يقول فلاديمير جنكيليفتش: " يمكن طبعا للإنسان أن يعيش بدون فنّ وبدون حبّ وبدون موسيقى، لكنها حياة بدون معنى"
قدّم رجل المسرح التونسي توفيق الجبالي مؤخّرا مسرحيّته الجديدة "الناس
الأخرى" التي اعتبرها العديد من المشاهدين مغرقة في الإبهام. وردّ الجبالي
بأنّه غير مسؤول عن جهل الناس بلغة المسرح، وأرجع ذلك إلى ضعف التربية على
لغة الفنّ في المدارس التونسيّة.
وتوفيق الجبالي محقّ، حسب رأينا، في حكمه. فلغة توفيق الجبالي هي لغة
الفنّ ولا يمكن لمن لا يتقن لغة أو يجهلها أن يحكم عليها بالتعقيد أو
بالتبسيط. ولو سئل أحد المتذمّرين إذا كان يحقّ لجاهل بلغة المرور أن يقود
سيارة لاستهجن السؤال. ولغة المسرح، كأيّ لغة، متعدّدة المعاني، يصعب
الوقوف على معناها لغير المتمكّنين منها، ثمّ إنّ الفنّان لا يمتهن السياسة
كي يفرض على المتلقّي معنًى رسميّا لخطابه، كما أنّ الفنان ليس مسؤولا على
تربية الناس على لغة الفنّ، فهي مهمّة الدولة التي تضع البرامج
والمقرّرات.
فلننظر مثلا ما يتعلّمه الطفل، في أغلب المدارس العربيّة، من فنّ الرسم
وهو أساس التعبير الفنّيّ. يوجد مستويان من التصوير، أحدهما يحاكي ما هو
خارجيّ، وهو أقرب ما يكون إلى النّسخ أو إلى الكلام التقريريّ الطاغي في
وسائل الإعلام والكتابة الأكاديمية، والثاني ذاتيّ يعبّر عمّا بداخل
الفنان، مثل لغة الرّواية. والنوع الأوّل، التقريريّ الذي يعكس الواقع، هو
الطاغي في برامج التربية على الفنّ في مدارسنا، حيث يفرض على التلميذ مثلا
تصوير البيت كما يجب أن يكون أو كما هو كائن، وليس كما يمكن أن يتصوّره
الطفل، أي أنّ العمليّة أبعد ما تكون عن الإبداع (1) وفي مستويات دراسيّة
أعلى تتّسم التربية على الفنّ بالضحالة، فهي لا تركّز على آليات التلقّي
التشكيلي والجمالي من خلال مقاربة أهمّ المفاهيم والمصطلحات ذات العلاقة
بخطاب التلقي، وتكتفي غالبا بتوظيف فنون الصورة كسند لتخصّصات أخرى،
الإخراج الصحفي مثلا، ولا تدرّس كفنّ قائم بذاته ولذاته سوى في الاختصاصات
الدقيقة.
إن ما حصل للفنّان توفيق الجبالي لا يعدّ استثناء، ففي المنطقة الإسلامية
يندر أن يتكلّم المتلقّي والفنان نفس اللغة. والمشكلة لها جذور ضاربة في
القرون منذ تحريم الإسلام للفنون، من تصوير وغناء ورقص، اعتمادا على أحاديث
منسوبة للنبيّ محمد كما في قوله: "من استمع إلى قينة منع من الروحانيين
يوم القيامة، قالوا يا رسول الله وما الروحانيون، قال قرّاء أهل
الجنة"، و"من استمع إلى مغنيّة صبّ في أذنه الأنك يوم القيامة". وعلى هذا
الأساس أفتى كلّ من الإمام مالك والشافعي وابن حنبل بالتحريم. أي أنّنا
إزاء شبه إجماع.
وما زالت تلك الجذور تسقى بفتاوى تمطر على الناس دوريّا، كان آخرها
الفتوى الصادرة سنة 2009 عن مفتي عامّ السعودية، الشيخ عبد العزيز بن عبد
الله آل الشيخ، بتحريم الفنون من غناء وموسيقى وسينما ومسرح، بوصفها "تلهي
القلوب وتشغل الأمّة على التقدم العلميّ". كما حذّر من لعبة الشطرنج،
معتبرا أنها "إذا تمكّنت من الشخص أضاع ماله ووقته". وقد جاءت هذه الفتوى
كسند لموقف 35 رجل دين في السعودية رفضوا قرار فتح دور السينما في المملكة،
وقد كانوا قدّموا عريضة رسمية إلى وزير الإعلام تحذرّه من "انتشار المعاصي
والمفاسد من خلال أنشطة الوزارة، وتصف ما يجري في وزارته بأنه مجاهرة
بالمعاصي" (2 ).
من الواضح إذن أنّ إشكال قبول الفنّ بصفة عامّة، والصورة بصفة خاصة، يعود
بالأساس إلى ريب إيديولوجي، وأنّ اعتبار المسلمين الفنون من المعاصي هو
الذي جعل جلّ الثقافات تعترف بفنون سبعة على الأقلّ ما عدا المسلمين الذين
لا يعترفون إلا بفنّ القول، ويقتصرون على الاحتفاء بمكوّن روحيّ واحد وهو
الدين.
