يغريني جداً ما بين الحياة
والموت، ذلك الوسط اللاّمتناهي بممكناته، الولادة بداية والموت نهاية، لكن
الموتَ إعلانٌ عن بدايةٍ جديدة، والولادة تحمل في أحشائها النهاية، لتصبح
البداية نهاية والنهاية بداية. إن جدل البداية و النهاية، الحياة والموت،
جدلٌ أنطولوجي ضاربٌ بجذوره في عُمقَ الإنسانية، لاهثٌ مع الزمن، قََلِقٌ
متعطّشٌ للهدوء والسّكينة، باحثٌ عن أجوبةٍ لأسئلةٍ ساذجةٍ لا أجوبة لها،
ووحدها الأسئلة السّاذجة هي الهامّة بالفعل، فالأسئلة التي تبقى دون جواب
هي التي تشير إلى حدود الإمكانات الإنسانية، وهي التي ترسم حدود وجودنا.
الوسط حيويّةٌ خلاّقةٌ لاتنضُب، فيما الحدود مَحْضُ تحنيط، فكل ما يُقبَضُ
عليه يصبح سجناً، وكل ما يتَفلّتُ من القبض المُحكَم يبقى حراً، نشِطاً،
خلاّقاً.
تغريني التّقاطعات التي تجمع الإنسانية وتوحّدها أينما حلّت وفي أي زمنٍ
كان، لطالما آمنتُ بوحدة العقل ووحدة المصير التي تلفّ الإنسانية جمعاء،
وهذا ما دفعني للحديث عن الإنسان، أسئلته، قلقه، هواجسه، مسؤوليته في هذا
العالم، ومصيره، وذلك من خلال مقاربةٍ بين الأدب والدين والفلسفة .أعرف أن
هذه مجالاتٌ مختلفة، لكن ما يجمعها هو أنها نتاجٌ إنساني، تحمل سمات
الإنسان في طيّاتها. اخترت هنا ملحمة جلجامش، ذلك أن الأدب الملحمي أقدر
على العلوّ شيئا فشيئا من الجزء إلى الكل، فالملحمة كونيةٌ، إنسانيةٌ،
تلامس شعور الإنسان ووجوده، وهمومها وغاياتها دنيويّة. واخترت الدّيانة
البوذية، كونها ديانة لا تفعلُ فعلَ الأديان السماوية في تَغريبِ الإنسان
عن وطنه الأم (الأرض) وجَعْلِه خادماً للسّماء، أو ربما الخَواء، فالبوذية
أقرب إلى الإنسان والحياة والطبيعة. كما أنني اخترت الفلسفة الوجودية، فهي
تفتّحت في العصر الحديث بسبب الحروب العالمية وما أصاب الإنسان من أزماتٍ
ومحنٍ، وما زرعته في داخله من خوفٍ وعدم استقرار تشعّب عنه قلقٌ وشكّ دفعَ
الإنسانَ صوْبَ التفكير في مصيره والانصراف عن التفكير المجرّد والتصوّرات
التي لا تمَسُّ حياتَه في الصّميم، وأخذ يبحث عن معنى جديدٍ للحياة وبدأ
يفتش عن حلولٍ جديدةٍ للمشاكل التي يعانيها.
و أرى أن ما ذكرته يصبّ في مَصبٍّ واحدٍ وإنْ اختلفت الطريقة في الطّرح،
واللغة المُستعملة في كل مجال، فهي جميعها تلتقي في الوجود الإنساني،
اللحظة المعاشة و التجربة، ومن ثم التحليق في الكون بأسره، وجميعها لها رؤى
متقاربة فيما يخص هواجسَ لها طابعٌ أنطولوجي، مثل الحريّة والحياة والموت
والخلود والمصير، كما أنّ لها رؤى أيضاً تكاد تكون متقاربةً بشأن العودة،
أي مغامرة الإنسان في البحث والكشف والحصول على المعرفة ومن ثم العودة من
أجل استثمار المعرفة والحكمة في صميم الحياة لا خارجها، و بالتالي سموّ
الإنسان بإنسانيته، وتلتقي جميعها أيضاً عند نقطةٍ هامةٍ وهي أن التفكير
بالممكنات أجدى و أرقى من التفكير بالخلود، فالخلود هو خلاصة قصور الإنسان
عن اللّحاق بممكنات الحياة اللاّمتناهية، والخلود ضيّق الأفق، أقلّ غنى
وثراءً من ممكنات الحياة، الخلود فكرةٌ تجعل الإنسان كسولاً، سقفٌ
لطموحاته، بينما الممكنات لها فعلٌ تحريضيٌّ من أجل الارتقاء المستمر،
الممكنات نبضٌ أو مشروع نبض، فيما الخلود تحنيط سرمدي.
