه الآن الحكومة الإيرانية على الإنتاج السينمائي من عدم السماح للمرأة بالظهور دون الحجاب الشرعي فضلا عن منع مشاهد الضم أو التقبيل أو غيرها مما يشكل إخلالا بالأدب العام . وهم يرون أن سينماهم يمكن وصفها بأنها إنسانية راقية، تحترم القيم ولا تتاجر بجسد المرأة، ولا تغطي بالعنف تفاهة المضمون ولا تعتمد على الإبهار. ويؤكدون أنها سينما بالغة البساطة وتحمل رسالة بالمعنى الإسلامي الحضاري؛ والدليل هو أنهم حصدوا عشرات الجوائز الدولية في السنوات العشر الأخيرة في السينما الروائية وسينما الطفل والسينما التسجيلية، بل وتم ترشيح أفلام إيرانية للأوسكار لعامين متتالين.
والسؤال الذي ينطرح هنا هو كيف نجحت هذه السينما الايرانية ؟ ، فبرغم هذه الضوابط فإنه لا يمكن إنكار مدى النجاح الذي حققته السينما الإيرانية في الآونة الأخيرة من خلال الوصول إلى الأوسكار مثل ترشيح فلم (أطفال الجنة) لجائزة أفضل فلم أجنبي عام 1997 أو الحصول على السعفة الذهبية من خلال فلم (طعم الكرز) أو جوائز المهرجانات الأخرى لأفلام مثل : (لون الجنة) ، (اللوح الأسود) ،(وقت لسكر الخيول) و(يوم الجمعة) وغيرها ، فضلا عن إشتهار العديد من أسماء المخرجين على المستوى العالمي أمثال محسن مخملباف ومجيد مجيدي وعباس كياروستامي وحسن يكتبانه وآخرين.
بالإمكان تفهم القيود التي قيدت السينما الإيرانية ، وتبرير الدافع الذي شكلته هذه القيود ، فهي منحت باعثاً لتفجير مكامن الإبداع من خلال الفكرة والإخراج والمعالجة،
ومع هذا فلا يمكننا أن نتجاهل العمل المؤسساتي الذي تقوم عليه ما أورث انضباطاً وتفعيلاً أكثر لعملية الإنتاج السينمائي، لكن ما يميز السينما الإيرانية ذلك الحضور الديني بشكل كبير، ليس في مقدمة التريلر التي تبدأ غالباً بالبسملة فحسب وإنما في بعض المشاهد التي تعطي انطباعاً عن ارتباط الرجل الإيراني بدينه ، فيكاد لا يخلو فيلم من مشهد لأحد ممثليه وهو يؤدي الصلاة ، أو لا يسمع صوت الآذان ، ناهيك عن تعبيرات الحمد والدعاء الإسلامية.
كما أنه عند مشاهدة الأفلام الإيرانية سيلحظ المتابع الالتقاط المبهر الذي تقوم به الكاميرا للتعبر عن أبعاد معينة داخل نسق الفلم، فهي سينما تعتمد على الإيحاء والترميز بصورة واضحة من خلال توظيف الكاميرا توظيفا رائعاً ، للدرجة التي يختفي فيها إحساس المشاهد بوجود كاميرا تنقل له، وهذا ما يجعلها تقدم بديلا يتناسب مع سياقها العام عن لقطات والإثارة والصخب البصري، بل وينأى عن ألعاب التصوير من زوايا متعددة ومرهقة بصرياً ومشتتة ذهنياً لا ترمي إلا لحدوث الآكشن المعتمد في سينما هوليود .. مثلاً ، من أجل ذلك أحالت الكاميرا الإيرانية المشاهد الى إستلاب بصري حقيقي .