ولو تم تطبيق الفتاوى القائلة بتحريم الفنّ، وهي مطبّقة فعلا في بعض
البلدان الإسلاميّة، لما تمتّع أطفالنا حتى بحقّ تصوير بيت كما يجب أن
يكون، ولتحوّل سكان المنطقة حقّا إلى مجرّد ظاهرة صوتية، بل لحرموا حتى من
الحقّ في اللعب. فقد تمّ تحريم لعب الورق من زمان وألحقت به لعبة الشطرنج
في القرن الحادي والعشرين كما رأينا.
إن تهميش الفنون واحتقارها، له انعكاسات خطيرة، ليس على ملكة الإبداع فقط،
بل على التواصل، إذ تعدّ الصورة، وهي أساس الفنون، لغة تداولية بين البشر.
وقد حدّد منظّر سميولوجيا السينما، الفرنسي "كريستيان ميتز"، عدّة فروق جوهرية بين الصورة والكلمة، نذكر منها:
- عدد الكلمات محدود في اللغة، بينما عدد الصور الممكنة غير نهائي.
- مع أن المعاني يبتكرها المتكلم إلا أنه يستعمل الكلمات من المعجم، بينما الصورة يتم ابتكارها مباشرة من قبل متصوّرها.
- المعلومات التي يستقيها المتلقي من الصورة هي أكثر بكثير من تلك التي يقرؤها أو يسمعها المتلقي. (3 )
ويمكن أن نستنتج ممّا سبق أنّ حرمان الإنسان من الفنون يؤدّي إلى تقليص
قدرته على خلق المعاني، أي على التفكير، وإعدام الخصوصية والذاتية أو على
الأقلّ إفقارها. ولعلّ أخطر الانعكاسات المترتبّة عن ضعف التربية على لغة
الفنّ تتمثل في نسف الوظيفة الأساسية للغة المنطوقة والمتمثلة بالنسبة
للمتكلّم كما للمتلقّي في تأسيس المعنى، والمعنى ذاتيّ أو لا يكون.
فالإنسان خلاقُ معنى وليس رصّافَ كلمات وفكّاكَ حروف، وهي مع الأسف الوظيفة
الأساسية التي قرّرها المسلمون للغتهم، وهو ما يفسّر مواصلة طغيان المنهج
الظاهري المؤسس على المبدأ القائل بأن اللسان العربي يفيد العموم مطلقا عن
الزمان والمكان. ما يعني أنّ استخدام نفس الكلمات المستعملة من قرون من طرف
شخص يعيش في زمننا هذا يجعل معنى قوله متماثلا مع معنى قول كلّ الذين
سبقوه. وحسب هذا المنطق فإننا حين نستعمل اليوم فعل حرّر نعني به عتق رقبة.
فهل يكون كل هذا الخوف من الصورة بسبب قدرتها على توليد معان متعدّدة في ثقافة تصرّ على التوحيد في كلّ شيء؟
وكيف أمكن للمسلمين العيش طيلة قرون في ظلام معرفيّ دامس خارج الصورة التي
قد يكون الإنسان عبّر بها قبل تعبيره بالكلمات؟ كيف عاشوا بدون الصورة،
وهي القادرة على إحضار الشيء الغائب؟ أي أنهم عاشوا، وما زالوا، مقصيين
عمّا غاب، وعن جزء كبير من تاريخهم.
كيف عاشوا في محاذاة الصورة وهي التي قعّد لها الفلاسفة من القدم مثل
أرسطو في كتابه "فنّ الشعر" وأفلاطون في الأخيلة المضلّلة، فأشاروا إلى
محاسنها كما نبّهوا إلى خداعها بنفس العمق والاهتمام الذي اشتغلوا به على
الخطاب القولي؟
إن ما يفعله المفتون بالفنّ، بسعيهم إلى حرمان أطفالنا منه، لا يختلف في
نتائجه عن الموقف العنصري لبعض البيض في جنوب إفريقيا الذين لم يقبلوا فكرة
تعليم رقص الباليه للأطفال السود. ففي سنة 1991 وضع برنامج اسمه "الرقص
للجميع" بهدف تدريب أطفال أحياء الصفيح على هذا الضرب من الرّقص، وهو يعتبر
من أصعب الأنواع، إذ يتطلّب تكوين راقص الباليه 12 سنة. وصدم بعض
العنصريين بالقرار وسألوا المدرّب في استغراب: "كيف يمكن تعليم الباليه
للسّود؟ ستعوقهم أقدامهم العريضة ومؤخّراتهم الكبيرة على أداء هذا الرقص
الراقي. إنها مضيعة للوقت"
ولو كان حكم الميز العنصري ما زال قائما لما استمتعنا بسهرة الباليه
الرائعة التي قدّمتها قناة "آرتي" الفرنسية الألمانية المشتركة (4) حيث كان
أطفال جنوب إفريقيا السّود يرقصون برشاقة مذهلة وأناقة نادرة، شأنهم شأن
كلّ راقص باليه مدرّب وموهوب.