وباختصار، كلها مجالات تمثل دعوةً للإنسان كي يتحمّل مسؤوليّة إنسانيّته، لأنه وببساطة شديدة نحن لا نُولد بشرٌ إنما نصيرُ كذلك.
الإنسان وجلجامش.
لسنا هنا بصدد الحديث عن جلجامش كشخصيةٍ تاريخية، إنما كشخصيةٍ أدبيةٍ،
ترمز للفرديّة الطامحة للاستقلال والمعرفة، استقلالٌ عن الجماعة وعن
الآلهة، فرديةٌ داخل الجماعة، تتفق مع غاياتها، وتنتقل من الاهتمام بمصيرها
الخاص، إلى العناية بالمصير الإنساني، شخصية جلجامش ترتقي من خلال مراحل
عدّة، ففي الطّور الأول:كانت الفردية والحرية المطلقة هي التي تحكم شخصية
جلجامش، فهو الملك الحر القوي القلِق المتوثّب، وفي هذه المرحلة نجد عند
جلجامش البذور الأولى لأهمّ التساؤلات التي تتوضّح في المراحل التالية، هل
أنا حر، وإلى أي مدى؟ ماذا أفعل بالحرية، وما هو موضوعها؟ ما معنى الحياة
في هذا الزمن الضيّق الذي يجري بنا نحو خاتمةٍ سريعة؟ في سياق القصة
الملحميّة هذه يرفع أهل مدينة (أوروك) وهي المدينة التي يحكمها جلجامش،
يرفعون شكواهم إلى الآلهة من قمع جلجامش، فتخلق الإلهة الأم(أرورو) نِدّاً
لجلجامش هو (أنكيدو) وقد خلقته من قبضةٍ من الطين ورمتها في الفلاة،
وأنكيدو هو الرجل الوحش، المشعر الجسد، الغزير شعر الرأس، هو الإنسان
البدائي، لكنه فيما بعد يسير على خطى الإنسان الأول في انتقاله من حياة
البراري إلى حياة الرّعي ثم إلى الحضارة المستقرّة، وعندما سمع جلجامش بخبر
أنكيدو بعث إليه بكاهنة حبٍّ من معبد عشتارلتقوده إلى أوروك، وهنا نلمح
أنه كما كانت المرأة بالنسبة للإنسان الأول سبباً في استقراره في الأرض، و
توديع حياة التّنقّل و الصّيد وإنشاء المستقَرات الزراعية وهي الخطوة
الأولى نحو الحضارة، كذلك كانت الكاهنة بالنسبة لأنكيدو. قادت الكاهنة
أنكيدو إلى مناطق الرّعي وأخذت تحدّثه عن جلجامش العظيم الظاهر فوق جميع
الرّجال كثورٍ و حشيّ، وعن حياته اللاّهية في أوروك، المدينة التي تضجّ
بالحياة، تاقَ أنكيدو إلى الاجتماع بجلجامش فقد كان مثله توّاقاً إلى صديق،
وفي مناطق الرّعاة وجد أنكيدو مضموناً لحريته ومعنى، فأنكيدو في براريه
كان مطلق الحرية كجلجامش، لكن حريته لم تكن مستمدّة من سلطته المطلقة على
بقيّة الناس مثل حرية جلجامش، بل من حياة الطبيعة التي لا تعرف أخلاق
الحضارة، وعندما واجه الآخرين لأول مرة سخّر قوته الخارقة لصالح الجماعة،
وكان يزداد عزماً على لقاء جلجامش، فتقوده المرأة إلى المدينة وقد غدا الآن
جاهزاً لدخول حاضرة الكون( أوروك)، أحدث وصولُ أنكيدو إلى أوروك ضجةً
كبيرةً، لأنه كان نِدّاً لجلجامش في كل شيء، وعندما حدثت المواجهة بين
الجبّارين كانت الغلَبة لجلجامش، لكن جلجامش هدأت سورةُ غضبه عندما أوقع
أنكيدو أرضاً، وتركه ماضياً في طريقه، غير أن أنكيدو ناداه بكلماتٍ وقعَتْ
في نفسه حسناً، وكانت فاتحة صداقةٍ ومحبةٍ دائمةٍ بين الطرفين.
