:1 ضرورة النقد قبل أن أتحدّث عن استتباعات فكرة الخطيئة الأصلية في المجالين الأخلاقي
والسياسي، وقبل أن أعرّج على العناصر التي بَدت لنقاد كانط المؤمنين غير
أرثوذوكسية في فلسفته للدين، أودّ إيضاح بعض النقاط المنهجية في مُقاربتي
لعمل كانط. أوّلها هو الموقف النقدي الذي يسري في عملي هذا، كما في كتابي
"الدين في حدود العقل أو التنوير الناقص" ومقالات أخرى. قد ينتاب بعض
القرّاء شيء من الامتعاض، ويَظنّون أنّ في تحليلاتي هذه هناك نوع من قلّة
الورع أمام عبقرية فذّة. أنا أوافق مبدئيّا على عبقرية كانط وعلى عظمتِه
ولكنّني أرفض التورّع والتقديس. ولا أرى، على كلّ حال، أيّ ضير في نقد صاحب
النقد، لأنّه هو نفسه استعمل ببراعة فائقة طاقته النقدية للإطاحة بالأفكار
والرجال، ولذلك ليس هناك حظر ماقبليّ ضدّ النقد، ولا يمكن الإدّعاء بأنه
جائز لشخص ومحظور على آخر. المفكر الجدّي لا ينبغي عليه أن يتجنّى على
المفكّرين أو يقصر مهمّته على قنص أخطائهم وهفواتهم لكي يحطّ من قيمتهم، بل
عليه أن يَسير بتريّث وحذر، وعليه أن يُراجع نفسه هو قبل الفلاسفة، وأن
يطلب لهم المعاذير لأنهم ليسوا حاضرين أمامنا للردّ على النقد وتفنيد
الاعتراضات. وإن كان من المسموح به الإدلاء بحكم ما، أو بتقييم لبعض
أفكارهم فإنّ عملية من هذا القبيل ـ جائزة بل ومشروعة على الحقيقة ـ لا
ينبغي أن تَنصبّ على النوايا دون صريح الأقوال، ولا أن تكون على حساب
الدّقة والموضوعية والنزاهة. نحن لا نتناول أفكار الفلاسفة لمجرّد عرضها
أكاديميا وتبسيطها للقراء، فهذه مُهمّة يمكن لكلّ قارئ أن يَطّلع عليها في
أيّ من كتب تاريخ الفلسفة، بل غرضنا الأساسيّ هو إبراز نقاطها القوية
والواهنة على حدّ سواء، ومحاولة نقد ما اعتقدناه، من وجهة نظرنا، غير مقبول
نظريا أو عمليا. إذن، لا ننكر أنّ هناك بعدا ذاتيا في تأويلنا هذا، وربّما
في كل تأويل، ولا ننكر أنّ هناك مخاطر في أن يجرّ المؤوّل نصوص الفيلسوف
كي تُعبّر عن أفكاره المسبقة. لكنّ هذه المخاطر يمكن تفاديها، وإن أصرّ
المؤوّل فهو محجوج بالنصوص.
أحاول في هذا المقال استعراض أكبر عدد ممكن من النصوص والآراء المختلفة
لكي تكون الصورة أكثر اكتمالا وتوازنا، دون أن أتوانى عن تقديم بعض
الاعتراضات وتوجيه انتقادات حيثما سنحت الفرصة وتطلّب الأمر. هذه
الانتقادات لا أعتبرها مناهضة لفلسفة كانط النقدية بسبب أنها فلسفة عقلانية
أو معادية للدين، بل إن اعتراضاتي عليها تكمن أصلا في أنها لم تذهب بالنقد
إلى مداه الأقصى، وبأنها ربّما تراجعت عن مواقع النقدية غير المهادنة
للدين التي دشّنها الفلاسفة الماديون الفرنسيون، قبل زمان كانط بقليل. هذه
مجرّد تذكرة للقرّاء العرب المتنوّرين كي لا يرتابوا في نوايا كاتب هذه
السطور، ولا يخطر ببالهم أنّ وراء نقد كانط هناك أغراض إيديولوجية مبيّتة.
من المحتمل جدّا أنّ الرجعية تتربّص لافتكاك أتعاب المفكّرين الأحرار
وجهودهم في تحليل ومناقشة المشاكل الفكرية الكبرى، وتتلقّف كلّ حرف مِمّن
يَنقد معالم الفكر الغربي، لكي تُصوّبها ضدّهم. هذا الأمر لا نستغربه
كثيرا، قد يؤسفنا لأنه انتهازيّ رجعيّ، ولكنه لا ينبغي أن يُثنينا عن
المضيّ قدما في مشروعنا النقدي.
***
من المعلوم أنّ فلسفة كانط، منذ بروزها وهي عرضة لتقييمات عديدة ومتضاربة
من طرف الفلاسفة واللاهوتيين المعاصرين له واللاحقين. هناك من ثمّنها
كلّها، ولم ير أيّ اعتراض عليها سواء من جهة أحكامها النظرية أو من جهة
استتباعاتها العملية.
وهناك من تجاوز هذا الحدّ وأطلق عنانه لتمجيد كانط وأعماله بصورة تبدو لنا
الآن، وحتى في عصره، لا فلسفية. الكاتب شتيلينغ (H. J. Stilling) في رسالة
بعث بها سنة 1789 إلى كانط بالغ في الثناء عليه ووصفه بأنه وسيلة فاعلة في
يد الله، مُتوقّعا بأنّ فلسفته «ستُحدث ثورة كبرى، ثورة أنعم وأشمل من
الإصلاح الذي جاء به لوثر. لأنه، من حين قراءة كتابكم نقد العقل المحض، نرى
أنه لا يمكن دحضه. فلسفتُكم يجب أن تَبقى خالدة لا تتغيّر، وكُتُبكم تُعيد
لدين المسيح صفاءه الأوّلي بحيث أنّها لا تعطيه أيّ هدف إلاّ القداسة، كلّ
العلوم تصبح أكثر تنظيما، أنقى وأكثر اعتدادا، والعمل التشريعي خصوصا يربح
ربحا لا يتناهى(1)».
المؤرخ الفرنسي ميشليه شبّهه بصخر منحوت بالماس في جرانيت البلطيق(2).
راينهولد (Reinhold) يَتندّر باسم كانط ويُسمّيه عمانويل الثاني، وقد
قارنَه أحبّاؤه بالمسيح؛ دَعُوه بالمنقذ والمخلّص الجديد؛ نور العالم،
العبقري الذي انتظره الخلق لمدّة عشر قرون، الإنسان الذي هو ليس فقط شمسا
بل نظاما شمسيّا كاملا؛ أوّل الفلاسفة، أو بالأحرى الفيلسوف الأوحد.
راينهولد لا يرى إلاّ كتابا واحدا يمكن مقارنته بـنقد العقل المحض وهو
أبوكاليبس يوحنا. أرسطو في خمسة عشر قرنا من الزمن لم يكن لديه من الشرّاح
ما كان عند كانط في خمسة عشرة سنة(3).
