ثورة غضب الشباب المصري التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك
ونظامه، يعرفها جميع المصريين والعرب والأوربيين والأمريكيين والعالم كله،
فتاريخ الخامس والعشرين من يناير لعام 2011 سيدخل التاريخ العربي، كيوم
خالد مميز ، أعلن المصريون فيه أنه لا استمرارية للطاغية والمستبد مهما
كانت قوته وجبروته.
وسيدخل ميدان التحرير بمدينة القاهرة ضمن المعالم السياحية
المصرية التي سيحرص غالبية الزوار العرب والأجانب على زيارته والتجول فيه،
مستذكرين أو متخيلين مئات ألاف الشباب الذين استمروا متظاهرين حتى أسقطوا
الطاغية، وقد حرصت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون على التجول فيه
أثناء زيارتها الأخيرة للقاهرة في السادس عشر من مارس 2011 ، ووجّه شباب
الغضب المصري الدعوة لمقدمة البرامج الأمريكية أوبرا وينفري لتقديم إحدى
حلقات برنامجها من الميدان. هذا كله معروف وأصبح مشهورا ومعلوما.
ولكن من يعرف السيد عرفة؟
كي تعرف أو تتذكر السيد عرفة، عليك بالعودة لرواية نجيب محفوظ
المشهورة ( أولاد حارتنا ). تلك الرواية التي نشرها حلقات في جريدة
الأهرام المصرية، ولم يسمح بطباعتها في مصر آنذاك بسبب الحملة الشرسة التي
شنّها شيوخ التكفير محل التفكيرعلى الروائي والرواية، فصدرت عام 1962 في
بيروت عن دار الآداب، ولم يتمّ نشر الرواية في مصر إلا عام 2006 بسبب فتوى
الأزهر التي منعت وحرّمت الرواية. ومن المهم التأمل في أنّ ما كان ممنوعا
وحراما عام 1962 اصبح حلالا ومسموحا بنشره عام 2006 ، صحيح بعد نصف قرن
بالضبط ولكن المفارقة ما تزال قائمة، وهي تلك المؤسسات الدينية التي تملك
الحق في التكفير لمن تشاء، وتمنح مفاتيح الجنة لمن تشاء. تمنع هذه المؤسسات
رواية رمزية بحجة الدفاع عن الدين وكلمة الله، أما ماذا عن السكوت الفاضح
لتلك المؤسسات الدينية على رؤساء وحكام ظلمة مستبدين طغاة سارقين، لا
يقيمون احتراما لأي من مبادىء الدين والشرع الذي تدّعي تلك المؤسسات
الدينية أنها الحارس الأمين عليه. ما الذي يسيء للدين ورموزه وشرائعه،
رواية رمزية تحتمل التأويل والتفسير، أم أولئك الطغاة المستبدون؟.
من الصعب تلخيص هذه الرواية للقارىء الذي لم يقرأها ، فهي
ليست مجرد حكايات بقدر ما هي إسقاطات تاريخية على الواقع المعاصرمن خلال
شخصيات روائية، يمكن للقارىء الذكي أن يعيد كل شخصية روائية لمقابلها
التاريخي، وهذا ما قام به شيوخ التكفير آنذاك، ليربطوا كل شخصية في الرواية
بمقابلها من الشخصيات الدينية ذات القداسة التي من غير المسموح المساس
بها. ودون فتح الجدل القديم الجديد كي لا يعيدنا للتكفير بدلا من التفكير،
فما يهمنا في هذا السياق هو الشخصية الأساسية في الفصل الأخير من "أولاد
حارتنا".