في الطور الثاني: كان تأثير صداقة أنكيدو على جلجامش حاسماً، والحب الذي
نشأ بينهما قد أخذ بتوجيه طاقته المتخبّطة نحو أهدافٍ نبيلةٍ، لم يعد
جلجامش الفرد الحر الوحيد بين جماعةٍ من المسلوبين، إذ ظهر أمامه الآن رجلٌ
حرٌ آخر وهو أنكيدو الذي تعلّم منه كيف يحترم حريّات الآخرين جميعاً،
وأدرك أنّ الحرية الفردية لا معنى لها إنْ لم تتعاون مع حريّات أولئك
الآخرين، ومع تلاشي أحلام الحرية المطلقة أتى وعيُ مسألة الموت والتفكير
فيه، وتبدو نظرة جلجامش إلى الموت نظرةَ متأمّلٍ يبحث عن معنى للحياة
القصيرة التي يعيشها الإنسان في هذه الدنيا الفانية، إنّ جلجامش مدركٌ
للشّرط الإنساني (الموت)، قابلٌ له، باحثٌ من خلاله عن جدوى الفعل وعن
مضمون الحرية، فيجده في الأعمال الجليلة التي تُخلّد اسم صاحبها وتترك له
اسماً باقياً على مرّ الأزمان. والأفعال المجيدة التي ينوي جلجامش إتيانها
لتخليد اسمه هي في نفس الوقت التزامٌ أخلاقيٌّ، والصّراع المُرتقب مع وحش
الغابة هو أيضاً صراعٌ مع قوى الشّر. في مغامرة أنكيدو و جلجامش الأولى
يتقدّم البطلان بأنظار الإله (شمش) نحو غابة الأرز البعيدة لقطع أشجارها و
قتل حارسها (الكائن المخيف الذي عيّنه لحمايتها الإله إنليل ربّ الغضب
والعاصفة المدمّرة) واقتحام مقام عشتار المقدّس، وهذه أوّل سابقةٍ في تاريخ
البشر، يضعُ فيها الإنسان إرادته في مقابل إرادة الآلهة، لقد تمّ تحييدُ
الطبيعة وإعطاؤها ماهية مادية منفعلة قابلة لاقتحام عقل الإنسان وفهمه
وتحليله. و بعد أنْ يتغلّب البطلان على حارس الغابة ويقومان بقطع رأس
(خمبابا) وتقديمه قرباناً للآلهة، يعود البطلان إلى أوروك بعد أن طبقَت
شهرتُهما الآفاق.
في المرحلة الثالثة: يغادر جلجامش أوروك، لكن وحيداً شريداً، طويل الشعر،
يرتدي جلود الأسود التي يصطادها في الطريق ، ولم يخرج لوداعه شيوخ أوروك
كما فعلوا في المرّة الأولى ولم ترافقه جوقة النصر، غادر بحثاً
عن(أوتنابشتيم) الحكيم الذي نجا من الطوفان الشّامل وأنقذ الحياة من
الانقراض على سطح الأرض فنال نعمة الخلود، وفي هذا يعكس جلجامش الزّمن
ويسير في اتجاهٍ منقلبٍ إلى الماضي متنكراً للواقع، في استجلاءٍ لسرّ
المستقبل وبحثٍ عن معنى الحياة والموت، وبحثه عن معنى الحياة والموت هذا لا
يتّخذ طابعاً عقلياً منطقياً ، بل طابعاً حلُميّاً لنفسٍ مفكّكةٍ لا تجد
في رفضها للواقع أفضلَ من البحث عن المستحيل، هو الآن يقابل الموت وجهاً