الفلسفة النقدية، حسب المؤرّخ تينّيمان، إذا اعتبرنا مفعولها فلا سبيل
للشك في أنها ساهمت مساهمة كبرى في تحرير العقل البشري من الدوغمائية
والأوهام. لقد رفعت من كرامة الروح البشري بجعله مركزا لكل اعتباراتها. إذ
أن بقياسها المواضيع القابلة للمعرفة على حدود ملكاتنا الذهنية، وبإضفائها
للعقل العملي الأولوّية على العقل النظري، قد كبحت جماحه وأبعدته عن الوقوع
في الدوغمائية، وعن ادّعاء القدرة على البرهنة الشاملة على كلّ شيء، وسدّت
المنافذ لكلّ نزعة تصوّفية. وبإجراء كهذا فقد شيّدت أساسا ثابتا لصرح
العلم والمعتقد الإنساني السليم. وبالجملة الفلسفة الكانطية «تُعلّمنا كشف
وتقدير، في جميع الأنساق الفكرية الأخرى، المبدأ والنزعة، الآراء الخاطئة
ووجهات النظر المخصوصة، كذلك تلك التي هي صحيحة وصادقة؛ أخيرا، تحمل في
ذاتها مبدأ حياة وواقع قادرا على إيقاظ، وتمتين وحفظ حماس البحوث العميقة.
الفضل يعود لكانط إن عثر العلم أخيرا على قاعدة ثابتة في الطبيعة
اللامُتغيرة للروح البشري. وبصفة عامة، نقدية كانط تُعنى أقلّ بما في وسعها
تشييده بقدر ما تعتني بتدمير الطلاوة المتقلبة والعبثية للدوغمائية؛ في
نفس الوقت تهيّؤ للعلم مستقبلا أكثر ثراء، بتعليم العقل البشري أن يدرس
نفسه، ويتحقق، على أساس طبيعة العقل الإنساني ذاته، من المبادئ التي
تُستخدم للتمييز بين مختلف أجزاء الفلسفة(4)».
وفي القرن الماضي كتب فيلهالم ديلثاي بأن «العبقرية المتينة لكانط أدت إلى
حلّ الميتفيزيقا الألمانية العتيقة، أسست وجهة النظر النقدية ووجدت في
فعاليات الأنا الأسس الصامدة لبناء صلوحية العلوم التجريبية والقيمة
اللامشروطة للمبادئ الأخلاقية(5)».
لكن هناك من شَقّت عليه أفكار نقد العقل المحض إلى حدّ اليأس، مثلما حدث
لِهاينريتش فون كلايست (H. von Kleist)، فبعد قراءته ذاك العمل أعرب عن
تأزّمه الداخلي واصفا، بأسلوب أدبيّ معبّر جدّا، الأثر الذي خلّفته فيه
النقدية الكانطية: «إنّ هدفي الوحيد والأسمى قد انهار ولا أملك غيره. مِن
يوم أن تَكشّفَت أمامي هذه القناعة بأنه لا يمكن في عالمنا هذا أن نجد
حقيقة ما، لمْ ألْمس كتابا قطّ. لقد تمشّيت مُنهَكًا في غُرفتي، جلستُ أمام
النافذة، خرجتُ إلى الهواء الطّلق، في الوقت الذي كان فيه انشغالي يدفعني
نحو المَقاهي الصغيرة والكبيرة، لقد ارْتَدْتُ مسارح وحفلات كي أنسى،
واقترفتُ، لكي أستفيق، حتى حماقة (…) ولكن، الفكرة الوحيدة التي كانت
تراودُني، في خِضمّ ذاك العالم الخارجي، بانشغال قويّ، كانت دائما هذه : إن
هدفكَ الوحيد والأسمى قد انهار. وقد رغبتُ في يوم من الأيام أن أشتغل،
ولكن قرفا باطنيا تَغلّب على إرادتي. لقد أحسست بِرَغبة لا تتخيل في
البُكاء على كتفيكِ أو في مُعانقة صديق(6)».
وبكلمات أشدّ مَرارة يُعرب نفس هذا الكاتب، في رسالة أخرى، عن استيائه
العميق من الفلسفة الكانطيّة: « يبدو أنني إحدى الضحايا العديدة، التي
خلّفتها الفلسفة الكانطية على ضميرها. هذا المجتمع يُقرفني، ومع ذلك لا
يمكنني أن أتخلّص من رباطه. فكرة أنّنا على هذه الأرض لا نعلم شيئا، لا شيء
على الإطلاق عن الحقيقة… هذه الفكرة أحدثت رجّة في صرح نفسي… مُنذ ذلك
الحين قرفت الكتب، بقيت مكتوف الأيدي أبحث عن مسار جديد يطمح له ذهني بغبطة
وحركية(7)».
لقد اعترف ستابفر (Stapfer)، أحد اللاهوتييين الكانطيين، بجدية اعتراضات
خصومه، وقال بأنه من المُوجع أن نرى «نفس الإنسان يتخيّل نظرية للمكان
تُذوِّتُ (subjective) الامتداد، يُخفي هذا المشهد الرائع للأمكنة، كي يأخذ
على الرّكح أين يتشكّل، في المَعامل الداخلية، الجهاز الظاهري للعالم
الخارجي(8)». أما معارضوه فقد اتهموه بأنه يستخدم هيبته « لحمل أتباعه على
تعنيف مشاعرهم الذاتية، على اختزال هذا المشهد المؤثر للإنسان، هذه الطبيعة
الخلابة، هذا الكون الرحب العظيم … إلى كائن لا يزيد عن أن يكون كائنا
إشكاليا(9)».
شتابفر يقول بأن هذه الانتقادات ليست عارية عن الصحّة. وقد اعترف مرة أخرى
بأن النسق الكانطي قد يقود إلى الجهل بالعالم الخارجي: «بينما أشكال
الحسّ، مقترنة بالمقولات، مطعّمة وملقحة بالمجهول "ص"، تُنتج عالما ظاهريا،
يتركنا ليس فقط في عدم اليقين المطلق ممّا يمكن أن يوجد فيه من مُطابق
للعالم في ذاته، بل دون أية إمكانية تجعلنا نتحقق من وجود شيء ما خارج
عنا(10)».
النقص الكبير الذي تشكو منه فلسفة كانط، يكمن في عدم قدرتها على «العثور
على ذلك المبدأ الواحد الحقيقي والفاعل الذي يجب أن يربط بالطبع النسق
الفكري المجرّد بالنسق العَمَلي للإنسان(11)». هذا النقص يقول كاتب إيطالي
من القرن التاسع عشر، هو نقص محدّد وذو مفعول شامل لأنه يسحب من بروتولوجيا
كانط صفتها الفلسفية العلمية الحقّة، بمعنى كونها مقولة مستنتجة من قانون
واحد أوّلي ومبرهن عليه. هذا الفيلسوف، يكتُبُ مؤرخ الفلسفة بوهل (Buhle) «
ساق بالتوازي الملكتين الأساسيتين للروح الإنساني، أي العقل النظري والعقل
العملي، وبَحث عن مبادئ كل واحدة منهما على حدة. نقد العقل النظري ونقد
العقل العملي هما عَمَلان مختلفان دون موضع مُوَحّد. صحيح أن كانط يكرّر
عديد المرات أن العقل هو وحدة مطلقة؛ ولكنه لم يبرهن كيف هو، وكيف يمكن أن
يكون. ما قاله عن أولوية العقل العملي يبرهن فقط على أنه هو الملكة الأولى
للروح الإنساني، لأنه يعبّر عن أعزّ مصلحتها. لكن لأي سبب تكون أعزّ مصلحة
العقل الإنساني مجرّد مصلحة عملية خالصة؟ فيما يتمثل الفارق الأساسي بين
العقل النظري والعقل العملي؟ ما هي العقدة التي تربط بينهما في وحدة مطلقة
بحيث يمكن أن يؤسس عليها نسقا مكتملا كليا لمبادئ فلسفية؟(12)».