شخصية "عرفة " حيث المعرفة والعلم
"عرفة" هو الشخصية الرئيسية في الفصل الأخير من فصول " أولاد
حارتنا " حيث كانت شخصية جدلية، لها وعليها ملاحظات عديدة، من التعاون مع
ناظر الحارة وسهرات عربدة معه، وخيانات زوجية لعواطف التي أحبته وقبلت
الزواج منه، إلى القدرة على السحر الذي هو في حقيقة الأمر ليس سحرا، بل هو
مواد خاصة تمكن من صنعها أو اختراعها، ولكن نتائجها المذهلة قياسا بالقدرات
الغيبية لسكان عصره، جعلهم يعتبرونها سحرا و أنّ عرفة مجرد ساحر، مما جعل
كبار القوم يقرّبونه مخافة منه أو لاستعمال سحره ضد خصومهم. ومن ضمن
محاولات أو قدرات عرفة الخارقة هي قيامه بقتل الشخصية الكبيرة والأساسية "
الجبلاوي" في عموم رواية "أولاد حارتنا" ومحاولته الهروب بعلمه الساحر
القادر على هذه الفعلة التي لم يستطع غيره القيام بها طوال مئات القرون من
السنين. ورغم كافة الاجتهادات والتفاسير التي تعرضت لها هاتان الشخصيتان،
إلا أنه مما لا جدال فيه أنّ "عرفة" يرمز للعلم القادر على تحقيق كل ما لا
يخطر على بال أحد، بما فيهم أصحاب الغيبيات الذين يهاجمون ويكفّرون، وفي
الوقت نفسه يعيشون على منتجات هذا العلم، من السيارات والطائرات والأدوية
والورق وآلات الطباعة التي يطبعون عليه وبها خرافاتهم هذه، وآخر منجزات "
عرفة-العلم " هي الكومبيوتر والانترنت حيث من خلالهما ينشرون بسرعة ضوئية
كل خرافاتهم وأضاليلهم التي تبحث عن أمور للخداع وإضاعة الوقت، كان آخرها
أن رجل دين سعودي رأى في تصميم مطار جدّة إمرأة متهيئة لممارسة الجنس، وأنّ
برج المراقبة يمثل العضو الذكري. وأصحاب هذه الغيبيات والتكفيريات
والمتحالفين معهم هم من قاموا بقتل عرفة- العلم مع زوجته عواطف ووضعهما في
كيس ، وأهالوا عليهما التراب، كي يتخلصوا من معجزات عرفة العلم التي ستقضي
على نفوذهم الغيبي المتخلف وبذلك تزول سيطرتهم وسيادتهم.
حسن توفيق وإنهاض عرفة من قبره
عرفنا حسن توفيق ( مجنون العرب ) شاعرا وباحثا ومحققا. أصدر
14 ديوانا شعريا، كان أولها " الدم في الحدائق " عام 1969 وآخرها " أحبك
أيها الإنسان" عام 2008 ، كما أصدر 12 كتابا بين تأليف وتحقيق، كان منها "
شعر بدر شاكر السياب، دراسة فنية وفكرية" و " الأعمال النثرية والشعرية
للدكتور إبراهيم ناجي". وفي زمن قصيدة النثر وما استجد من أنواع شعرية،
أصدر ما أطلق عليه " مقامات عصرية ": وهي "مجنون العرب بين رعد الغضب
وليالي الطرب" ، 2004 ، و "ليلة القبض على مجنون العرب"، 2005 .
وفجأة في بداية العام الحالي 2011 ، يفاجئنا باقتحامه لعالم
الرواية بإصدار روايته التي حملت عنوان ( عرفة ينهض من قبره )، الصادرة عن
مؤسسة الرحاب الحديثة في بيروت. والآن ربما يعرف القراء لماذا اضطررت للبدء
بالتعريف بشخصية " عرفة " إحدى شخصيات رواية " أولاد حارتنا " لنجيب
محفوظ. فعرفة يدفنه فتوات الناظر مع زوجته عواطف في نهاية رواية نجيب
محفوظ، وحسن توفيق الروائي، يبني روايته الجديدة على فكرة نهوض عرفة من
قبره وإعادته للحياة مع زوجته عواطف، بعد أن اكتشف عرفة أنّه ما زال يتنفس
وفيه وعواطف رمق من الحياة، فيخرج من الكيس الذي وضعهما فيه فتوات ناظر
الحارة، لتبدأ مع عرفة - العلم بعد لقائه بالمجنون نبوءات قادت إلى ثورة
غضب الشباب المصري في يناير 2011 ، وأدّت للتخلص من ناظر الحارة حسني مبارك
وفتواته وأولاده ومرتزقته. فالناظر قدري في أولاد حارتنا هو مبارك أو أي
ديكتاتور آخر في " عرفة ينهض من قبره".
نفس الحارات والعلم هو الفائز
القراءة المتأنية لرواية ( عرفة ينهض من قبره )، تجعلك تتجول
في نفس حارات " أبناء حارتنا " وتسير في نفس شوارعها وتلتقي بعض شخوصها ،
وشخوص أخرى أهمها الشخصية المركزية في رواية حسن توفيق، وهي شخصية المجنون
الذي يرافق ( عرفة ) ويهيء له لقاءات مع فئات عديدة من الشباب والضيوف، كي
يطّلعوا على ما يستطيع ( علمه ) أن يفعله في ظلّ تخلف حارة الجبلاوي عن
بقية الحارات المجاورة والبعيدة في كافة المجالات.
حنش والفرج أو الطوفان
شخصية " حنش " تكاد تكون الملازمة أو المتلاصقة مع شخصية
المجنون في إدارة أوجه الصراع الروائية بين الحارات وشخوصها، فهذا الحنش
يمكن أن تعتبره أخا أو مساعدا أو مريدا أو تلميذا أو منسقا لأعمال العلم أو
المعرفة ( عرفة )، فهو حافظ أسراره وأوراقه، وهو صاحب الإيمان ب ( لا أريد
أن أكون بعيدا عن الشباب المتحمس لعمل عرفة، بعد كل ما عرفوه عنه مني.
