** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 البعد الروحي للحرب..!

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الكرخ
فريق العمـــــل *****
الكرخ


عدد الرسائل : 964

الموقع : الكرخ
تاريخ التسجيل : 16/06/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 4

البعد الروحي للحرب..! Empty
05062012
مُساهمةالبعد الروحي للحرب..!

البعد
الروحي للحرب..!


سعيد أراق




إن الأعياد تفتح أبواب عالم الآلهة، وفي
هذا العالم يتحول الإنسان إلى كائن ممسوخ ويرتقي إلى حالة وجود فوق-إنساني.
الأعياد تنفتح على الزمن المطلق، وتسمح بتعيين علامات فارقة في مسار الزمن العادي.
إن رزنامة الأيام الفاصلة بين الأعياد، لا تتضمن سوى أيام جوفاء وبدون اسم ولا
هوية، أيام لا تستمد وجودها إلا في علاقتها بالتواريخ المعهودة للأعياد، والدليل
على ذلك، أننا –رغم أن الأعياد قد فقدت اليوم كل معنى حقيقي- مازلنا نحدد الأحداث
زمنيا بقولنا: سيحصل ذلك بعد عيد الفصح، أو حصل ذلك قبل عيد ميلاد المسيح. وعلى
غرار الأعياد، تعتبر الحرب بدورها علامة فاصلة في سياق انسيابية الزمن، فالحرب
تدرج حدودا فاصلة في حياة الشعوب، لأنها تدشن على الدوام بداية عصر جديد، فبدايتها
إيذان بزمن ينتهي، ونهايتها إيذان بتدشين بداية زمن جديد يختلف عن سابقه اختلافا
تحدده أكثر خصائصه مثولا للعيان. وفي إطار هذا الزمن الجديد، لا تستمر الحياة ولا
الإنسان على نفس النمط، فكل شيء يبدو في حالة انفراج حين يكون الوطن في حالة نقاهة
بعد مآسي الحرب، وكل شيء يبدو متوترا حين يكون الوطن في حالة استعداد للحرب، ولذلك
يتم التمييز بعناية بين فترات ما قبل الحرب وفترات ما بعد الحرب.



إن الشعوب البدائية التي تبدو فيها
الحرب متجذرة ومتوالية عبر فترات متقطعة، تعيش بدورها نفس الحالة كما يكشف عن ذلك
الملاحظون، لكن هذه الحالة لا ترتبط بما قبل أو ما بعد الحرب، بل بذكرى العيد الذي
مضى أو بحالة انتظار العيد القادم، ويتم الانتقال من الحالة الأولى إلى الحالة
الثانية عبر وسائط غير محسوسة. والواقع أن الانتقال من حالة ما بعد الحرب إلى حالة
ما قبل الحرب، يتم بدوره عبر وسائط تصاعدية، والتحول المرتبط بهذا الانتقال يطرأ
بشكل متزامن على مستويات الوعي وعلى مجال السياسة والاقتصاد. إن زمن السلام زمن
حيادي، فهو يفسح المجال لانطلاق توجهات تتناقض مع التوجهات الحربية، وبهذا المعنى
فزمن السلام يعتبر نوعا من الحشو الذي يملأ الزمن الفاصل بين أزمتين أو حربين، ومن
هنا يأتي سحر الحرب، التي ترجح كفتها شيئا فشيئا، فتصبح أمرا واقعا، ثم لا تلبث أن
تمضي آخذة معها كل ما سببته من محن وأهوال.



إن الحرب تعتبر بمثابة كارثة عبثية
وإجرامية، فكرامة الإنسان وشرفه يمليان عليه رفضها وتجنبها بكل ما يمكن من جهد،
لكنها سرعان ما تبدو ضرورية، فتتعاظم وتكبر وتتحول إلى مصير يزرع الدمار ويشيع
الخراب، وحتى حين يشجبها العقل، لا يملك القلب إلا أن يقدرها ويحترمها، كما يقدر
الإنسان كل قوة خارجة عن ذاته أو بعيدة عن متناوله. لكن هذا الإجلال والإكبار، ليس
سوى بداية لما هو أدهى وأمر، لأن الإنسان الذي يكتوي بالحرب، سرعان ما يعتبر أنها
حتمية، فيرى فيها عقابا إلهيا إن كان عالم دين، وبذلك يتفق مع جوزيف دو ميسطر











