ضياع الفرصــة
خرجت من منزلنا في ذلك اليوم مبكرا إلى
حد ما .. بالضبط في التاسعة إلا الثلث صباحا .. فأنا لا أطيق المكوث في البيت إلى
ما بعد التاسعة .. ربما لعادة اكتسبتها من عملى .. ولكنني اليوم في أجازة .. وإذا
تكاسلت عن الخروج لما بعد ذلك .. أظل متبرما ملولا طوال اليوم .. بل حانقا .. وإذا
خرجت فلم يكن خط سيري يتغير غالبا عن المعتاد .. كنت أبرح البيت شاقا طريقي على
الجسر .. وأعبر الكوبري الذي يفصل حينا الشعبي القديم عن قلب المدينة .. بعماراتها
وأبنيتها العالية الفخمة .. وطرقاتها الفسيحة النظيفة .. وأرصفتها المنسقة في
تناغم بديع .. أستمر في طريقي إلى قلب المدينة ، وأنعطف إلى اليمين لأشق الشارع
الرئيسي المكتظ بالسابلة والمارة والباعة الجائلين .. يقسم الشارع الرئيسي شريط من
النجيل الأخضر على جانبيه صفين من الأشجار متراصة في تناسق جميل الشكل .. أدلف إلى
داخل المقهى .. أتفحص الوجوه .. التي غالبا ما كانت لا تتغير كثيرا ثم اتخذ لي
مقعدا خارج المقهي وأتناول مشروبي .. وسرعان ما كنت أغادرها ، وأمضي في طريقي إلى
ميدان المحطة .. ودائما ما كان أول ما يخطف ناظري بريق السيف في يد ذلك العملاق
فوق صهوة جواده وهو يتطلع إلى البنايات والمنازل أمامه في إباء وشمم .. كأنه يحذر
أي إنسان يحاول أن يهدد أمنها وسلامتها .. إنه تمثال البطل أحمد عرابي .. دائما ما
يكون ميدان المحطة مكتظا بالمارة والمتسكعين والمسافرين .. ترى البعض مفترشا الأرض
بزيل جلبابه الفضفاض .. ومنهم من يقف متفحصا الشوارع والناس .. كأنه يودع آخر
دقائق له في البندر قبل أن يعود إلى قريته .. والكثير يسير هنا وهناك في تلاطم
وتصادم ، في عجلة من أمرهم .. وبعد أن أملأ ناظري بذلك التابلوه البشري الذي ينبض
بالحياة والحركة .. أعود من حيث أتيت .. وغالبا ما كنت أتوقف أمام كافيتيريا إيزيس
.. فألتهم قطعة من الجاتوه أو البسبوسة .. ثم أشيع الرواد بنظرة فاحصة بلا هدف أو
مبرر .. إلا لمجرد التسلية ، أو من قبيل التطفل البريئ .. وأكمل جولتي المعهودة .. إلى أن أستقر مرة
أخرى على المقهى لأمضي يومي وحيدا أو مع بعض الأصدقاء الذين يتصادف مرورهم أمامي
فأستضيفهم للجلوس معي ..
حدث في هذا اليوم حادث .. قلب حالي
رأسا على عقب .. وزلزل كياني وهزني بشدة .. فبعد أن جلست على المقهى صافي البال ،
هادئ النفس .. يبتسم داخلي في حبور .. ويملأني فيض من السعادة لما أحدثه النسيم
الجميل من ابتسامة رقيقة على ثغر الكون .. فاجأني محياها وجها لوجه .. كانت في
طريقها إلى معهدها .. لم أستطع النظر إليها .. ربما خجلا .. أو لم تواتني الشجاعة
الكافية .. لا أدري .. وأعتقد أنها لم تنظر إلىَّ كالعادة وأجزم أنها أطرقت في
الأرض .. كما كان يحدث دائما .. لم يكن يفصلني عنها أكثر من بضع خطوات .. أشحت
بناظري بعيدا كأنني أفر من خطب ما ، أو أتفادى خطرا داهما .. في الحقيقة لم أكن
أدري .. كل ما شعرت به هو تلك الدماء الحارة التي كانت تغلي في عروقي ، والهواء
البارد الذي كان يلفح جبهتي ووجنتي الملتهبتين .. غادرت المقهى ، وسرت في الاتجاه
المعاكس لا ألوي على شيء .. ولكن اختلطت على الأحاسيس .. وداهمتني التساؤلات .. وزاحمتني المتناقضات .. لماذا لم أبادرها
بالحديث أو بالتحية ولو بإيماءة بسيطة .. لماذا لم أنظر إليها .. ربما هي الأخرى
راودها نفس ما راودني .. وتملكها نفس ما تملكني .. لماذا لم أبدأ أنا ؟ .. تبا ً
لي .. أكنت أنتظر منها أن تبادرني بالكلام ؟ .. لقد كانت اليوم تسير وحدها خرقا
للعادة .. لم يكن معها زميلاتها .. كانت فرصة طالما تمنيتها .. فرصة ضاعت أدراج
الرياح .. فهل تعود !!
ــــــــــــــــــــــ
الإثنين فبراير 01, 2010 9:29 am من طرف هشام مزيان