بن جعفر يَخلف المرزوقي... و'تونس الصفراء' تواجه القمامة والعطش
عبد الرزاق قيراط
2012-07-16
تعثّر
رئيس الحكومة حمادي الجبالي مرّة أخرى فزلّ لسانه ليقول ما لا يجوز قوله.
في مؤتمر النهضة التاسع، ألقى خطابه بوصفه الأمين العام للحركة التي تحكم
البلاد بنتيجة الصناديق أو كما يقال فخرا بالشرعيّة الانتخابيّة. وكان
الجبالي يخطب أمام حشود المؤتمر بحماسة ظاهرة ولكنّ السرعة التي كان
يتكلّم بها أوقعته في خطأ جسيم عندما تحدّث عن' دكتاتوريتنا الناشئة' وهو
يقصد طبعا 'ديمقراطيتنا الناشئة'.
وغرقت قاعة المؤتمر فجأة في صمت
ثقيل و لكنّ صفحات التواصل الاجتماعي عجّت بالتعاليق الصاخبة والتفسيرات
الساخرة واستنجد البعض بالتحليل النفسيّ لما تخفيه تلك الزلّة من تعبيرات
لاشعوريّة، وبحث آخرون على الأرجح عن آية من القرآن أو حديث نبويّ يعزّز
ما ذهبت إليه النظريّات النفسيّة فوجدوا قولا مأثورا لعليّ بن أبي طالب
كرّم الله وجهه :'ما أضمر أحدكم شيئا إلا أظهره الله في فلتات لسانه'.
ويبدو أنّ السيّد حمادي الجبالي يضمر الكثير من الأفكار ولكنّ لسانه
يظهرها بتلك الزلاّت فيضع نفسه وحزبه معه في مواقف 'بايخة'، لأنّ الخصوم
السياسيّين بالمرصاد وهم يلاحقونه منذ أن تحدّث عن 'الإشارات الربّانيّة
والخلافة السادسة' التي بشّر بها على إثر الفوز في انتخابات أكتوبر.
وحتّى
لا نظلم الرجل، فتحت القاموس المتخصّص في علم النفس بحثا عن شرح لمصطلح
[Lapsus] الذي استعمله فرويد في تفسيره لتلك الأخطاء غير الإراديّة. فإذا
به لا يطمئنّ لمن يرى أنّ الإرهاق والضغوطات بأنواعها سبب كاف لتعليل تلك
الظاهرة، ويعتقد أنّها تعبيرات عن الكامن في لا وعينا. وإذا صحّ ذلك جاز
القول إنّ علاقة النهضة بالمرزوقي آيلة إلى قطيعة لا رجعة فيها، ففي نفس
الخطاب تحدّث الجبالي عن السيّد ' مصطفى المرزوقي' بدل ' مصطفى بن جعفر'،
وفي ذلك برهان يعزّز تكهنات ترى أنّ الرئيس القادم الذي ستزكيّه النهضة قد
يكون بن جعفر، وهذا الأخير يتّهم منذ فترة بتقديم الخدمات الجليلة لنواب
الأغلبيّة في المجلس التأسيسيّ في مغازلة ذات معنى.
غير أنّ بن جعفر
ليس وحده في سباق الغزل، وقد تفوّق عليه الشيخ عبد الفتاح مورو وهو يلقي
بكلمته في المؤتمر الذي دُعي إليه باعتباره مؤّسسا للحركة مع الشيخ راشد
الغنوشي. فقد افتتح مورو خطابه بمقدّمة غزليّة من أعذب ما قيل في ذلك
الغرض: ' دعاني للحضور أخي الأكبر وشقيق روحي وحبيب قلبي الأستاذ راشد
الغنوشي الذي طالما تخاصمت معه، ولكنّ ودّي له وودّه لي لم ينقطعا أبدا..
واستجبت لداعي شوق في نفسي ...'
وتذكّرنا هذه المقدّمة بعتاب المتنبّي لسيف الدولة في قوله: 'يا أعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم.'
والمشهد التونسيّ في عمومه لا يخلو من خصومات وتنافس وتدافع بحكم الصراع الحزبيّ المشروع من أجل الوصول إلى الحكم.
ولعلّ
أفضل حَكَم للفصل بين الخصوم شخصيّة محايدة لا ناقة لها ولا جمل في تونس.
لعب خالد مشعل ذلك الدور وكان بارعا إلى حدّ كبير فاستأذن الحضور وهو يلقي
كلمته ليبدأ حديثه عن تونس قبل النهضة لأنّ:' الشعوب هي الأصل والحركات هي
الفرع' ثمّ ذكر محمّد البوعزيزي وترحّم على الشهداء فلهم وحدهم كلّ الفضل
في نجاح الثورة. وفي حديثه عن التحالف بين الشركاء في الحكم امتدح
'الترويكا الجميلة' كما وصفها ونصح أطرافها بالمحافظة عليها باعتبارها
سبقا يحتذى في العالم العربي.
وكان واضحا أنّ مشعل يريد تثبيت الصلح
بين مورو والنهضة فقال:' يا أخي الشيخ عبد الفتاح كن أنت وأخوك وزميلك في
النضال الشيخ راشد يدا واحدة'.
وطالب مشعل بأن يجهر الحكام الجدد في
تونس وفي العالم العربي عموما بحقّ فلسطين في الحرّيّة وطي صفحة المفاوضات
والمساومات إلى الأبد وهذا ليس صعبا. ودليله في ذلك بيت المتنبّي الذي جاء
في خاتمة كلمته:
[إذا اعتاد الفتى خوض المنايا -- فأهون ما يمر به الوحول]
حرب القمامة الثانية.