(*) Joseph de Moistre
، أو يكتشف فيها قانون الطبيعة أو محرك التاريخ، إن كان فيلسوفا، وبذلك يلتقي
موقفه مع موقف هيغل(**). ومن هذا المنظور، لا
يتم تصور الحرب باعتبارها حادثا عارضا يطرأ على نظام العالم، بل باعتبارها المعيار
الجوهري للكون، وبذلك تصبح الحرب إوالية جوهرية محركة للكوسموس، وتكتسي –انطلاقا
من هذا الفهم- قيمة دينية بالضرورة، فيتم تمجيد منافعها وهكذا لا تبدو الحرب سلوكا
همجيا، بل تصبح أصل الحضارة وأرقى إنجازاتها، لأنها تتيح خلق كل شيء، أما السلام
فيؤدي إلى ذبول كل شيء بسبب الركود والابتذال. لذلك لا بد من الحروب لإعادة تجديد
المجتمعات وإنقاذها من الموت وحمايتها من الآثار المدمرة للزمن. إن حمامات الدم
المترتبة عن الحروب، تعتبر بمثابة الإكسير الذي يعيد لهذه المجتمعات، عهد الصبا
ورونق الشباب.



الحرب وقوة التجدد:


هناك إقرار بأهمية التأثيرات المرتبطة
بالأعياد، فعبرها، هي أيضا- كان يتم البحث عن التشبيب الدوري للمجتمع، وكان يسود
الاعتقاد بأن إقامة الأعياد تسمح بجني مرحلة جديدة من القوة والصحة والحيوية. إن
الأصل الميثولوجي لكلمة (حرب)، يسمح هو نفسه برصد التقارب الموجود بين الحرب
والآثار التجديدية والتشبيبية للمجتمع، لأن الأصل الميثولوجي لكلمة (حرب)، يجعل
منها إلهة الخصب التراجيدي. وهكذا تصبح الحرب بمثابة نوع من الولادة الهائلة،
وكالأم التي تخاطر بحياتها من أجل إخراج مولودها إلى الوجود، يتعين على الشعوب
أداء غرامة دموية من أجل توطيد أو تمديد وجودها، لأن "الحرب تمثل الشكل
الأكثر أولية للافتتان بالحياة"[1]،
فهي تترجم قانون ولادة الشعوب وتتطابق مع الحركات الحشوية
Mouvements
viscéraux
ذات الطبيعة البشعة
والكريهة المرتبطة بعمليات الوضع والولادة. وبهذا المعنى، فالحرب لا تخضع لسلطة
الإرادة أو سلطة العقل، ورغم ذلك فإن انفجاراتها المدمرة تكشف للإنسان مدى القوة
الكامنة المرتبطة بالطاقات الجوفية الغامضة، وتنتشله بالتالي من الجمود القصي الذي
يتمرغ في حمأته أثناء زمن السلام، حين يكون مقيدا بحالة من الهدوء المخزي وراغبا
في الوصول إلى تحقيق غايته الأكثر انحطاطا وحقارة: الاحتماء ضمن نظام الملكية. إن
الحرب تفتت النظام المشلول والمحتضر، وتجبر الإنسان على بناء مستقبل جديد على
أنقاض هائلة وفظيعة[2].