ليست هناك إجابات واضحة ومحدّدة : كانط، زرع الشكّ والفرقة بين التنظير
والفعل، يواصل المفكر الإيطالي رومانيوزي (Romagnosi)، والأهمّ من ذلك هو
أنه «إذا تقيّدنا بالكانطية الأصيلة فينبغي أن نَمتنع عن ذاك النزر القليل
ممّا نعرفه لكي نُنْفَى في صحراء معزولة مغطاة بغُبار داكن، بل بشواش مظلم،
مع القناعة المُحزنة من أننا لن نخرج منها أبدا(13)». إن صورة العقل
الإنساني الناجمة عن مذهب كانط، حسب الكاتب هي صورة، بائسة، رهيبة في
بؤسها. الروح البشري عند كانط تغدو مجرّد : « يَرَقة مُلغِزة وعاجزة،
أُعطِيت فقط إرث أفكار المكان والزمان والمقولات دون القدرة على تخطّي
الحاجز الذي يفصلها عن الطبيعة الخارجية التي اعتقدت في وجودها(14)».
الشك في ملكات الإنسان يَسحب كل اليقين عن المعرفة الإنسانية؛ القول بأنه
من المستحيل التحقق من واقعية الظواهر الخارجية يَمحق من الأساس كلّ منهجية
تجريبية؛ التأكيد على المثالية الخالصة يَختزل «الحياة في حلم محض». نعم،
لقد ألزم كانط الفلاسفة بمراجعة أسس المعرفة الإنسانية، ونبّه إلى أنه قبل
السير قدما عليهم أن يتحققوا من صلوحيتها. وهذه إحدى الخدمات الجليلة التي
قدمها صاحب النقدية في ميدان الفلسفة، كما اعترف، كاتب المقال الذي أنا
بصدد الاستشهاد منه. لكن هناك اختلاف بين القول إن ذلك البرهان لم يُعطَ
بعد، وبين القول بأنه من المحال إعطاؤه؛ فرق بين التفطّن لنقص ما، وبين
العمل على سدّه؛ فرق بين الحظر، وبين فعل ما هو أفضل. كانط « فعل جيّدا
الجزء الأوّل، لكنه أخفق كلّيا في الثاني(15)». لقد ترك لتلاميذه إرثا
فكريا شتّتهم عوض أن يوحّدهم. أحد أتباعه المخلصين، شتابفر، أقرّ بذلك،
ولكن عَزاه إلى عدم فهم لتعاليمه: «كانط تمّ تأويله خطأ في نفس الوقت من
طرف بعض أتباعه ومن خصومه. سيغموند باك (Beck) كان قد شوّه التعاليم التي
تَخَيّل بأنه يعرضها، مُحوِّرا إياها إلى مثالية بِحذفه ذلك الـ "ص" الذي
لا نعرفه على الحقيقة، أو بعبارة أخرى، الذي لا نُصيغه في معمل ملكاتنا
الإدراكية والتصوّرية، ولكن شعورنا يشهد بواقعيته. فيخته جعل من اللاأنا
حدّا وَضَعَه عفويا الأنا ذاته، ضروريا لولادة الشعور بالذات، ويزعم بأنه
استخرج نتيجة لا محيد عنها من مبادئ كانط، باستنتاجه منها المثالية
المتعالية، زعمٌ نهض ضده معلّمه بكل قوة(16)». اتهام المفسرين بأنهم لم
يفهموا جيدا أفكار مَن يَعمدون إلى تفسيره هو اتهام كلاسيكي معروف، لكنه
ضعيف وسهل النقض. لقد شكّك رويسّ (Reuss)، فيلسوف كاثوليكيّ صديق لكانط، هو
بدوره في قدرة شتاتلر (Stattler)، الذي كتب كتابا في جزأين سمّاه "ضدّ
كانط (Anti-Kant)"، على فهم لبّ فلسفته. قال بأن شتاتلر لا يُصارع التعاليم
الصحيحة لكانط بل يتصارع فقط مع أشباح. فهو لم يفهم كانط، ولا يستطيع أن
يفهمه، بل لم يُكلّف نفسه حتى عناء قراءة "نقد العقل العملي" وبذلك فقد
ضيّع الفرصة لإدراك جوهر فلسفته لأن « بدون ذاك الكتاب فإن أعمال كانط
الأخرى هي فقط شذرات. إذن، كيف يستطيع شتاتلر فهمها؟(17)».
المؤرّخ العارف جدّا بفلسفة كانط، أعني بوهل، لا يتّفق مع أقوال شتابفر
بخصوص عمل باك (Beck). إذ في رأي هذا المؤرّخ، النسق الكانطي يبدو فعلا
أنّه مثاليا كلّه «لا شيء يوجد واقعيا خارجنا، فكلّ ما يبدو لنا موجودا
خارجنا ليس هو مؤسّسا إلاّ على فكرنا، لا يوجد إلاّ في فكرنا، ويوجد فقط
بفضل فكرنا. لا يمكن أن ننفي أنّ هذا الشرح على الكانطية (شرح باك) يوافق،
إن لم يكن في الحرف على الأقل في الروح، النسق؛ وفيخته كان محقا في حكمه
حينما قال بأن باك كان أوّل من مسك بالمعنى الصحيح لتلك التعاليم(18)».
