التكامل والتعادل في الإسلاملما
كان الإنسان مكوّناً من جسم ترابي فانٍ، ومن سر إلهي خالد، وهو الروح،
"ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي"(الاسراء/85). ولما كان لكل منهما
مطالب وحاجات، لذلك جاءت تشريعات الإسلام وتوجيهاته على أساس الأمرين
وتنظيمهما معاً دون أن يطغى أحدهما على الآخر. وبكلمة: للإنسان جزءان،
فإهمال أحدهما إهمال له بالذات.
لقد حرم الإسلام الرهبانية، وإرهاق النفس بالقضاء على الطبيعة، كما حرم
الخبائث والإسراف في الشهوات، والترف على حساب الغير.. وأحل زينة الحياة
ومتعها من الأكل الطيب، واللبس الطيب، وما إليهما.. ومن يستعرض آيات القرآن
يجد انّ الدنيا كلها خلقت من أجل حياة راضية مرضية عند الجميع، وانّ
الإنكماش عنها إنكماش عن الدين، كما أنّ التكالب على إحتكارها وحرمان الغير
فساد في الأرض، وخطر على المجتمع كله.. وأفضل الأرزاق كلها عند الإسلام ما
كان بكدّ اليمين، وعرق الجبين.
قال انس: كنا مع رسول الله (ص) في سفر، ومنا الصائم، ومنا المفطر، فنزلنا
منزلاً في يوم حار، فسقط الصائمون، وقام المفطرون بخدمتهم. فقال رسول الله
(ص): ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله.
هذا هو الوسط والعدل الذي يرتكز عليه الإسلام، ويدعو إليه، لا عبادة تقعد
بك عن السعي والعمل، ولا شراسة في التكالب تصرفك عن الله وعبادته.
(لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)(البقرة/143). أن
معاني الكلمات المفردة واضحة، وكذا المعنى العام للمركب منها.. ولكن
الأشكال والغموض في تعيين ما نشهد به نحن المسلمين على غيرنا.. أي شيء هو؟.
انّ الرسول يشهد غداً على من خالف منا بأنّه لم يعمل بالإسلام وأحكامه،
فهل نشهد نحن يوم القيامة على غير المسلمين بأنّهم خالفوا الكتاب والسنة؟..
وقد تعددت أقوال المفسرين في ذلك، وتضاربت، ولم تركن نفسي إلى شيء منها.
والذي أميل إليه ان علماء المسلمين خاصة مكلفون ديناً بأنّ يبلغوا رسالة
محمد (ص) على وجهها للناس، سواء منهم المسلم الجاهل، وغير المسلم.. فمن قام
بهذا الواجب المقدس من العلماء يصبح شاهداً على من بلغه الرسالة ولم يعمل
بها، ومن أهمل من العلماء ولم يبلغ فإنّ محمّداً (ص) يشهد عليه غداً أمام
الله أنّه قد خان الرسالة بعد أن عرفها وحملها..
وللتوضيح نضرب هذا المثل: رجل عنده مال، وله ولد لم يبلغ الرشد بعد، وحين
شعر صاحب المال بدنو أجله أوصى جاراً له يثق بدينه أن ينفق من المال على
تربية ولده وتعليمه، فإن فعل، ونجح الولد كما أراد الوالد فذاك، وان اهتمّ
الوصي بشأن الولد، ولكنه تمرد ورفض التعليم كان الوصي شاهداً على الولد،
وان أهمل الوصي وقصر في الوصية كان الوالد شاهداً على الوصي، والوصي
مسؤولاً أمام الله والوالد.
وهكذا نحن العلماء مسؤولون أمام الله ورسوله عن بث الدعوة الإسلامية بين
أهل الأديان بالحكمة والموعظة الحسنة، وعن تعليم الأحكام لمن يجهلها من
المسلمين.. ومن قصّر في هذا الواجب شهد عليه غداً سيد الكونين شهادة صريحة
واضحة بين يدي العزيز الجبار.. والويل كل الويل لمن يشهد عليه رسول الله،
ويحكم عليه الله.. هذا إذا أهمل ولم يبشر، فكيف إذا أساء وكان هو السبب
الباعث على التشكيك في الدين وأهله.
(وما جعلنا القبلة التي كنت عليها الا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على
عقبيه)(البقرة/143). بعد أن أمر الله نبيه الأكرم بالتحول من بيت المقدس
إلى الكعبة أرتاب بعض أتباع الرسول (ص) وقالوا: مرة ههنا ومرة ههنا، واستغل
اليهود موقف هؤلاء الجهلة، وأخذوا يشككونهم بالنبي. وقد كان اليهود، وما
زالوا، ولن يزالوا أبداً ودائماً أرباب فتن وفساد، وأداة مكر وخداع
بطبيعتهم وفطرتهم، يخلقون المشاكل ويضعون العقبات في طريق كل مخلص، ويحولون
المجتمعات أن استطاعوا إلى جحيم.. وهكذا يلتقي أعداء الحق دائماً وفي كل
عصر مع ضعاف العقول، ويتخذون منهم أداة للكيد والتخريب والفوضى.. وقد وصف
الإمام علي هؤلاء أبلغ وصف بقوله: "همج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل
ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق".
وأخبر الله نبيه العظيم بأنّ الذين شككوا وارتابوا ليسوا بمؤمنين في
واقعهم، بل كان إيمانهم زائفاً لا أصيلاً، ولقد محصناهم بالبلاء، ليظهروا
على حقيقتهم لك ولغيرك. (وإن كانت – القبلة الجديدة – لكبيرة الا على الذين
هدى الله). وهم أهل الإيمان المستقر الأصيل، لا أهل الإيمان المستعار
المموه.
وتسأل: انّ الله سبحانه يعلم الشيء قبل وقوعه، فما هو الوجه في قوله لنعلم من يتبع الرسول؟.
الجواب: إنّ المراد ليظهر الطائع والعاصي، ويتميّز لدى الناس كلٌ بما هو
فيه وعليه.. وقال أكثر المفسرين ان علم الله بالنسبة إلى الحادث على قسمين:
علم به قبل إيجاده، وهو في عالم الغيب، وعلم به بعد إيجاده، وهو في عالم
الشهادة، والمراد بالعلم هنا الثاني دون الأوّل، أي انّ الله يريد أن يعلم
به حال وجوده، كما علم به حال عدمه.. وهذا تحذلق ولعب بالألفاظ.. فإن علم
الله واحد، وعالم الغيب بالنسبة إليه، تماماً كعالم الشهادة.
(وما كان الله ليضيع إيمانكم انّ الله بالناس لرؤوف رحيم)(البقرة/143). هذه
بشارة من الله لمن ثبت على إيمانه مع الرسول الأعظم (ص) في السراء
والضراء، ولم يرتب في أمر من أوامره، ولا نهي من نواهيه.. وقال أكثر
المفسرين، أو الكثير منهم: انّ السبب لنزول هذه الآية ان جماعة من الأصحاب
صلوا مع النبي (ص) إلى القبلة الأولى، ثمّ ماتوا قبل التحول إلى الثانية،
فسئل الرسول عن صحة صلاتهم؟ فقال الله: (وما كان الله ليضيع
إيمانكم)(البقرة