وعلى هذا الأساس، كيف لا نتبين في
الحرب، المحاولة اليائسة الأخيرة والحجة النهائية للحكام، والضرورة القاسية
والرهيبة التي ينبغي الاحتكام إليها حين تفشل كل الوسائل وتغلق كل المنافذ؟ إن
الحرب لا تعتبر مجرد ترياق كريه تتجرعه الأمم أحيانا في بحثها عن النجاة، بل تمثل
علة وجود هذه الأمم، والأكثر من ذلك أنها تسمح بتحديد مفهوم الأمة: الأمة هي مجموع
الرجال الذين ينخرطون في الحرب ويقاتلون جنبا إلى جنب. وبالإضافة إلى ذلك، فالحرب
تحدد التعبير السامي عن إرادة الوجود الوطنية، ولذلك فإنها تمثل –بالنسبة للشعوب-
أرقى وازع أخلاقي. إن الحرب لا ينبغي لها أن تكون في خدمة توطيد السلام، بل ينبغي
لزمن السلام أن يهيئ الحرب، وذلك لأن زمن السلام ليس سوى هدنة انتقالية بين حربين[3]،
وكل الجهود المبذولة في زمن السلام، توجه نحو الحرب وتستمد منها –في نفس الوقت- التسويغ
والمباركة، وكل ما لا يخدم الحرب، يعتبر لاغيا وحقيرا لأن "المصير الإنساني
أو الاجتماعي لا يستمد مبرره إلا إذا كان يهيئ الحرب"[4].



الحرب: القربان المقدس



إن هذا التصور الذي استعرضناه أعلاه،
يعتبر تصورا دينيا بالأساس، لأن الحرب –وهي لا تقل في هذا الجانب عن العيد- تبدو
كأنها زمن لما هو مقدس، وتبدو كفترة التجلي الإلهي. إنها تدرج الإنسان في عالم
مسكر، وحضور الموت في هذا العالم يصيب الإنسان بالرعشة والرجفة، ويضفي على مختلف
أفعاله قيمة عليا. وبموازاة مع ذلك، يتوهم الإنسان أنه يكتسب في هذا العالم […]
قوة روحية تبدو معها محن الحياة الدنيا، غير ذات وزن فيشعر بأنه لا يقهر..:
"لقد غطسنا إلى أن وصلنا إلى أعماق الحياة لكي نخرج من جديد بعد أن تغيرنا
تغيرا تاما"[5].
إن الأمر يبدو كما لو كانت الحرب تسقي المقاتلين جرعات وافية حتى الثمالة من شراب
المحبة القاتل، الذي يغير تصورهم للحياة والوجود: "بإمكاننا الآن التأكيد
بأننا عشنا –نحن جنود الجبهة- جوهر الحياة واكتشفنا جوهر كياننا نفسه"[6].



وعلى هذا الأساس، فإن الحرب التي تتحول
إلى إله جديد، تتيح محو كل الذنوب ومنح العفو والغفران، ويشيع بالتالي الاعتقاد
بأن خوض الحرب لأول مرة، تنعكس فضائله القصوى على المحارب، لأن ذلك يجعله بمثابة
خادم كنيسة جسور يقيم طقوس شعائر تراجيدية وبمثابة عبد مختار من إله غيور. وبين
أولئك الذين يتلقون بأجمعهم هذه المباركة، أو أولئك الذين يتقاسمون جنبا إلى جنب
مخاطر المعارك والحروب، تتولد أخوة السلاح، وتنتسج بين المقاتلين روابط قوية
ودائمة، وهذه الروابط تمنحهم في نفس الوقت، الإحساس بالتفوق والتواطؤ إزاء كل
أولئك الذين ظلوا بمنأى عن الخطر أو الذين لم يلعبوا –على الأمل- أي دور فعال في
المعركة، وذلك لأنه لا يكفي التعرض للخطر، بل ينبغي أن يكون المشارك في المعركة قد
وجه الضربات وأصاب الهدف. إن الأمر هنا يأخذ بعدا مضاعفا، لأنه ينطوي على أن الأمر
لا يتطلب من المقاتل أن يموت فقط. بل عليه أيضا أن يقتل. وهذا يعني أن الجندي الذي
يتولى نقل الجرحى أثناء المعركة، لا مجد له، لأن المقاتلين ليسوا سواء وهناك
تفاوتات بينهم، وذلك بالنظر إلى أن مختلف أجنحة السلاح، انطلاقا من سلاح الطيران
وصولا إلى المصالح الإدارية العسكرية، مرورا بمناطق العمليات التي تتم في الخطوط
الأولى والخطوط الخلفية، والأوسمة المحصل عليها، والجراح، والتشوهات، كل ذلك يمثل
مسارات تراتبية تصنع مجد المقاتل. إن هذا الوضع يتضمن بعض العناصر المرتبطة
بالوضعية الخاصة لمجتمعات الرجال في الحضارات البدائية، هذه المجتمعات التي لا
يتاح الالتحاق بها إلا بعد امتحانات أليمة، لكن الملتحقين بها يتحولون إلى أعضاء
يتمتعون بحقوق خاصة داخل الجماعة.