قد تكون هناك أسباب موضوعية تجعل من تشويه تعاليم كانط أمرا ممكنا أو
مُحتّما، وذلك في رأي بوهل، راجع إلى أن المنهج الذي تبنّاه كانط، أو
المصطلحات الجديدة المنحوتة من قِبَله، هي التي ساهمت إضافيا في عواصة
المسك بالأفكار الأصيلة التي طرحها في كتاباته. لكن مع مرور الزمن ومع
الدخول في صلب المعاني الجديدة، أصبح النسق أكثر وضوحا، وبدأت تطفو على
السطح المفارقات وتَرتسِم جلية نقاط الضعف. لكن حدث شيء غريب لأتباعه وهو
أنهم حاولوا بكلّ جهد إخفاء تلك التناقضات وكبتها. يقول بوهل : «لكن تلاميذ
كانط تصوّروا تقديرا عاليا لمعلّمهم بحيث أنهم بالكاد يعتقدون بأنه يمكن
أن يقع في خطأ. وخوفا من تأويله خطأ، لم يجرؤوا على الفحص المعمّق لشكوكهم،
ولا الاعتراف بها جهرا؛ لا بل إنهم نشروا بكل سخاء دقائق الجدلية لتبديد
مآزق الكانطية، أو على الأقلّ لحجبها بكل الوسائل، أي أنهم اقتصروا على كلّ
ما بدا لهم حسنا بامتياز في انتظار إجلاء كل النقاط الغامضة، والتطويرات
والاستكمالات التي مازال النسق قادرا على تحقيقها(19)»
المشهد إذن، هو هذا ـ أسْرد آراء المفكر الإيطالي رومانيوزي ـ «إنّ عمل
كانط، في الجزء الذي زعم فيه صناعة شيء ما هو إنتاج مُقنَّع، والذي حينما
نزل للجمهور لم يُحرّك فضوله المعرفي. حتى جاء صحفي مشهور [يقصد به
راينهولد] وقال للجمهور: انظروا جيدا هنا يختفي وجه مرموق. حينها أُريدَ
اكتشاف الملامح بمعزل عن الفكرة التي أعطاها عنه الصحفي. لكن الوجه الجميل
تم الكشف عنه وتوصيفه بدقة، وعندها كلّ واحد رغب في صنع حفلته التنكرية
(mascherata) الخاصة؛ وسُحبت من النموذج الأهمية الأولى فهَوَت المدرسة في
تشتّت(20)»
ربّما يكون هذا المفكّر الإيطالي، الذي دوّن ملاحظاته أعلاه سنة 1827 أي
بعد 23 عاما من وفاة كانط، محمولا بشيء من الاحتقان والكره لصاحب الفلسفة
النقدية. لكن أين نضع نقّاده الألمان المعاصرين له (رايماروس، ياكوبي،
فيدر، فايسهابت، تيدمان، بورن، ماسّ، إيبرهارد، شولتس، باك، بندافيد،
ستاتلر)؟ ماذا نقول في هردر (Herder) الذي عاش قسطا كبيرا من حياته مع كانط
وتتلمذ على يديه؟ وأين نضع انتقادات همّان، صديق كانط، على نقد العقل
الخالص وهو في بداية ظهوره؟ لقد استخدم مكنة السخرية، على الشكل الفولتيري،
وقال بأنّه عن طريق طلسم اللغة والكلام فإنّ ابن بلدي (كانط) « قد بنى قصر
نقده، وبالمثل عن طريق هذا الطلسم فقط، يمكن هدم ذاك البناء السحري. لا
يستحقّ إضاعة كلمة واحدة، ما دام لم يُتّفَق بعد عما يعنيه كلّ واحد بكلمة
عقل وإيمان : ليس ما يعنيه هيوم، أنت وأنا وهو، بل الشيء كما هو، وهل أن
الشيء موجود [أم لا]. إن لفظةً كليّةً هي قِربة فارغة والتي تتغير في كل
لحظة وإن نُفِخت كثيرا فستتفرقع، ولا يمكن أن تحمل داخلها هواء؛ وهل يستحقّ
عناء التخاصم على ملح أجاج، على قشرة دون محتوى؟ العقل هو منبع كل حقيقة
وكل خطأ: شجرة معرفة الخير والشرّ. وكلاهما بالتالي في الحقيقة، أولئك
الذين يُؤلّهونه وأولئك الذين يَحتقرونه. كذلك الإيمان فهو منبع للكفر
والتعصّب. من نفس الفم تخرج النعمة والنقمة(21».
لقد أراد صاحب النقد أن يُطهّر الفلسفة ممّا لحق بها من أدران، ولذلك فإن
أوّل عملية تطهير، يقول همان، ابتدأها بمحاولة جعل العقل «متحرّرا من أيّ
تراث وإيمان بالتراث. الثانية، هي أكثر تعاليا، وتطمح، ليس أقل من
الاستقلال عن التجربة وعن استقرائها العادي ـ ذلك لأنه، بعد أن بحث العقل
لمدّة 2000 سنة عمّا لا ندري ماوراء التجربة، ليس فقط فجأة فقَدَ الثقة
بالمسار المتواصل لعمليّاته، بل يَعِد أيضا بنفس الجرأة المعاصرين
المتعجّلين، وفي وقت قصير، بتلك الحَجَرة الفلسفية الكلية، غير القابلة
للخطأ والضرورية للكاثوليكيين والطغاة، والتي بضربة واحدة سيتنازل لها
الدين عن قداسته والتشريع عن سلطته(22)». ثم إن صاحب النقد استخرج من
مَنبعين اثنين (تقبّلية اللغة وعفوية التصورات) «كل عناصر صَدّه وتدقيقه
وكل تعسّفه» بحيث إن العقل المحض « يُنتج بفضل تحليل وتركيب اعتباطيّين
مصنوعين من خميرة ثلاث مرات جافة، ظواهر جديدة ونيازك أفق متحوّل؛ يصنع
[العقل المحض] علامات ومعجزات بفضل مُنتِج ومحطّم الكلّ(23)». لن أتوقّف
كثيرا عند همان فالموضوع يحتاج إلى تعمّق وإحاطة أشمل، ولا داعي للإطالة في
هذا المقام.
وعلى نفس وتيرة همّان، ولكن بأكثر وضوح وأعمق دراية، خصص هردر كتابا
كاملا للرّدّ على "نقد العقل الخالص"، سمّاه "مِيتَا نقد نقد العقل المحض".
ومنذ البداية عارض فيه بشدّة المشروع النقدي من الأساس حيث قال بأن عنوان
الكتاب هو في حدّ ذاته عنوان ناشز، قائم على مفارقة، لأنّ مَلكَة طبيعية
مثل العقل «لا تُنقَدُ بل، إن دعا الأمر، تُفحَص، تُعرَّف، تُرسَم حدودها
بالإشارة إلى الإفراط والتفريط في استعمالها. نحن نَنقد الفُنون والعُلوم،
بما هي كذلك وبحسب مُنتجاتها، لأنها من إبداعات الإنسان : لا نَنقد الملكات
الطبيعية(24)». العقل عند كانط هو الحاكم والمحكوم في نفس الوقت، لكن هردر
يردّ بأن هذا خلف منطقي يقود إلى الجنون، ذلك لأنه ليس هناك من عقل إلاّ
العقل الإنساني، ولا نملك عقلا آخر يعلو عليه، وبالتالي فإن الحكم على
العقل الإنساني بعقل آخر يُعتبر خروجا عن العقل ذاته(25). ثم إن النتائج
المرجوّة من هذا النقد الكانطي، حسب هردر، حتى وإن سلمنا بمشروعيته هي
نتائج غير موفية بتطلعات الإنسان العلمية، ذلك لأن الفلسفات السابقة لم
تسدّ الباب أمام أي غاية معرفية، ولم تضع عراقيل تكوينية في ذات الإنسان
تمنعه من بلوغها. إنها فلسفات متفائلة تجعلنا نعتقد بإمكانية التقدّم إلى
ما لانهاية « لكن حسب الفلسفة النقدية، العقل المجنون الساكن فينا يَجري،
ما قبليا، وراء وهم لغوي(26)». بعد أن استعرض كل المآزق والتناقضات التي
تنخر النقدية الكانطية، خلص هردر إلى الحكم التالي والذي يُدوّي في مسامعنا
الآن بكلّ غرابته. قال إنّ «ما يُسمّى بـنقد العقل المحض هو شكل مُزدوج
(Zwittergestalt) من المنطق والميتافيزيقا، وإذا وضعنا أجزاءه جنبا إلى
جنب، فسنحصل على قصيدة شعرية، تنتَظِم وتنحلّ باستمرار، لُعبة مع ذاتها
(ein Spiel mit sich selbst)(27)».