لوجه بعيداً عن زخارف البطولة والمجد لأن جثّة صديقه (أنكيدو) مسجّاةٌ
أمامه تنهشُها ديدانٌ حقيرةٌ لا تعبأ بأمجاد صاحبها وهذه الجثة هي بشكلٍ ما
جثةَ جلجامش نفسِه، والديدان في انتظار سقوطه لتفعلَ بجلجامش فعلَها
بأنكيدو، فما معنى خلود ذِكر الإنسان وأيّ شيء نجنيه من جلائل الأعمال ونحن
جثثٌ لا حراك بها؟! هنا تنهار الأهداف التي وضعها جلجامش لحياته خلال
رفقته القصيرة الحافلة لأنكيدو، وتبدو الحياة فارغة من أي معنى وهدف، فيسبح
ضد تيّار الزمن نحو البدايات، جلجامش لم يكن يبحث عن الخلود، كان باحثاً
عن المعنى في الحياة، وعودته إلى أوروك في النهاية لم تكن هزيمةً للإنسان
أمام هدفٍ محكومٍ سلفاً بالهزيمة، بل انتصاراً لحياةٍ وجدت فيها المعنى
والغاية، لقد اتخذ البحث عن معنى الحياة على المستوى الواقعي شكلَ البحث عن
الخلود على المستوى الحُلمي، وفي كل مرحلةٍ من مراحل رحلته كان جلجامش
يتلقّى درساً في معنى الحياة، الحياة قائمةٌ بالتغيّر الدائم، والوجود
صيرورةٌ لإثبات، وهذا يعني أن الخلود هو شكلٌ من أشكال العدم، لا شكلٌ من
أشكال الوجود، و جلجامش نفسه عندما يجتمع (بأوتنابشتيم) بعد طول تلهّفٍ لا
يرى فيه صورةً مشرقةً للخلود الذي يبحث عنه، حيث أنه موجودٌ في جزيرته
النّائية، مستلقٍ على جنبه أو قَفاه لا يفعل شيئاً ولا ينتظر أن يأتيه
الزمان بشيء، فالعودة إلى أوروك والدخول مجدداً في الزمن الحار أفضل من هذا
الوجود الثقيل والزمن المتطاول الذي لا يسعى إلى غاية.
وفي المرحلة الرابعة: تنتهي رحلة جلجامش الحُلمية بعد سماعه من أوتنابشتيم
قصة الطوفان، وكيف حصل على الخلود نتيجة وضعٍ استثنائيّ لن يتكرر لأحدٍ من
البشر، إن جَرْيَ جلجامش وراء مصيره الخاص عبر المرحلة الثالثة من تطوره،
لم يكن إلا شكلاً ظاهراً لجَرْيِه الأعمق في سبيل حلّ معضلةٍ وجوديّةٍ
تتعلق بالشّرط الإنساني عموماً، يتضّح ذلك عندما حمل جلجامش النّبتة
السحريّة التي تعيش في الأعماق المائية والتي تجدّد شباب من يأكل منها دون
أن تهبه الخلود، حينها حملها إلى أوروك وجعل الشيوخ يقتسمونها فيما بينهم
لتجديد شبابهم وسيكون هو آخرَ من يأكل منها لا أوّلهم. وبعد خسارة جلجامش
لأمل تجديد الشباب بعد سقوط أمل الخلود، يسقط عالم الحلم نهائياً، و يتابع
رحلته إلى أوروك بعد أن يترك السفينة عند الشاطئ وقد تحرّر تماماً من كل
وهم ، فجلجامش قد غادر واقعاً غير مفهومٍ و غيرمقبول ، ليعود إليه بحكمةٍ
تساعده على فهمه وقبوله وتجاوزه.