الحرب الشاملة:


إن المجتمع الحديث –بالنظر إلى طبيعته
نفسها- يتحمل بانزعاج وقلق هذا النوع من محترفي العنف، ويعمل على تنحيتهم رغم أنهم
سرعان ما يظهرون من جديد حالما تصبح الظروف مواتية للظهور. لكن إذا كانت البنية
الجديدة للمجتمعات والشكل الميكانيكي أو العلمي للمعارك، يستبدلان البطل المفوض
بالجندي المتعدد والمجهول، فإنهما لم يغيرا الوضع القديم، لأنه إذا كانت ضرورة
الالتزام بنظام دقيق وبوسائل التطبيق الصارم لهذا النظام، تحد بدون شك من نزوة
المبالغات البطولية القديمة، فإن الحرب تعوض فقدان هذه الانفلات الغريزية، بالجنوح
نحو التضخم باستمرار. وبذلك فهي تكتسي مظهرا آخر من مظاهر العيد: المظهر الشامل،
لأن المعركة تصبح قضية جموع من الناس تبحث عن تحقيق الانتصار بأدنى تكلفة وبأقل
الخسائر، وبذلك تتوجه الحرب نحو ضرب الضعيف، وتنحو الخطط التكتيكية نحو تجنب
المواجهة المسلحة المباشرة والمتكافئة. وهذا الابتعاد عن المبارزة المباشرة، يفسح
المجال لعمليات الاغتيال أو الاقتناص، ويصبح مدار الحرب هو مباغتة خصم أقل عددا
وسلاحا، وذلك لسحقه مع البقاء بعيدا عن متناوله إن كان ذلك ممكنا. لذلك بدأ التوجه
أكثر فأكثر نحو إنجاز العمليات الحربية أثناء الليل وعبر المذابح المتبادلة المقترفة
في حق المدنيين العزل الذين يعملون لتموين المقاتلين.



إن هذا يعني أنه لا وجود في حروب اليوم،
لساحة حرب معروفة الحدود بدقة. في القديم كانت ساحة الحرب تمثل امتدادا محصورا
ومحددا، شبيها بالحلبة أو الحلقة أو ميدان اللعب. وهذا الامتداد المحصور الذي كان
يجري في نطاقه العنف وتتوقد في أتونه الحرب، كان يفسح المجال حواليه على الأقل،
لعالم تتحكم فيه قوانين أكثر رحمة بعيدا عن دموية العنف وبشاعة الاقتتال. أما
الآن، فإن الحرب تمتد لتشمل كل أراضي الأمم، بل حتى زمن الحرب يصبح بدوره غير محدد
وغير محصور، فالعدوان الحربي لا يبدأ بعد إعلان رسمي يحدد لحظة بدئ إطلاق النار،
وإنما يتم اللجوء إلى الهجوم المباغت، وذلك لتحقيق سبق حاسم يسمح بالتفوق على خصم
طائش. وعلى هذا الأساس، فإن المكان والزمان المخصصين للمواجهة الجسيمة، أصبحا
اليوم غير محددين وغير مفصولين عن ديمومة الزمان وامتدادات المكان.