بالتوازي
مع انعقاد المؤتمر التاسع لحركة النهضة، تعقّدت الأوضاع البيئيّة في عديد
الجهات والأحياء وأعلن عن نشوب المعركة الثانية ضدّ القمامة أو بسببها.
وليس في عبارة المعركة مبالغة أو تهويل فقد اعتبر رئيس الحكومة حمادي
الجبالي أنّ هذا الوضع المتعفّن جاء نتاجا 'لحرب المواقع السياسيّة في
مستوى المؤسّسات'. قال ذلك في زيارة فجئيّة لحيّ الزهور بالعاصمة حيث
تراكمت النفايات وأكياسها في الأزقّة والساحات الأمر الذي جعل رئيس
الحكومة يشعر بهول المفاجأة وهو الذي أراد أن يفاجئ الجميع بزيارته. صعق
الجبالي من كثرة الأوساخ فأخذ يتساءل في حيرة:' أين البلديّات؟ .. أين
السلطات؟..' وأضاف سؤالا ثالثا لا يمكن إلاّ أن يفاجئ المشاهدين فقال في
زلّة لسان جديدة:' أين الحكومة ؟''ولا يشكّ أحد أنّه الأقدر على الإجابة
باعتباره الرئيس لتلك الحكومة. هذه الزلّة وردت في التقرير الذي بثته قناة
نسمة في نشرة أخبارها ، أما في القناة الوطنيّة فغاب السؤال وحضرت بعض
المواعظ التي تذكّر المواطن بضرورة التعامل مع الشوارع باعتبارها البيت
الكبير لكلّ التونسيّين ، لكنّ السكّان الذين ظهروا في التقرير عبّروا عن
غضبهم وهم يعانون من الروائح الكريهة وكلّ أنواع الحشرات التي وجدت محيطا
يلائم تكاثرها. والقمامة إذا تراكمت وانتشرت عطورها تسبّب الكثير من
التشنّج والغضب، تماما كما وقع في 'نابولي' بإيطاليا عندما تكدّست لديهم
آلاف الأطنان على طول الطرقات والساحات. وكانت السلطات عاجزة عن إدارة
الأزمة التي لم تكن أطرافها مقصورة على عمدة المدينة أو وزراء الحكومة
فحسب، وإنّما كان الطرف الرئيسيّ المافيا المحلّيّة 'كامورا'. وهكذا نعتقد
أنّ وراء كلّ أزمة قمامة ''مافيا خطيرة'' وإن كانت بلادنا تخلو من مافيا
كامورا فإنّ لدى بعضنا تفكير مافيوزيّ رهيب ، وإلاّ فكيف نفسّر انتشار هذه
الآفة في جلّ المدن بطريقة ممنهجة ومتكرّرة. فتونس تعيش اليوم حربها
الثانية مع نفس العدو، فقد عاشت البلاد قبل أشهر معركة مشابهة سبّبت
توتّرا في العلاقة بين حركة النهضة الحاكمة واتحاد العمّال الذي دعا إلى
اضرابات تعطّلت فيها أعمال النظافة لمدّة أربعة أيام ما تسبّب في تراكم
الأوساخ بشكل لا يحتمله بشر، وتعرّضت حينها مقرّات الاتّحاد إلى قصف لا
يتوقّف بالأكياس السوداء المليئة بالنفايات. والغزوة الجديدة لهذه الأكياس
تدفعنا بعودتها إلى ترجيح أن يكون شكّنا في محلّه لنقول عن الداهية الذي
خطّط لإشعال الأزمة من جديد: ' ياله من مافيا!'.
تونس الصفراء.
حديثنا
عن المافيا أو التفكير المافيوزي لا يتّصل فقط بانتشار القمامة في طرقاتنا
وأحيائنا، فالتونسيّون يواجهون هذه الأيام انقطاعا غير مسبوق للتزوّد
بالماء الصالح للشراب والتيّار الكهربائيّ في صيف تميّز بحرارة حارقة.
(ولهذا السبب ربّما، استقبل المرزوقي في مصر من طرف وزير الكهرباء عوض
الجنزوري رئيس الوزراء).
وفي بعض الجهات حُرم الناس من مياه الشرب
لأسابيع متتالية وأصبحت الاحتجاجات الجديدة تطالب بالماء، الماء فقط بعد
أن كانت تطالب بالشغل والكرامة. والطريف في هذا الوضع الجديد أنّ توفيق
عكاشة صاحب قناة الفراعين تنبّأ بأن تصبح تونس الخضراء صفراء' بسبب
الغنوشي وحركة النهضة الحاكمة' لذلك توقّع انهزام الإسلاميين في
الانتخابات القادمة وهو يلاحظ 'كراهية غير طبيعيّة' من التونسيين لهم.
ولكنّ تلك الهزيمة لن تحدث إلاّ إذا عمل التونسيون بنصيحة عكاشة وهي
المطالبة 'برقابة دوليّة من الأمم المتحدة للانتخابات القادمة حتى لا يحدث
فيها ما حدث في الانتخابات المصريّة'. وذهب عكاشة إلى أبعد من ذلك وهو
ينبّه القوى السياسية الوسطية في تونس والذين يريدون أن تستمرّ تونس خضراء
لا صفراء إلى خطر أمريكيّ محدق ' خاصة بعد انتهاء الولايات المتحدة من
بناء قاعدتها ' في بلادنا. وفي هذه المتاهة الجديدة من قناة الفراعين
وصاحبها المتنبّي توفيق عكاشة أفكار مافيوزيّة رهيبة تحوّل فضائيّته من
قناة الفراعين إلى قناة كامورا.
كاتب تونسي
abderguirat@gmail.com