الإنسان وبوذا
اليوغا هي النّهج الذي يفرضه المرءُ على نفسه، وبوذا هو المتنوّر أو
المستيقظ. في الأسطورة البوذية (وليس المهم هنا أن نؤمن بها، إنما المهم أن
نؤمن بالتعاليم البوذية وبالحقائق الأربع وهي الموت، الشيخوخة، المرض،
الزهد). تقول الأسطورة إنه يوجد ملكةٌ اسمها (مايا) ومايا تعني الوهم، وهي
متزوجة من الملك (سودودانا)، تحلُم مايا أن فيلاً أبيضَ له ستة أنياب،
يتسكّع في جبال الذهب، يدخل خاصرتها اليسرى دون أن يسبب ألماً، تستيقظ
الملكة، ويجمع الملك المنجمين الذين يشرحون بأن الملكة سوف تنجب ابناً
سيصبح إما إمبراطوراً للأرض أو بوذا المتنوّر، والملك يفضّل لابنه أن يصبح
إمبراطور الأرض، وعندما يجمع الملك سَحَرتَه وتنجب الملكة بلا ألم، عندها
تُحني شجرة تينٍ أغصانها لمساعدتها، يُولَدُ الطفل واقفاً ويخطو عند مولِده
خطواتٍ أربع شمالاً، شرقاً، غرباً، جنوباً ويتكلم بصوت أسد (أنا الذي لا
يُضاهى وهذه ستكون آخرَ ولادةٍ لي) ويعرف الأب من خلال المنجّمين أنه سيصبح
بوذا الذي سيخلّص الآخرين إذا استطاع أن يتعلم الحقائق الأربع في الحياة،
الشيخوخة، المرض، الموت و الزّهد، فيعزل الأب ابنه، ويعيش الأمير في هناء
بقصره، وكان محصناً ضدّ الشيخوخة والمرض والموت، وفي يومٍ يخرج مع عربةٍ من
إحدى بوّابات القصر الأربع للقصر المستطيل، ويلتقي مخلوقاً مختلفاً عن
الأشياء التي سبق أن رآها، كان مخلوقاً مقوّسَ الظهر تعلوه التجاعيد، أصلع،
يمشي متكئاً على عصا، يسأل عن الرجل ويجيبه الحوذيّ أنه رجلٌ عجوزٌ
وجميعنا سنصبح هكذا، ويعود الأمير كَدِراً إلى القصر، وبعد ستة أيام يخرج
ثانيةً وهذه المرّة عبر البوّابة الجنوبية، يرى قربَ مسيل ماء رجلاً
أكثرغرابة، مشوّه الوجه بسبب الجُذام، يسأل عنه ويجيبه الحوذي بأنه رجلٌ
مريضٌ وسنصبح هكذا، ثم يعود الأمير إلى القصر كَدِراً، وبعد ستة أيام يغادر
القصر ويرى رجلاً شبه نائمٍ لكن لونه ليس لون الحياة وكان محمولاً على
أكتاف الآخرين، يسأل عنه فيجيبه الحوذي بأنه رجلٌ ميتٌ وسنصبح هكذا، يشعر
الأمير باليأس من خلال معرفة هذه الحقائق، ثم يغادر القصر للمرّة الرّابعة
ويرى رجلاً شبه عارٍ، وجهه مسكونٌ بالصّفاء، يسأل عنه فيخبرونه بأنه رجلٌ
زاهدٌ، متخلٍ عن كل شيء، فيقرر الأمير التّخلي عن كل شيء.
البوذية تؤمن بأن الزّهد ضروريٌّ، لكن بعد أن يكون المرء قد جرّب الحياة،
أي أن على المرء أن يصفّيَ حياته حتى آخر قطرةٍ وبعد ذلك يتخلى عن وهم
الحياة وليس قبل أن يعرفها (هذا ما وصل إليه جلجامش أيضاً)، وبعد معرفة
الحقائق وصل بوذا إلى حالة ( النيرفانا) أي الخلاص، والآن يجب أن يخلّص
الآخرين (المسيح أيضا لعب دور المخلص للبشرية، لكن غاية المسيح الأولى
والأخيرة كانت إرضاء أبيه الذي في السّماوات). (الحرية عند جلجامش أيضاً
بدأت فردية وانتهت بالجماعة من أجل تحقيق صالح الآخرين). لم يكن بوذا
مؤمناً لا بالزهد ولا بالحياة، إنه يَعِظُ باتّباع الطريق الوسط، لقد وصل
إلى النيرفانا وتابع العيش لأربعين سنة أخرى، كُرِّسَت للتعليم وكان من
الممكن أن يبقى خالداً لكنه يختار لحظة موته ( أيضاً هنا يوجد تقاطعٌ كبير
بين بوذا وجلجامش فيما يخصّ الخلود، ألم يتقبّل جلجامش أيضاً الموت كشرطٍ
إنساني؟) يحْتضِر بوذا في بيت أحد الحدّادين، تلامذته يحيطون به ويحزنون
ويخبرهم بأنه لم يَعُدْ على قيد الحياة وأنه هو أيضاً إنسانٌ فانٍ وغير
حقيقيّ مثلهم جميعاً، لكنه يترك لهم القانون (أرى أن بوذا كان أرقى من أن
يصوّر نفسه عظيماً أو أنه مُرسَلٌ من قبل قوةٍ غائبةٍ خارقةٍ كما فعل
الأنبياء في الديانات السماوية، فبوذا لم يُشعِر الناس بالدّونية بل مَدّهم
بشحنةٍ معنويةٍ قوية، ولم يكن همّه الإتيان بمعجزات تقلل من شأن الإنسان
وأهميّته).
يمكن للبوذي أن يُقرّ بأي دين طالما أنه يتبع القانون، المهم هو الخلاص
والحقائق الأربع النبيلة (المعاناة، أصل المعاناة، مداواة المعاناة، الطريق
للوصول إلى الدواء وفي النهاية تأتي النيرفانا) وبوضوح أكثر( مرض، تشخيص،
معالجة، شفاء، والشفاء في هذه الحالة هو النيرفانا). بالنسبة للبوذية ما
يَرْتحل ليس الروح لأنها ترفض وجود الروح، بل ما يرتحل هو ( الكَارْمَا)
وهي عبارة عن وحدةٍ ذهنيةٍ تتناسخ عدداً لا متناهياً من المرّات. في
البوذية لا يوجد إله، أو قد يوجد إله لكن ليس ذلك هو الجوهري، الجوهري هو
أن نؤمن بأن أقدارنا قد صيغت مقدماً بواسطة (كارْما) تخصّنا، فلا يوجد
حقيقةٌ واحدة لم تكن قد رُتّبتْ من قبل بواسطة حياتنا السابقة وهذا ما
يُدعى بالكارْمَا، في كل لحظةٍ من حياتنا نحن نَنْسُج و نُنْسَج، ما
نَنْسجه ليس فقط إرادتنا، أفعالنا، أنصاف أحلامنا، أنصاف يقظتنا، نحن
نَنْسج بلا انقطاع كارْمانا الخاصة وعندما نموت يُولد كائنٌ آخر يكون وريث
تلك الكارْما . يقول بوذا: علينا أن نكون بشراً أولاً قبل أن نصل إلى
النيرفانا. والبوذية تنفي الأنا، فعلينا أن نصل إلى الفهم بأن العالم مجرّد
طيف، حُلم، وأن الأنا هي واحدةٌ من أعظم الأوهام (أرى أن كلّ تفكيرٍ يحمل
طابعاً صوفياً ينفي الأنا ليبعثرَها في الكون). يقول بوذا: أن على المرء
بعد الاستنارة أن يعود إلى مكان السّوق ويمارس الرّحمة مع الكائنات
البشرية( ألم يفعل هذا جلجامش أيضاً حينما عاد إلى مدينة أوروك بعد رحلة
بحثه؟) الرّوحانية لا تتكامل إلا عندما تنسجم مع الحياة الدنيويّة، ماذا
يعني أنْ تصلَ النيرفانا؟ الجواب: أن تكون أفعالنا ظلالاً، وعندما نصل إلى
النيرفانا تكون أفعالنا قد خلت من الظلال ونكون أحراراً، النيرفانا حرفيّاً
هي الانطفاء والإخماد لَطالما قيل أنّ مَنْ يصل النيرفانا يخمُد ولكن
عندما يموت المرء ثمّة نيرفانا عظيمة ومن ثم الانطفاء، أي أن النيرفانا هي
الاستمرار في حالةٍ أخرى، حالة يصعب علينا تصورها.
الإنسان وهايدغر
في الحقيقة ليست هناك وجوديةٌ بمعنى المذهب القائم بحدّ ذاته، لكن هناك
وجودياتٌ مختلفةٌ تشترك في بعض العناصر، فهناك وجودية( كيركيجارد)،
ووجودية( نيتشه)، ووجودية (ياسبرس)….وقد اخترت في هذا المقام، وذلك
انسجاماً مع ما بدأت فيه، اخترت الحديث عن الفيلسوف الألماني (هايدغر) ذلك
أنه أولاً: ينتمي إلى تيار الوجودية الملحدة، حيث أنني لا أريد أن أدخل في
تيار الوجودية المؤمنة، طالما أننا تطرّقنا إلى الإيمان على الطريقة
البوذية، إنما أريد أن ألتقط تفاصيل متشابهة إلى حد ما وذلك في عمق
الاختلاف، فيلتقي الإلحاد والإيمان طالما أنهما وجهان لعملةٍ واحدةٍ ألا
وهي الإنسان. وثانياً: هايدغر يجعل من وجود الفرد الإنساني عِلماً للوجود،
إذ ينتقل من الوجود الفردي المُشخّص ليَستنبطَ مقولة الفرد بشكلٍ عام (وهذا
مشابه بشكل أو بآخر لانتقال جلجامش من الخاص إلى العام).
يعتقد هايدغر أن الإنسان يمكن أن يحيا وجوده على صورتين مختلفتين، فهو
إمّا أن يحيا وجوداً مُبْتذلاً، تافهاً، لا قلق فيه، وإمّا أن يحيا وجوداً
أصيلاً مُفعماً بالقلق، وجودا يستطيع فيه أن يؤكّد ذاته وأن يصبح نفسه، وما
يحفّزني للحديث عنه هنا، هو الوجود الأصيل، طالما أننا نتحدث عن شخصيات
عاشت وجوداً أصيلاً بكل ما للكلمة من معنى سواء على المستوى الأدبي أو
الإيماني أو الفلسفي.
من صفات الوجود الأصيل في فلسفة هايدغر أنّ الإنسان صانعٌ لنفسِه، أي قدرة
الإنسان على أن يكون ذاته، وهذا ما يسميه هايدغر (بالذاتيّة) وهي إمكانية
صرفة، فالذاتية هدفٌ يُراد بلوغُه، ولا يمكن للذات أن تصبح نفسها إلا إذا
كانت تتمتّع بالحرية، ولكن هذه الحرية ليست مطلقة إذ يحدّها الميلاد من أحد
طرفيها والموت من الطرف الآخر. والوجود في العالم ليس صفةٌ تُضافُ إلى
الذات أو الأنا، إنّما يدخل في تركيب هذه الأنا، لأننا لا نستطيع أن نفكّر
إلا بارتباطٍ بمجموعة الأشياء الخارجيّة التي تحيط بنا، وهذا الارتباط
الدائم يجعل هذه الأشياء عنصراً مكوّناً للذات نفسِها، لأنه يتّصف بصفة
(الهمّ أو الانشغال) والوجود في العالم يقود إلى تركيبٍ آخر للذات وهو
الوجود مع الآخرين، وكذلك الأمر لا نستطيع أن نفكر أو نعمل إلا ونحن
مرتبطون بالآخرين وبالعالم (وقد لاحظنا كيف أن جلجامش و بوذا مارسا الحرية
في النهاية مع الآخرين ومن أجل صالح الآخرين، وكيف ارتبط وجودهما ارتباطاً
عميقاً مع وجود الآخرين). هايدغر لا يعترف بوجود قوةٍ أعلى من الذات، ولكنه
مع ذلك يقول بِعلوٍّ آخر لا وجود فيه لأيّ طابعٍ دينيٍّ أو تقويميّ،
والعُلوّ عنده أنواع، فقد يكون علوّاً نحو العالم الذي نعيش فيه، وهذا
العلو معناه الرغبة في معرفة الأشياء، وقد يكون علوّاً نحو المستقبل، فتتخذ
فكرة العلوّ عند هايدغر طابعاً إنسانياً مَحْضاً، ونحن حينما نريد تحقيق
أنفسنا نَعلو عليها، أي نتجاوز ما هي عليه في الوقت الحاضر، متّجهين نحو
ذات أخرى نتمثلها ونحاول الوصول إليها، نحن دائماً أمام أنفسنا أو سابقين
لأنفسنا، ذلك لأننا إمكانيةٌ صرفةٌ و مشروعٌ من المشروعات، ولكن إذا كنّا
دائماً أمام أنفسنا، وكنّا نتقدّم دائماً إلى المستقبل، فنحن أيضاً وراء
أنفسنا، لأننا وقد أُلقِينا في هذا العالم في عصرٍ بعيْنِه ومكانٍ بعيْنِه،
لا نصبح في هذه الحالة مستقبلنا فحسب، وإنما أيضاً ماضينا، وحينما نقرّر
أن نكون أنفسنا لا نقرّر ذلك في الماضي أو في المستقبل و إنما نقرر ذلك
الآن وفي هذه اللحظة الراهنة. (عند هذه النقطة الهامّة، يتقاطع كل من
جلجامش وبوذا وهايدغر بشكلٍ كبير). الحاضر عند هايدغر مَعْقِل الصّلة بين
الماضي و المستقبل، وهكذا نستطيع القول أن الوجود الإنساني الأصيل يتصف
أيضاً (بالزّمانية) و لكل فردٍ منّا تاريخٌ خاصٌ يصنعه لنفسه (وعلى الطريقة
البوذية، نحن في كل لحظةٍ نَنْسج كارمانا). يقول هايدغر: أن القلق يكشف
لنا عن التّناهي الذي يتصف به وجودنا، وشعور الإنسان بالتناهي أو الفناء
تنشأ عنه صفةٌ أخرى من صفات الوجود وهي ( الشّقاء الدائم) لأننا لا نستطيع
تحقيق جميع إمكانياتنا ولا يمكن أن نحقق إحدى هذه الإمكانيات إلا بالانصراف
عن تحقيق إمكانياتٍ أخرى، و بذلك نقضي بالإعدام على جزءٍ من كياننا
ووجودنا، فوجودنا يحمل العدمَ في قلبِه كما تحمل الثمرة النّاضجة الدّودة
في جوفِها، فنحن نحمل موتَنا داخل أنفسنا وهذا ما يسمّيه هايدغر(بالوجود من
أجل الموت)، و الموت انقطاعٌ لإمكانيات الإنسان، والوجود الإنساني وجودٌ
ناقصٌ وهو وجود مُؤجّل باستمرار، فالوجود الإنساني لا يمكن أن يلحق بنفسه
وفقاً لطبيعته وجوهره، ولا يمكن أن يكون الموت نضوجاً كنضوج الثمرة لأن
النّضج يحمل معنى الاكتمال والموت ليس اكتمالاً للفرد لأننا دائماً غير
مكتملين، وبالتالي غير ناضجين، كما أن الموت لا يمكن أن يكون انقطاعاً
للوجود أو انتهاء ، فالموت جوهر الوجود، ومنذ أن يُولدَ الإنسان يكون
بالفعل في شيخوخة الموت والتفكير في هذه الحقيقة وجَعْلِها نصبَ أعيننا
دائماً، علامةٌ من علامات الوجود الأصيل (التعاليم البوذية أيضاً تدعو إلى
التأمّل الدائم بالحقائق الأربع التي ذكرناها سابقا وبالتحديد حقيقة
الموت)، وبالنسبة إلى هايدغر فإن التفكير في حقيقة الموت يجعل الوجود
بالنسبة للإنسان شفافاً فيرى الناس والأشياء في ضوءٍ جديدٍ، ويعتقد
اعتقاداً راسخاً بتفاهَةِ الحياة وسخافتِها ويستقرّ في نفسه أن الأشياء
جميعاً عابرة، وأن المطامع كلها وهمٌ باطل (جلجامش أيضاً وصل إلى حقيقة أنّ
الحياة وهمٌ والخلود وهم أيضاً وبالتالي تقبّلَ الموتَ كشرطٍ إنساني)
ويقول هايدغر إن الإنسان في هذه الحالة يتقبّل موته باعتباره الإمكانيّة
العليا التي يتمثل فيها الطابعُ الشخصيّ إلى أعلى درجة، ويتضّح فيها الشعور
بالحرية وضوحاً تاماً، وأنّ تقبّل الموت كواقعةٍ لا مفرّ منها يَنْأى
بالوجود الإنساني عن التأثّر بتقلبات الحظ أو ضربات القدر وهي ما يجزع منها
الناس.
الموتُ جزءٌ من الحياة، وقد يكون هو الحقيقة الوحيدة فيها، وما دمنا نحن
البشر نتنفّسُ هواءً واحداً، والموت يساوي بيننا جميعاً، أَسألُ سؤالاً
ساذجاً؛ ما دام الموت آتٍ لا محالة، هل هناك ما يبرّر تعجيله بتدمير الذات
من خلال الحروب والقتل والخراب؟!