وبموازاة مع ذلك، نلاحظ أن صيغة الحرب
اليوم، تميل تدريجيا نحو استبعاد وتنحية كل سلوك فروسي ومضبوط، وبذلك تصبح الحرب
–إذا صح القول- منخلة ومردودة إلى جوهرها التام، أي أنها تصبح مجردة من كل إضافة
غريبة عن كيانها الحقيقي الخام، وتصبح متحررة من هذا الزواج الهجين الذي جمع بينها
وبين حس اللعب والمنافسة. وبهذا المعنى فإن الحرب أصبحت تعتبر اليوم "جريمة
محضة واغتصابا محضا"[7].
أما قديما فقد كانت تجيز –بأكثر الصيغ مفارقة- قيم الشرف واحترام الخصم، وتحرم
استعمال بعض الأسلحة، وبعض الخدع، وبعض الضربات، وترسي عرفا مرتبطا بطقوس معقدة
وبآداب صارمة تحفز على التنافس في حسن ونبل السلوك بقدر التنافس في الشجاعة
والإقدام.



العلاقة بين جاذبية وبشاعة الحرب:


إن الحرب، هذه الحرب القذرة والكاسحة،
المتلفة والمكلفة، تتطلب من الفرد أشد وأقسى التضحيات دون أن تمنحه أي شيء في
المقابل. إنها تفنيه دون أن تهب له أي نوع من التعويض، ثم إنها تبدو أكثر فأكثر
مختزلة في مجرد اختبار شرس للقوة ومزايدة مضاعفة عن الأكاذيب وأعمال العنف. ورغم
ذلك، فإن هذه الجوانب هي التي تسمح أكثر فأكثر، بتمجيد الحرب التي يتم التعامل
معها باعتبارها نعمة قصوى بالنسبة للناس، وباعتبارها المبدأ المتحكم في الكون
نفسه. وعند هذه النقطة بالذات تبدو أمجاد الحرب أكثر إقناعا بضرورتها من أي وقت
مضى، وتتولد عنها –كما لم تتولد أبدا من قبل- غنائية باهرة ومواقف دينية متحمسة.
إن الحرب تمارس قوة جذب متزايدة بتزايد التضحيات المترتبة عنها والدناءة المرتبطة
بها.



إن هذه الحقيقة لا ينبغي أن تثير الدهشة
والاستغراب، لأن ما يسري على الأهواء يسري أيضا على الحرب. فالأهواء لا تبدو وفية
أكثر لطبيعتها، ولا تبدو أكثر فخامة وشبه مثالية، إلا حين تكون متحررة من كل
القيود التي تحد من اندفاعها. ونفس الشيء يسري على الحرب، فهي حين تتجاوز كل
الحدود، وحين تعبئ طاقات الشعب وتهدر دون حساب موارد وثروات أمة كبيرة، وحين تخرق
كل قاعدة وكل قانون، وحين تتجاوز كل ما هو بحجم الإنسان، فإنها تظهر آنذاك مجللة
بأكثر الهالات التماعا، وتسحق في طريقها أجيالا بأكملها تحت أنقاض هائلة، وتتألق
بالبريق الكئيب الذي تستمده من الحريق الهائل الذي أوقدته، وبذلك تبدو فعلا بمثابة
ذروة النوبة المرعبة للحياة الجماعية. لا شيء يمكن أن ينافس الحرب في مجدها
المشؤوم المستمد من قدرتها على أن تكون الحادثة الوحيدة التي بإمكانها أن تنتزع
بالقوة أفراد المجتمع الحديث، من مشاغلهم الخاصة لتطوح بهم فجأة في غياهب عالم
آخر، يفقدون فيه الإحساس بامتلاك أنفسهم ولا يجدون فيه سوى الحداد والألم والموت.



وكلما كان التباين كبيرا بين حلاوة
السلام وبين العنف الكريه للحرب، كلما زادت قدرة هذه الحرب على إغراء فئة من
المتحمسين وإرعاب الآخرين الذين يرون فيها –بسبب عجزهم عن مواجهتها- قضاء وقدرا
مدمرا يشلهم تماما، لذلك فإن التمجيد شبه الروحي للحرب، يحدث في اللحظة التي تصل
فيها هذه الحرب إلى أقصى درجات بشاعتها. في القديم، كانت الحرب تمثل بالنسبة للناس
موضوعات لأحاديث هزلية وساخرة، وكانوا يعتبرونها انشغالا غير عادي، أو يلعنون ما
يترتب عنها من شقاء وآلام ودمار. لكنها لم تكتسب قدرتها على إصابة الناس بالدوار،
إلا حين تجلت –بسبب انفلاتها من كل مبدأ أخلاقي وبسبب امتدادها لتشمل كل شيء وكل
الناس- كنوع من النكبة أو البلية التي لا تعقل ولا تطاق، لكنها تستمر رغم ذلك على
مدى أعوام كاملة، وتتمادى لتصل تقريبا إلى حدود العالم المتحضر.



