المشكل التاريخي للإنسان ليس هل
هو حرّ أم لا؟ لكن هل حرّيته معترف بها؟ ويمثّل الاعتراف علاقة بالآخر،
لكنه كذلك شكل من أشكال الوعي بالذات تدرك فيه نفسها كاستحقاق غير مشروط.
هذا الاستحقاق ليس شيئا سوى حيازة الوجود الذاتي كحقّ معترف به، في كلّ
مكان وزمان من قبل كلّ الآخرين، ومن ثمّة تدرك الكونية باعتبارها الإسقاط
الفرديّ لهذا الاعتراف الكونيّ. بمعنى أنّها تحوّل الوجود الفرديّ إلى
علاقة صميمية بوجود الآخرين بحكم علاقة الاعتراف المتبادل. ليصبح الفرد
كائنا كونيا لأنّ حرّيته معترف بها كونيا، ولأنّه يقرّ بوجوب الاعتراف
بحرية كلّ الآخرين كشرط لحرّيته الخاصّة. قال هيبوليت في تقريره المقدّم في
مشاورات أكيلا بإيطاليا حول أسس حقوق الإنسان شتنبر 1964:" الإنسان من حيث
هو وعي بالذات لا يوجد فقط كواقعة حيّة، إنه يرتفع إلى ما يسمو على الحياة
الحيوانية. فهو يفكّر في الموت الذي هو في الطبيعة ليس سوى اختفاء مجرّد،
ليصبح قادرا على المراهنة بحياته. إنه لا يتوق فقط إلى الحياة ولكن
للحرّية. والحرّية لا تتحقّق إلا إذا كانت معترفا بها ومقبولة من قبل
الآخرين، وهو ما ليس ممكنا إلا من خلال عملية متبادلة."(1)
ونضيف إلى ما قاله هيبوليت، إنّ هذه الحرية تترجم كحقّ في الآخرية، أي الواقعة التي نعيّنها كتسامح.
من خلال ما ورد أعلاه، نستنتج أنّ الكونية ليست وضعا إبستمولوجيا يقوم
على وحدة الحقيقة أو وحدة الشروط التي بناء عليها نميّز بين صدق كلام الناس
وكذبه، أو معايير الصحّة والخطأ، بقدر ما هي وضع إيطيقي أساسه وحدة قيمة
الحرية وشمولها بالنسبة لكلّ إنسان. وهذه الوحدة هي نفسها التي تضمن
الاختلاف الجذريّ والتنوّع، وتؤمّنه كحقّ يتجسّد عينيّا في الفردية. فالفرد
هو الإثبات الأصيل للاختلاف الذي تشكّل الكونية ضمانته.
وإذا كان على الحدود بين البلدان أن تمّحي، فليس لأن نموّ السوق يقتضي
ذلك، أو لأنّ جموح الرأسمال يفرضه كضرورة. بل لأنّ حرية الفرد تفيض خارج
كلّ الحدود وعلى العالم أن يكون قادرا على استيعابها. وهذه القدرة هي
الكونية ذاتها. ومن ثمّة فالفرد لا ينتمي إلا إلى حريته الخاصة التي تمفصل
وجوده مع هذه الحرية، التي لطالما حاولت ديانات التوحيد وضعها تحت رحمة
كيانات مغلقة مشروطة بالانتماء إلى هذه الانغلاقات (العقائدية) التي تحوّل
الحرية إلى صيغة للخضوع الجماعي والامتثال والإكراه الميتافيزيقي لكائنات
مفارقة باسمها تصادر الحرية وتمحى في هيمنة الجماعة الدينية.
إنّ الفرد وحرّيته يسموان فوق كلّ مبدأ دينيّ أو عقائديّ أو إثنيّ.
وحرّيته تشرط نفسها لأنها استحقاق أصليّ. لذلك لا يمكن القبول في الكونية
بحرية الجماعة في رفض الحرية أو الادّعاء بأنّ لها خصوصية في التعامل مع
حرّية أفرادها. والقبول بهذا لا يعني شيئا آخر سوى نقض الكونية ونفيها