أما هيجل فقد انصبّ نقده على جانب آخر من فلسفة كانط، ولكنه ثمّن ما كان
قد انتقده هردر. فعلا، يرى هيجل أن نقد العقل الخالص يُفضي إلى سدّ الباب
أمام واحدة من الغايات الأساسية التي وُضع من أجلها. وذلك لأن كانط عوّل،
حسب زعمه، على التحليلية لكي يُوفّر ثبوتا ماقبليا، وبالتالي كليا وضروريا،
للعلم، إلاّ أنّ التحليلية أخلصته إلى الفشل، نظرا لمَحدودية الجهاز
التصوّري الذي انطلقت منه.
لكن أكثر سهام نقده وجّهها إلى الجانب العملي من فلسفة كانط. فالتّعارض،
يقول أحد المؤرخين، هو من الجذرية إلى حدّ أنه أصبح أمرا غرائزيا، نوعا من
الإختلاف الأنثربولوجي السابق حتى على معرفة أعمال كانط(28). وفعلا منذ
بدايته فإن هيجل رفض أخلاق "الواجب" التي تَدحَر إلى ما لانهاية أو تَضَع
في عالم متعال غير محدَّد، أيّ إنجاز مكتمل للحياة الأخلاقية. إن تحقيق
الفعل الأخلاقي هو بالنسبة لهيجل ممكن، وهو كسب ليس فقط للفرد، بل
للمجموعة. العراقيل، والسلبيّات والشرور التي تصادف أفعال الإنسان لا يمكن
أن تعوق تحقيق أخلاقية دنيوية حاضرة، فكما أن العمل الفني يمكن أن يصدر من
البؤس والشقاء، كذلك زهرة الحياة الأخلاقية، المنتهية في كمالها، يمكن أن
تينع من مزبلة التناقضات. ولإعطاء مثال نموذجيّ على حدّة النقد الذي وجّهه
هيجل لأخلاق الواجب الكانطية يكفي الرجوع إلى صفحات فينومينولوجيا الروح
المخصصة لمفهوم الضمير الأخلاقي (Gewissen).
هناك استثناء واحد، في خضمّ النقد التفصيلي والقاسي الذي قام به هيجل، وهو
عمل كانط المتأخّر نسبيا، نقد ملكة الحكم، الذي اعتبره أرقى نتاج فكري
توصّل إليه كانط. إن نقد ملكة الحكم، يقول هيجل، « له هذه الميزة العظيمة
من حيث إن كانط عبّر من خلاله عن التمثّل، لا بل عن فكر الفكرة (der
Gedanke der Idee) … العديد من المفكرين، وخصوصا شيلر، وجدوا في فكرة
الجمال الفنية، في الوحدة الواقعية للفكر والتمثل الحسي، مسلك الخروج من
تجريدات العقل؛ وهناك آخرون [وجدوا ذلك] خصوصا في الحدس وفي الوعي بالحياة
عموما إن كانت طبيعية أو ذهنية(29)».
2 ـ كانط الهرطقي:
لكنّ فلسفة كانط بالنسبة لمعارضيه من المؤمنين هي أشدّ خطورة من الفلسفات
الأخرى لأنها، بخلاف الدوغمائية السكولاستيكية، أنكرت على العقل أية
إمكانية للبرهنة على وجود الله وخلود النفس وخلق العالم. ولهذا السبب وصفها
هاينريتش هاين بأنها فلسفة مدمّرة للمعتقدات الدينية وحتى لأسس الديانة
الطبيعية، ولا يقلّ صاحبها ـ الوديع المسالم في حياته الخاصة ـ إرهابا عن
الثوريّ روبيسبيار (Robespierre). إنّ كتاب نقد العقل المحض يقول هاين « هو
السيف الذي جزّ في ألمانيا رؤوس المتألهين(30)» ويضيف « ما هذا التضارب
المذهل بين نمط حياة هذا الرجل وفكره المُحطّم(31)». ولئن كان عمانويل كانط
« هذا المدمّر الكبير في ميدان الفكر قد فاق كثيرا روبيسبيار في الإرهاب،
فهو مع ذلك يُبدي معه بعض التشابهات التي تثير مقارنة بين هذين الرجلين …
الطبيعة اصطفتهما لكي يَزِنا السُّكّر والقهوة، لكن القَدَر أراد لهما أن
يَزِنا أشياء أخرى؛ أحدهما واضعا على كفة الميزان رأس مَلِك والآخر
إلها(32)»، ذلك لأنه « حسب كانط، الله هو نومين، وعلى أساس براهينه فإن ذاك
الكائن المثالي المتعالي الذي دعوناه، حتى اللحظة، الله، ليس هو إلاّ
افتراضا. إنه نتيجة وهم طبيعي. أجل، كانط يبرهن كيف أننا لا نستطيع أن نعرف
شيئا عن هذا النومين، عن الله، وكيف أن أيّة برهنة عقلانية عن وجود الله
مستحيلة. يجب علينا أن نكتب فوق هذا الجزء من نقد العقل المحض كلمات دانتي
(Dante) "[أنتم أيها الداخلون] اتركوا أيّ رجاء"(33)».
«إن الأب الحقيقي للإلحاد المعاصر هو كانط(34)»، هكذا يكتب أحد المفكرين
الكاثوليكيّين من القرن المنصرم. لا نستغرب إذن، والأمر على هذه الشاكلة،
إن عمدت الكنيسة الكاثوليكية إلى وضع نقد العقل الخالص تحت الحظر. إن
تعاليم نقد العقل الخالص هي في تضارب تامّ مع مُعلّم الكنيسة توماس
الأكويني الذي رام مصالحة المسيحية مع عقلانية أرسطو، وإرساء اليقين
الإيماني على أسس عقلانية غير قابلة للدحض، كما يزعمون. البابا بيو العاشر
(Pio X)، أدان النزعة الحداثية، رادّا جذورها الأولى إلى ما أسماه بهذيان
الفلسفة الكانطية(35). المفكر الكاثوليكي ماتيوسّي (Mattiussi) أصدر سنة
1907 كتابا بعنوان "السمّ الكانطي" وصف فيه تعاليم كانط بأنها كلّها "خبيثة
وخاطئة"، لا بل هي، حسب زعمه «سمّ يكفي منه قطرة واحدة لقتل العلم
والعقل»، وجَعْل الإيمان الديني مستحيلا(36). الصراع لا يمكن إلاّ أن يكون
على أشدّه، بين من يَضع حدّا لمغامرات العقل النظري في حلبة الميتافيزيقا،
وبين من يُجنّد نفس هذا العقل للتعبير عن بنود إيمان تاريخي مخصوص. في خضمّ
هذا الصراع الدائر بين هذين العالمين، أو بالأحرى، بين هذين الضربين من
تصوّر للعقل والفلسفة، اختارت الكنيسة الأكويني، ودَحرَت كما يقول الفيلسوف
الكاثوليكي أنتيساري « بنصوص قاسية وأحينا دون رحمة كل المحاولات الدفاعية
لأولئك المثقفين الكاثوليك الذين، على أسس كانطية، راموا إعادة صياغة
العلاقة بين العقل والإيمان(37)».
المجابهة بين من يدعو للتخلّص من ربقة السلطات الدينية باسم حرية التفكير
والمعتقد، وبين من يفرض تعاليم الإيمان من أعلى، ويصدّ الناس عن حرّية
البحث لا يمكن تفاديها. في مقاله جواب عن سؤال ما التنوير؟ يقول كانط صراحة
بأنه وضع نقطة التنوير المركزية، في أمور الدين، وإن الإهانة الكبرى في
حياة الإنسان تتأتى حينما تعمد مجموعة من القساوسة إلى تقرير مصير العقيدة
ثمّ فرضها على الناس كما لو أنها تعكس بالفعل رسالة المسيح(38).