إن اتساع الحرب وامتداداتها في الزمان
والمكان، وقوتها الخارقة وطابعها الفظ وطبيعتها العنيفة التي تنكشف للعيان بعد طرح
بذل الاستعراضات العسكرية، كل ذلك يداعب ذوي القلوب الواجفة، ويقنعهم بأن الحرب
تفتح لهم أبواب جحيم أشد واقعية وأكثر قوة من الحياة السعيدة والرتيبة التي يمكن
أن يعيشوها في زمن السلام. وهكذا يرون في الحرب التمظهر المرعب لذلك المبدأ الذي
ينشأ عنه كل شيء والذي يكشف لهم عن وجودهم الحقيقي والفعلي. وبهذا المعنى، فالحرب
تمثل بداية وتنظيما وتتويجا ختاميا في نفس الوقت، لأنها تشيد –على أنقاض عالم وهمي
ومنحل، ضعيف، باهت ومزيف في نفس الآن- ذلك الانتصار المقدس للموت الذي رأينا مرارا
أنه كان يشغل قديما، خيال الناس.



الحرب: مصير الأمم



يمكن أن نفهم إذن، أن الحرب تثير في نفوس
الناس مشاعر انبهار لا تقل عن مشاعر الانبهار التي تتملكهم أمام الموت. إنها تلعب
دور الأعياد الدينية القروية القديمة. فهي التي تذكر الفرد بأنه ليس سيد مصيره،
وبأن القوى العليا التي تتحكم فيه، تنتزعه فجأة من هدوئه، وتملك القدرة على سحقه
متى شاءت وكيفما تريد. إن الحرب تبدو فعلا، النهاية التي تتهيأ لها الأمم بشكل
محموم، إنها تعتبر بمثابة الاختبار الأسمى الذي يؤهل هذه الأمم للدخول في فترة
زمنية جديدة أو يقصيها منها. وهي اختبار لأنها تتطلب من الإنسان كل شيء: الثروات
والموارد والأعمار، وتبتلع كل ذلك بدون هوادة وبشره كبير.



إن الحرب تحقق إشباع الغرائز التي
تكبتها الحضارة، وتتيح لهذه الغرائز الحصول على تعويض باهر: ذلك التعويض الذي
يتمثل في تدمير الذات وتدمير كل ما يحيط بها. إن الاستسلام للهلاك والقدرة على
تقويض وتدمير كل ما له شكل واسم، يأتيان بتحرر مضاعف وفاخر من تعب الحياة المقيدة
بشتى أنواع المحظورات وبشتى أنواع سلوكات اللياقة المحترسة. إن الحرب خليط هائل من
المجتمعات وذروة اكتمال وجودها. وزمن الحرب هو زمن التضحية، لكنه أيضا زمن القطيعة
مع كل قاعدة، وهو زمن الخطر القاتل، لكنه خطر مطهر ومقدس، وهو زمن إنكار الذات وزمن
التجاوزات. وكل هذه الجوانب، تجعل الحرب تتبوأ مكانة العيد في العالم الحديث،
وتثير نفس الافتتان ونفس الحماس. الحرب ليست إنسانية، وهذا كاف ليجعلها تبدو إلهية
في نظر الناس، وهاهم ينتظرون منها النشوة والشباب والخلود.