وأيضاً غالباً ماتكون الفكرة والقصة في السينما الإيرانية تشكل أبعاداً عدة وتحمل عمقا مدهشا سواء على مستوى السيناريو أو على مستوى الشخصيات ، والحقيقة أن هذه الأبعاد تتنوع كثيرا مابين الفكرية والاجتماعية والروحية والسياسية ، ولعل سينما مجيد مجيدي خير مثال لذلك ، فأفلامه تدور حول قصص بسيطة، وحبكة محكمة، وهي تحمل مسحة شاعرية روحانية، ورسالة إنسانية عامة. قد تكون هذه السمات هي التي جعلته الأشهر بين المخرجين الإيرانيين على المستوى الجماهيري، فأفلامه الثلاثة الأشهر: «أطفال الجنة» (1997)، «لون الجنة» (1999)، «باران» (2001) بلغت شهرتها الى أقاصي العالم. فمجيدي يستخدم ممثلين غير محترفين يؤدون أدوار في غاية الحساسية، مما يعطى صبغة واقعية إنسانية أكثر للأحداث. ربما أن هذه الرسائل الإنسانية العامة، هي الطريق الذي أوصل مجيد مجيدي إلى الترشيح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي عن فيلم «أطفال الجنة» عام 1997، وقد تكون هي نفسها التي لم تجعله مخرجاً مؤثراً داخل إيران وخارجها.
وعلى الأخص فيلمه (لون الجنة) The color of paradise أو (رنك خودا) باللغة الفارسية والذي يحكي قصة صبي أعمى في الثامنة من عمره "محسن رمضاني" يقضي إجازته الدراسية مع جدته وأختيه ووالده "حسين محجوب" الذي يبدو متبرما من هذا الوضع منشغلا عن ولده بمشاريعه الخاصة. كان الطفل محمد رمضاني وإسمه الحقيقي "محسن رمضاني" الأعمى يتحسس جمال الحياة في كل حركة كان يلامس أطراف النبات والإعشاب وحصى البحيرات وحتى الهواء وأمواج البحر ، كان يتحسس المناقير الرقيقة للطيور الصغيرة بأنامله، كان يستمع إلى طير نقار الخشب ليفهم ماذا يقول، بل أن المخرج أراد إفهامنا بأن محمد رمضاني يحاول إيجاد علاقة حسابية أو موسيقية إيقاعية يفك بها شيفرة لغة نقار الخشب، لذلك راح يمسك بخشبة ويطرق بها على جذع شجرة في محاولة لمحاكاة لغة الطير .. لقد كانت مفارقة شاعرية أن يكون إسم الفيلم (لون الجنة) ليحكي عن صبي أعمى ! رغم أن اللون لا يمكن أن يدرك إلا بالنظر والإبصار لهذا كان فيلماً شفافاً يوقظ في نفس المشاهد مشاعر الرحمة والشفقة والعطف وأحاسيس الجمال .
حيث نشاهد بنظرة تأملية في الطبيعة وأصواتها، وكيف أن الطفل الأعمى محمد كان قادراً على أن يستشف هذه الطبيعة، ويستشعرها بكل حواسه الأخرى، بينما كان أبوه، غير قادر على التعامل معها ولا يشعر بها البتة. تلك الرسائل الانسانية عن الحب والتضامن، وماذا يمكن للحب أن يفعل، وأن يغير وأن يدفع بالآخرين إلى التضحية ، نتسائل حينئذ ما هو العماء ومن هو الضرير حقاً الذي يعيش في جنة ولا يرى ألوانها.
يخاطب الطفل محمد رمضاني معلمه "علي فاطمي" ،الضرير مثله، فيقول له وهو ينتحب ببكاء مؤلم وحارق ودموع تنهمر من روح قلبه، في ذروة تصعيد درامي تراجيدي قوي، فيقول:( قال لي أستاذي أن الله يحب الضرير أكثر ، لأننا لا نرى .. ولكنني سألته لو كان كذلك إذا لماذا خلقنا الله ضراراً؟ هل خلقنا هكذا حتى لا نراه ؟ . أجابني ، إن الله لا تدركه الأبصار وإن الله في كل مكان تستطيع أن تراه بإحساسك ، تستطيع أن ترى قدرته عندما تلمس الأشياء بيديك .. ومنذ ذلك الحين وأنا أتلمس الأشياء والى أن يأتي اليوم وتلمس يدي يداه .. لكي أخبره بكل شيء ، وبكل مافي قلبي من ألم وحزن ) .