إنهم يتصورون أنهم يستطيعون أن يفعلوا شيئا ما يزلزل الظلم و يبدّد الظلمة
). كل ذلك بفعل الإيمان بعمل عرفة المختلف عن أعمال جبل ورفاعة وقاسم، مهما
اختلفت الرؤى في انعكاسات رموز هذه الأسماء على واقع ماض أو حاضر، كي لا
ندخل في باب تفصيلات تؤدي لتفسيرات مختلفة أو مشاكل متعددة. والمهم أنّ
الثلاثة ( جبل ورفاعة وقاسم ) ساروا في طريق واحد رغم الاختلافات البسيطة
في تفرعاته، إلا أنّ عرفة سار في طريق مختلف هو الذي أدّى إلى نتائجه
المعاصرة في حارات بعيدة عن حارة الجبلاوي ، ونتائج حاضرة حديثا تنبأت بها
الرواية في هذه الحارة وما يجاورها. وهذا هو الفارق بين نتائج من يعتمد على
القلب أو العقل.
لذلك واعتمادا على قدرات عرفة ( العلم والمعرفة )، يتخيل
المجنون في الرواية خيالا عجيبا غريبا، نجده قد تحقق مع ثورة شباب 25
يناير. تخيل المجنون صوتا يتردد صداه في الحارة قائلا ( لا بد للظلم من
آخر. ولليل من نهار. ولنرين في حارتنا مصرع الطغيان . ومشرق النور والعجائب
). وما أدّى لذلك هو الإيمان بقول إحدى الشخصيات ( لبيب حرفوش ): " لن
تتاح لنا الحياة ما دمنا نخاف الموت "، وهذا ما أثبته شباب الغضب المصري،
فلم يخافوا من موت مرتزقة النظام وبلطجيته، فأتيحت لهم حياة مصر الجديدة،
التي يحاكم فيها كبار الطغاة من وزن الناظر قدري، سواء اسمه قدري أو جمال
أو مبارك أو حبيب العادل أو الظالم.
تداخل الشعر والأغاني مع تطورات الحدث
حسن توفيق، وهو يخوض عالم الرواية لا يمكن أن تفارقه روح
الشاعر، فمن حدث إلى آخر، يتسلل الشعر والأغنية لخيالات بعض الشخصيات، ولكن
تسللا يضفي على الحدث دلالة وعمقا، وهذا ما جعل طريقة السرد الفني بسيطة
لا تكلف فيها، تشدّ القارىء إلى الاستمرار في القراءة بدون توقف، ليكتشف هل
سيؤدي الحدث إلى ما كان يتصوره أم إلى نتيجة مخالفة وعبر أي من الشخصيات
الحاضرة في ثنايا الحدث، خاصة إذا كانت شخصية تحتمل العديد من التفسيرات
مثل شخصية السيدة ( جولدا ) التي حتى في حياتها الخاصة تصرّ أن تكون فاعلا
وليس مفعولا به.
ومن الدلالات الفنية المهمة في الرواية، أن يبدأها الروائي
حسن توفيق الذي لا ينسى أنه شاعر، بمقطع شعري لصلاح عبد الصبور من مسرحيته (
ليلى والمجنون ) التي نشرها عام 1972 :
رعب أكثر من هذا سوف يجيء
لن ينجيكم أن تعتصموا منه بأعالي جبل الصمت
أو ببطون الغابات
او تحت وسائدكم أو في بالوعات الحمامات
لن ينجيكم أن تندمجوا أو تندغموا
حتى تتكون من أجسادكم المرتعدة
كومة قاذورات
فانفجروا أو موتوا
انفجروا أو موتوا
فهل كان صلاح عبد الصبور عام 1972 يوجّه هذا الصراخ للطغاة
العرب الذين بدأوا يتساقطون؟. وينهي الروائي حسن توفيق روايته ( عرفة ينهض
من قبره )بنفس الصراخ:
رعب أكثر من هذا سوف يجيء
لن ينجيكم أن تعتصموا منه بأعالي جبل الصمت.
وبالفعل تتحقق نبوءة المجنون وعرفة وصلاح عبد الصبورمن خلال
شباب الغضب المصري، فيتساقط الطغاة ، حيث لم ينجيهم من السقوط لا المماطلة
ولا البلطجية ولا استعمال السلاح ضد الشباب الغاضب ، لتبدأ مصر صفحة جديدة،
تحتاج لمجنون آخر يراقبها كي لا تحيد عن طريق عرفة. إنّها رواية تنبأت
بثورة الغضب المصرية، من خلال حس شاعر عبّر عن هذا الإحساس برواية مميزة
فنيا وموضوعيا.