تبادل وظائف الحرب ووظائف العيد



في المجتمعات البدائية كانت الحروب
تفتقر –بالمقارنة مع الأعياد- للرونق والفخامة، وهذا الافتقار كان يجعلها تبدو أقل
شأنا، فهي كانت إما بمثابة مجرد فواصل زمنية قصيرة، أو حملات من أجل الصيد أو
النهب أو الانتقام، وإما كانت تعتبر حالة مستمرة تشغل حيز الحياة والوجود، وتمثل
بالتالي انشغالا خطيرا بالتأكيد، لكن استمرارها في الزمن، يفقدها كل طابع
استثنائي. وفي كلتا الحالتين، كان العيد يوقف الأعمال الحربية ويخلق مصالحة عابرة
بين أشد الأعداء ضراوة، ويدعوهم إلى التآخي ضمن فورة الاحتفال بالعيد. وفي القديم
أيضا، كانت الألعاب الأولمبية تتيح تعليق الخصومات عند الإغريق، وبالتالي كان
العالم الإغريقي برمته يتوحد في ابتهاج مؤقت ترعاه الآلهة.



أما في المجتمعات الحديثة، فالعكس هو
الذي يحدث، لأن الحرب توقف كل شيء، بما في ذلك المنافسات الرياضية والاحتفالات
والمعارض الدولية. وهذا يعني أن الحرب تغلق كل الحدود التي تفتحها الأعياد. وهنا
نلاحظ من جديد أن الحرب قد ورثت عن الأعياد، كل قوة تأثيرها، لكنها تستعمل هذه
القوة التأثيرية في اتجاه معاكس تماما: إنها تخلق التفرقة بدل الوحدة. إن الأعياد
تمثل –في المقام الأول- عامل تقارب وتحالف، لذلك اعتبرها الملاحظون، رابطة
اجتماعية بامتياز، لأنها تضمن قبل كل شيء، تماسك الجماعات التي تلتقي دوريا من أجل
الاحتفال، وتجمعها في جو المرح والهذيان. هذا بالإضافة إلى أن العيد يمثل في نفس
الوقت، فرصة للأنشطة المرتبطة بالمبادلات الغذائية، الاقتصادية، الجنسية والدينية،
وفرصة للمبارزات الشريفة، والرموز والشعارات، ومباريات القوة والبراعة، والشعائر
المتبادلة، والرقصات والتعاويذ والتمائم. وباختصار، فإن العيد يجدد الاتفاقات
ويعيد الشباب للتحالفات.



وعلى عكس ذلك، تتسبب الحرب في إبطال
العقود وفسخ علاقات الصداقة وتفاقم المواجهة، فهي ليست فقط مصدرا لا ينضب للموت
والدمار، بل إن العواقب التي تترتب عنها ليست أقل ضررا وخطورة من الدمار الذي
تحدثه أثناء اندلاعها. وذلك لأن هذه العواقب تمدد –حتى بعدا انتهاء الحرب- الآثار
الضارة المرتبطة بها، وتتمثل هذه الآثار في تكريس وتعميق مشاعر الضغينة والحقد
والكراهية، التي تنتج عنها ويلات أخرى، فيترتب عن ذلك اندلاع حرب جديدة تعيد إنتاج
الدمار الذي تسببت فيه الحرب السابقة. والواقع أن العيد يتيح من جانبه –بعد انتهاء
الاحتفالات- تحديد موعد العيد القادم، لتمديد وتجديد بذوره وآثاره النافعة. لكن
البذرة المشؤومة للحرب ليست أقل قدرة على النمو والاستشراء، وهكذا سرعان ما تتنحى
جلبة الاحتفالات الخصبة المرتبطة بالأعياد، ليحل محلها تنامي شرور الحرب.



الحرب: ثمن الحضارة



ما هي الأسباب التي تفسر هذا الانقلاب
الذي تتحول بموجبه المجتمعات من الاحتفال إلى الاقتتال؟ كيف تسفر الانتفاضات
الكبرى للمجتمعات عن تحريك نوعين من القوى: قوى سمحة ونبيلة تسمح بتدعيم وتقوية
التقارب والتوحد، وتبدو كثمرة لمجهودات غزيرة مبدعة وخلاقة، وقوى دموية تعمل على
تعميق التفرقة وتبدو بالتالي كثمرة لغضب مميت وقاتل؟ الواقع أن الجواب عن هذه
الأسئلة يبدو صعبا، ومع ذلك يمكن القول إن هذا التناقض يتطابق بدون شك، مع
الاختلافات البنيوية القائمة بين طريقة تنظيم القبيلة البدائية وتنظيم المجتمع
الحديث.