كانط لا يدّخر أي عبارات لإدانة الإكليروس وسَحب المشروعية عنه. يقول في
كتاب "الدين في حدود بسيط العقل" بأن الإكليروس هو شكل من الأشكال
الدستورية لكنيسة محكومة بتعبّد فيتشي "صنمي" (Fetischdienst) وتلك
الفيتيشية تبرز كلّ مرّة يوضع فيها الأساس الأولي للعبادة ليس في مبادئ
الأخلاق الصافية، بل في أوامر شعائرية، في بنود عقيدة وفي ممارسات
تَقَويّة(39). هناك مجموعات مختلفة من الإكليروس، يضيف كانط، حيث إن
الفيتيشية عندها، متعدّدة الصور وميكانيكية، وصلت إلى حدّ رفع أي أخلاقية
وأي دين، وتبدو بجدّ في عداد الوثنية. من المحتمل جدّا أن كانط يهاجم هنا
الكنيسة الكاثوليكية ونظامها، الشيء الذي رآه أتباع تلك الملّة تهجّما
مجانيا لا يليق بالفيلسوف النقدي، لأنه يعبّر عن وجهة نظر بروتستانتية
مقنّعة. إنه يرى في هذه الكنيسة، التي لم يسمّها كما قلت ولكن يمكن حدس
هويّتها، قوّة تفرض من أعلى شعائر عبودية على شكل انصياع إلى تعاليم دينية،
ولا تأمر، على العكس، بالتمسّك الحرّ الورع أوّلا وقبل كل شيء بالقانون
الأخلاقي. وبفعلتها هذه، حتى وإن كانت تلك الأوامر التعبدية قليلة، تبقى
دائما محصورة في مجال الفيتيشية، حيث تتحكم في الكتلة (die Menge regiert)
وتُذعِنها إلى كنيسة (لا إلى دين) وتسلبها حرية أخلاقها(40). ومهما كان
النظام الهيرارشي لهذه الكنيسة: ملكي، أرستقراطي، ديموقراطي، فإن دستورها ـ
حسب كانط ـ يبقى دائما، في جميع هذه الأشكال، "استبداديا (bleibt
doch..immer despotisch)".
لكن كانط كان أكثر تشدّدا وإدانة إزاء العبادات الخارجية : لقد أنكر
مفعولها ونفى عنها أي صلاحية عقائدية، بل رفع عنها الصفة التي يقتنع بها
أصحابها، أعني التقوى.
في رسالته إلى لافاتير (Lavater) لسنة 1775 يُجيب فيها عن سؤال حول
الإيمان والصلاة، يقول كانط بأن لافاتير يتوجّه بسؤاله: «إلى رجل لا يعرف
وسيلة أخرى يمكن أن تحافِظ على صلاحيتها التامّة في اللحظة الأخيرة من
الحياة سوى الإخلاص النّقيّ بشأن النوايا السرّية للقلب؛ إلى رجل، مثل
النبي أيّوب يَعتبر التملّق إلى الله جريمة (ein Verbrechen)؛ والقيام
بمراجعات للنفس التي ربما تكون مُملاة من الخوف، بحيث إنّ النفس لا تتوق
القيام بها بفعل إيماني حرّ. أنا أميّز ـ يواصل كانط ـ بين تعاليم المسيح
والأخبار التي وردتنا، ولكي أستخرجها في نقائها، أبحث في البداية، باستمداد
التعاليم الأخلاقية، بمعزل عن كل أوامر ونواهي العهد الجديد(41)».
الدين الحق، يتركّز «في مفهوم الفضيلة الأخلاقية الصافية، في استفاقة
الوعي بأننا نملك قدرة تمكننا من تجاوز أكبر العقبات الثاوية فينا؛ في
الكرامة الإنسانيّة التي ينبغي على الإنسان ضرورة أن يحترمها في شخصه وفي
الغاية التي تطمح إليها؛ في تلك الكرامة، إذن، التي يجتهد لتحقيقها، هناك
شيء يسمو بالروح إلى أعلى وصولا إلى الألوهية ذاتها ـ والتي تستحق العبادة
فقط لقداستها ولتشريعها للفضيلة ـ بحيث إن الإنسان حتى وإن كان بعيدا جدا
عن أن يقرّ لهذا المفهوم بالقدرة على التأثير في مسلّماته، فهو مع ذلك لا
يتأخر عن طيب خاطر [عن الاقرار بها] لأن، بطريقة ما، يشعر بأنه يزداد نُبلا
بفكرة الفضيلة هذه(42)». كانط يرفض أن يكون مفهوم الفضيلة متأتيا من أمر
إلزامي إلهي لأنه في هذه الحال هناك خطر في تقويض قوّة النفس « وتحويل
التقوى الدينية إلى إذعان متملّق وعبودي في خدمة سلطة استبدادية(43)».
إن العبادات والطقوس والتعاليم الدينية لا تتقدّم على الفضيلة، بل في حالة
إعطاء المكانة الأولى لعبادة الله وتأخير الفضيلة، يغدو هذا الموضوع صنما
(dieser Gegenstand ein Idol) : فالله يُتصوَّر هنا ككائن يَسرّه أن نتقرّب
إليه لا بالسيرة الأخلاقية الحسنة في هذه الحياة، بل بالعبادة والتملّق.
لكن في هذه الحال، يصرخ كانط «الدين إذن هو وثنية (die Religion ist
alsdann Idolatrie)(44)».
كانط، يُنظّر بصريح العبارة إلى دين خَالٍ من الصلاة، وهناك تعارض مبدئي
بين الدين والطقوس، بحيث إن الإنسان المتديّن بحقّ « يكفّ عن الصلاة» لأنها
ليست إلاّ وهما خرافيا، عمل فيتيشي. هكذا يقول في كتاب "الدين في حدود
مجرّد العقل"(45). عن طريق الصلاة، يُضيف كانط، لا يُستكمَل أيّ شيء ولا
يؤدَّى أيّ واجب إلهي، وبالتالي فالصلاة ليست وسيلة للتقرّب إلى الله. عوضا
عن هذه الصلاة الطقوسية الظاهرة والظرفية، يرشّح كانط روح الصلاة، التي
يجب أن تُوجد في داخلنا دائما ودون انقطاع. فالرغبة الخالصة للتقرّب إلى
الله، حسب رأيه، لا ينبغي أن تُلبَس بكلمات وقواعد. ونظرا إلى أنها بما
مجرّد رغبة يجب المحافظة عليها فقط لغرض نوع من بيداغوجيا الإرادة
الأخلاقية. لكن في حقيقة الأمر «الصلاة هي نفاق؛ وسواء كانت سرّا أو جهرا،
فإنّ الإنسان يتمثّل اللهَ كموضوع حسّي، في الوقت الذي هو مبدأ عقلاني.
وجود الله غير مبرهن عليه، ليس إلاّ مصادرة ولا يصلح إلاّ للاستعمال
المحدّد الذي ألزمَنا العقل على افتراضه. يقال إن "الصلاة لله لا تضُرّني؛
وحتى في حالة عدم وجود الله فإن الصلاة ستغدو فعلا حسنا نافلا؛ لكن في حالة
وجوده، فإن صلاتي ستكون عملا صالحا". إنه نفاق ـ يجيب كانط ـ لأن الصلاة
تفترض يَقين مَن يؤديها بوجود من تُوجّه إليه. مَن أحرز تقدما في عمل الخير
يكف عن التعبّد، لأن الصراحة هي جزء من قواعد سلوكه؛ ومن هنا يأتي خجل من
نكشفه على حين غرّة وهو يصلّي. ومع ذلك يجب المحافظة على الصلاة لأنّ لها
مفعولا خطابيّا صالح لاستثارة مشاعر الجمهور وتهييج حماسته.
إذا كانت الصلاة خارجة عن التدين، حسب كانط، فإن الطقوس بكاملها أيضا تفقد
من معناه، وحتى الزهد ذاته. كل هذه العبادات يسميها كانط جنونا وهذيانا
(Wahnsinn): الطقوس ليست إلاّ تعبيرا عن أوهام ذاتية، لأن الإنسان يَجد
لذّة في تقدير الآخرين له والثناء عليه، ولذلك فهو يُسقط هذا الشعور على
تصوّره لكيفية تعامله مع الله. ويتخيل أنه بطقوسه يؤدي عملا حسنا لله،
ويعوِّض، دون مبرر، بمفهوم العبادات الإلهية مفهوم الدين الأخلاقي البحت.
الدين القويم، بالنسبة لكانط، يُعنى بالإنسان وبالسُّبل المؤدية لتحسين
أعماله، أما الدين الباطل فهو يُعنى بالإله ويطلب رضاه، ولذلك فإن « تصوّر
إرادة إلهية محدّدة طبقا لقوانين أخلاقية بحتة، لا يترك مكانا إلاّ لإله
واحد ولدين واحد، دين أخلاقي بحت». والعبادات في حدّ ذاتها تعبر عن وحي
تاريخي، ولذلك يعمد كانط، كما يقول الكاتب الكاثوليكي تشارلز، بنوع « من
كره للأحداث، إلى تطبيق مبدئه على الأديان الوضعية، وسحق كلّ
مضامينها(46)». فالمسلمون مثلا، عوضا عن تأدية الفرائض الخمس، عليهم أن
يلتزموا بالزكاة فقط ، لأن الأخرى نافلة، وفريضة الزكاة لوحدها تستجيب
للقانون الأخلاقي، إذا ما أدّاها المسلمون من أجل الواجب الإنساني. الصلاة
والصوم والحجّ عند المسلمين، أو القداس وزيارة القبور عند المسيحيين، أو
الذكر وإدارة الاسطوانة عند اللاّما (Lama)، كلّها أشياء واحدة، ولها نفس
القيمة (das ist alles einerlei und von gleichem Wert)، أي اعتباطية
وخالية من أيّ معنى. بين طقوس الإنسان الأوروبي المتحضر وبين طقوس
البدائيين هناك فعلا اختلاف شكلي ولكن من حيث المبدأ، كلهم ينتمون إلى نفس
فصيلة أولئك الناس الذي ينسبون قيمة تعبّدية على أفعال لا تجعلهم أبدا
أناسا أكثر أخلاقية.
أما الكنيسة الحقة كمؤسسة دينية فهي ليست الكنيسة المنظورة، بل هي كنيسة
القلوب المستقيمة دون أي سلطة دينية خارجية، فلا تعبّد فيها ولا صلاة ولا
حتى عقيدة، بل فيها أشخاص يجمعهم الواجب الأخلاقي دون وعي جماعي.
التربية الدينية تتماهى مع التربية الأخلاقية، وتعليم العقيدة للأطفال
الصغار هو أيضا نفاق، لأننا نبثّ فيهم روح العبودية إن علّمناهم أن واجبهم
الأوحد يتمثّل في طاعة الله وعبادته.
كانط ينفي صوريا ألوهية المسيح : التجسّد إن أخذناه بمعنى تاريخي واقعي
فهو مستحيل على الإطلاق. ولا يدخل كمكوّن فِعلي للدين العقلاني، لأنّ
التجسّد ليس استتباعا ولا مبدأ للفعل الأخلاقي. المسيح كمثال أوحد للإنسان
الخيّر هو مفهوم يمكن أن يطابق مفهوم الإنسان المحبوب عند الله، وهو مفهوم
مستقلّ عن العالم المخلوق، وبالتالي فهو خالد وأبديّ؛ إنه كائن متفرّد
ولأجله خُلق هذا الكون، وبدونه لن يحدث شيئا. فهو العلة المتممة للعالم،
وفيه أحبّ الله العالم وبه يمكن أن نصبح أبناء الله. ومثال الإنسان الخيّر
يجب أن يحوي في ذاته مثال الإنسان المتألّم والصابر، ولكي نُبرَّر أمام
الله يجب علينا الاعتقاد المجاني في الوجود الواقعي لهذا المثال وجَعله
أسوة لنا. هذا المثال إذن هو الوسيط والشافع المخلّص، من وجهة نظر عملية
أخلاقية، دون أن يرقى مثاله ذاك إلى الوجود العيني. وإذا تجاوزنا هذا الحدّ
وجعلنا منه كائنا واقعيا فإننا نخرق حدود العقل النظري: المثال التاريخي،
يسوع المسيح يمكن أن نعتبره فقط كمعلّم قدير، ومؤدّب، دون أيّ صفة إلهية
متعالية.
أما عماد الصلاة المسيحية، أي الدعاء الذي أمَر به المسيح "صلّوا أنتُم
مِثل هذه الصلاة" : « أبانا الذي في السماوات، لِيَتقدّس اسمُك. ليأت
ملكوتُك. لِتكُن مَشِيئَتك على الأرض كما في السماء. أرزقنا كفافنا خُبزَ
يومنا. واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن للمذنبين. ولا تُدخلنا في تجربة، لكن
نجّنا من الشرّير، لأن لك المُلكَ والقوّة والمجد إلى الأبد (متّى، VI،
13)»، فهو، بالنسبة لكانط، عكس ما تشير إليه كلماته، لا يحوي أي طلب يمكن
أن يرفضه الله أو يستجيب له، بل إنه يُعبّر عن إرادة الفعل الصالح. وبما أن
هذه الإرادة، إن كانت جدّية، تجعلنا بالفعل طيبين، يجب الاعتقاد بأن تلك
الصلاة بما هي دعاء ستُقبَل منا. هذا التأويل، يقول فيه تشارلس (Charles)،
هو مُصطنع كليّا، لأن كانط، بما أنه قد أصرّ على أن الصلاة هي دليل على
ذهنيّة لاأخلاقية وأنها تتناقض مع مقومات الدين الحقّ، كان عليه إمّا أن
يرفض تماما تعاليم المسيح، أو أن يُحاول « المغامرة المستحيلة لإنجيلية دون
صلاة(47)».
كل هذه الأراء جعلت من المؤمنين يستشعرون خطر فلسفة كانط على الدين. كاتب
سيرته بوروفسكي (Borowski) الذي لازمه لمدة طويلة قال بشيء من الأسف: «كم
كُنتُ أودّ، مِن كلّ قلبي، أَنْ لم يَعتبر كانط الديانة الوضعية، بالأخصّ
المسيحية منها، فقط كضرورة للدولة أو كمؤسَّسة مُتسامَح معها عَطفا على
الضعفاء، بل اعترف بعمق باستقرار المسيحية، وبوظيفتها في تحسين حال الإنسان
وجعلِه سعيدا؛ أَنْ لم يعتبر الكتاب المقدّس، ليس فقط مجرّد كتاب مقبول أو
مرشد مُرضِي للجمهور في ديانة البلد المعمول به، بل كمؤسّسة إلهية حقّة،
وبالأخصّ كتاب المسيحية المُوَثَّق بكفاية؛ أَنّهُ قد قَبِلَ بامْتِنَان
هذا الكتاب كحافز من الخالق للعقل الإنساني الذي، إن تُرك لشأنه، فشل
وسيفشل إلى الأبد، ولا كتأويل شخصي، دعاه أخلاقيا؛ أَنْ لم يعتبر المسيح
ليس فقط كمثال متشخص، بل يصرخ، بأعلى صوته وأمام الجميع، أنه رسول الله
وابنه، ومخلص البشرية. بكلّ قلبي وددت لو أنّ الصلاة الموجّهة إلى الله لم
تبدُ له صنميّة (فيتيشية) وفِعل غير لائق بحيث أن مَن أقدم عليه ينبغي أن
يخجل من فعلته تلك؛ ولاحترازه من السقوط في التصوّف اعترف للمشاعر الدينية
الصادقة بصلاحية فريدة..(48)».
يبدو أن تحسّر بوروفسكي في محلّه من وجهة نظره كمؤمن، والكنيسة
الكاثوليكية التي حظرت أعماله لها مبرراتها اللاهوتية، لكن أظن أن هؤلاء
المؤمنين المعارضين لكانط، قد فسخوا من ذاكرتهم بعض النصوص الصريحة التي
تذهب ضدّ قناعاتهم وربما تفنّد إداناتهم. فكانط لم يتبنّ أبدا أي منهج
إلحادي، ولم يَدُر بخُلده يوما ما أن ينقضّ على الديانات عامة، والديانة
المسيحية خاصة لتدميرها، بل إن نصوصه تبيّن أنه تعاضد مع المؤمنين، ضد
عدوّهم الأوحد، أعني الماديين والملحدين والمفكرين الأحرار. يُصرّح بذلك هو
نفسه في نقد العقل المحض حين يكتب بالحرف، ومنذ البداية، أن « النّقد فقط
هو وحده القادر على اجتثاث جُذور المادّية (Materialism)، والقدريّة
(Fatalism) والإلحَاد (Atheism) وكُفرِ المُفكّرين الأحْرار(dem
freigeisterischen Unglauben)(49)». ولذلك فإن الكاثوليكيين الأوائل لم
يُدينوا عمل كانط، بل ثمّنوه واعتبروه إزرا لهم لتثبيت الإيمان، مثل
الفيلسوف ماترن ريوس (Reuss) أستاذ الفلسفة في جامعة فورتسبورغ. أما المفكر
الكاثوليكي الذي كنت قد أوردتُ قولته من أن كانط هو الأب الحقيقي للإلحاد،
فإنه قد اضطرّ إلى الاعتراف بأن هذا ليس راجعا إلى معتقده هو الشخصي، بل
جراء عمله النقدي: «لم يكن ملحدا، ومع ذلك فإن كتابه هو كالمعين الذي يَنهل
منه، منذ قرنين، كلّ الذين تبنّوا الإلحاد(50)».
وإذ تصفحنا بدقة كتاب نقد العقل المحض، فسنرى أن المشروع النقدي ككلّ، لا
يقف عند حدود الفحص عن ملكات العقل الإنساني وعن المجال النظري المُمكِن
فيه إنتاج مَعرفة عقلية يقينيّة بل له، حسب طرحه الصريح، استتباعات أخرى
خارجة، حقيقة، عن المجال النظري البحت المُزمع التحقيق فيه، وهي استتباعات
أخلاقية دفاعية في جوهرها. بل الأمر يذهب إلى أبعد من ذلك، لأن كانط نفسه
يُعمق هذه الفكرة مؤكدا عن أنّ إحدى غاياته الأساسية ـ وقد تكون الأهمّ ـ
في كتابه نقد العقل المحض، هي « إلغاء المعرفة لِفَسح المجال للإيمان(51)»
إلغاء المعرفة، إبْطالها، مَحوها، نسْخها، إزالتُها، إسقاطُها، كلّها
كَلِمات مُرادفة لِلعِبَارة الألمانية (aufheben). تلك هي مُهمّة نقد العقل
المحض، والغاية التي يصبو إليها: إلغاء المعرفة وفتحُ المَجال أمَام
الإيمان.
لم يجرؤ أي فيلسوف مادي فرنسي، من ديدرو إلى دولباخ، من لاميتري إلى
هيلفيسيوس، على إلقاء رسالة صريحة إلى قرّائه من هذا القبيل. ولقد بدا
واضحا، من خلال هذا التصريح، للفيلسوف الكاثوليكي رويسّ أن نقد العقل المحض
«يقود بضربة واحدة إلى دمار المادية والإلحاد والتأليهية، والقدرية
والريبية الشاملة وكل دوغماوية، لأنها تصوّرات تتحدث عن كيانات غير
محسوسة(52)». ويعود مرة أخرى ليؤكّد بأن مَن فهم كانط، سيتيقّن من أنه لم
يكن شكّاكا ولا ماديا؛ ليس هو بمثالي ولا حتى بمُلحد.
لكن الشيء الأكثر استفزازا هو أن كانط وقع في تناقضات عديدة، والعرض الذي
لخصناه أعلاه على كتاب "الدين في حدود بسيط العقل"، للكاثوليكي تشارلس،
حتى وإن كان مدعوما بنصوص كانط، فهو قابل للتنسيب لأن كانط نفسه يستعيد
عديد المرات ما كان قد دمّره، أو على الأقل يخفف من حدّة معارضته
وانتقاداته. ولا يخلو حتى نقد العقل المحض من التذبذب والتناقض
والاستدراكات التي لفتت انتباه المؤوّلين. فعلا، يقول أحد الدارسين
المحدثين بأن كانط: « بعد أن قَذف علم اللاهوت بكلّ الاعتراضات الممكنة،
فإن الجدليّة المتعالية اختُتمت باعتراف تأليهي مُقتَنِع … بحيث إن هناك
تداركا كانطيا لفكرة اللاهوت على المستوى العَمَلي. وليس فقط على هذا
المستوى. ففي تَعقيب مطوّل وهامّ على الجدلية المتعالية، كانط يدّعي أيضا
بوجود وظيفة معرفية للمُثل وخصوصا لتلك المثل اللاهوتية(53)».
ربما يكون هذا التناقض راجعا إلى عسر التموقع الدائم في الريبية، وإرادة
فتح ثغرة لاستعادة شيء من اليقين، لكنه جاء على حساب الانسجام الداخلي
للفكرة، ولذلك فإن غوتة (Goethe) يبدو محقا حينما لاحظ الطريقة
"الاستهزائية الخبيثة" التي ميّزت النقد الكانطي بحيث إنه يُبدي من جهة «
حَزمًا شديدا، في حصر قدرتنا المعرفيّة إلى أقصى حدّ، ومن جهة أخرى، يشرئبّ
بعيدا خارج الحدود التي سطّرها هو نف