هل هذا يعني أن ننحي باللائمة على
الحضارة الصناعية ومكننة الحياة الجماعية؟ أم على التلاشي التدريجي للمقدس تحت ضغط
سيادة عقلية المدنس، التي تحركها الأطماع والتي تتوجه بالضرورة لملاحقة الربح
المادي عبر وسائل العنف والاحتيال؟ هل ينبغي تجريم تشكيلة الدول التي تتميز
بمركزية قوية، وتستفيد من تطور العلم وتطبيقاته، لتسهيل عملية حكم وتسيير حشود
واسعة جدا من الناس، وتحريكها بدقة وفعالية لم يكن في الإمكان تصورها في العصور
السابقة؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة ليست بالأمر السهل، ومن غير المجدي اختيار
جواب محدد. وفي كل الحالات، يبدو من الواضع أن التضخم المفرط للحرب والبعد الروحي
الذي سرعان ما ارتبط بها، تزامنا مع هذه الظواهر المترابطة الثلاث التي أشرنا
إليها في صيغ الأسئلة المطروحة أعلاه.



إن معنى هذا أن قضية التقنيات وبالتالي
قضية وسائل الضبط والإلزام، وانتصار الحس الدنيوي على حساب الحس الديني وتغلب حس
الكسب والربح على الأنشطة النزيهة، وكذلك ظهور الأمم الكبيرة التي تقوم فيها السلط
بتقليص حرية الفرد وحصره في دور ضيق ومحدد بدقة متزايدة ضمن آلية نظام متزايد
التعقيد، كل هذا يمثل بالفعل التحويلات الجوهرية التي شهدتها المجتمعات، وبدون هذه
التحولات ما كان للحرب أن تأخذ مظهرها الحالي المتمثل في الذروة القصوى للوجود
الجماعي. إن هذه التحولات التي ذكرناها، هي التي تمنح الحرب خاصية العيد الأسود
والمشؤوم، وهي التي تجعلها آسرة وساحرة للجانب الديني في الروح الإنسانية، هذه
الروح التي ترتعش من الرعب والذهول وهي ترى أن قوى الموت والدمار، المرتبطة
بالحرب، تنتصر بشكل باهر على كل القوى الأخرى وبطريقة حاسمة وكلية.



إن هذا الثمن الرهيب الذي تقدمه
المجتمعات مقابل الحصول على المزايا المختلفة التي تأتي بها الحضارة، تجهل هذه
المجتمعات تبدو باهتة وهشة، وذلك بالنظر إلى أن رحى الحرب التي تسحقها تكشف مدى
ضعف وسطحية هذه المجتمعات، التي تعتبر بمثابة ثمرات مجهود ضال لا يندرج على ما
يبدو، في اتجاه ما هو أصلي وطبيعي. ومما لا شك فيه أن الحرب لا ترتبط فقط بالطاقات
المدمرة والمخربة، بل توقظ وتشجع في الإنسان أيضا طاقات قديمة وأصلية مخالفة؛
طاقات نقية صافية وحقيقية إن جاز التعبير، لكن هذا النوع من الطاقات هو بالضبط ما
يعمل الإنسان بكل عناد على قهره وطمسه، لدرجة يبدو معها حلول الحرب محل العيد
بمثابة مقياس يقاس به الطريق الطويل الذي قطعه الإنسان انطلاقا من وضعيته الأصلية
والأولية، ويقاس به أيضا ثمن الدموع والدماء، الذي أداه الإنسان مقابل مختلف أنواع
الغزوات والفتوحات التي اعتقد أن قدره يحتم عليه خوضها […]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

البعد الروحي للحرب..! :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

البعد الروحي للحرب..!

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» البعد الروحي للظواهر الطبيعية نعيم روحاني
» دراسة البعد الجدلي في النظرية الابسينية
» استعدوا للأمطار كما تستعدون للحرب
» البعد الفلسفي: الحضور والغياب في الفكرة الدينية
» أسطورة ياسون وميديا: البعد السحري والسيكولوجي

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: