أما فكرتي غير المستحسنة لهذا المؤتمر فقد خطرت لي في ظهيرة أحد الأيام حين كنت
جالسا على درجات مركز الاجتماع يطرقني وابل من المعلومات مع شعور عام مني
بالجهل. كانت عيناي تحدقان النظر إلى بركة ماء موحل راكد صغيرة عند حافة الطريق،
وتملكتني فكرة أن يكون أحد الميكروبات المجهرية يصول في تلك الحفرة المائية،
وربما يعرف عن الدماغ أكثر مما نعرف نحن معشر علماء الأعصاب مجتمعين.
لقد انبثق استبصاري هذا، المثبط للمعنويات، من نشرة علمية حديثة لا تخلو من
الغرابة حول الكيفية التي تتحكم بها طفيليات معينة في دماغ عائلها (ثويّها)
host. فمعظمنا يعرف أن البكتيرات والحيوانات الأوالي protozoa وكذلك الڤيروسات
تمتلك أساليب متقنة مذهلة تعمل على تسخير أجسام الحيوانات لأغراضها. إنها تصادر
خلايانا وطاقتنا ومناهج حياتنا لصالح نموها وازدهارها. ولكن أكثر الأشياء التي
طوّرتها مثل هذه الطفيليات براعة وشيطانية، وكذلك الموضوع الذي استقطب تأملاتي
في ذلك اليوم، يتمثل من عدة نواح في مقدرتها على تغيير سلوك العائل لصالح
غاياتها الخاصة. وتتضمن بعض الأمثلة المدرسية في هذا الصدد طفيليات خارجية ectoparasites، وهي كائنات
(متعضيات) حية تستعمر سطح الجسم. فعلى سبيل المثال، تركب أنواع معينة من
الحَلَم mites من الجنس Antennophorus على ظهور النمال؛ ومن ثم تستطيع الحَلَمة،
عن طريق قيامها بتمسيد الأجزاء الفموية للنملة، أن تثير منعكسا reflex يدفع
النملة في النهاية إلى تقيؤ طعامها لصالح اغتذاء الحلمة به. وهناك أيضا نوع من
الديدان الدبوسية pinworms يتبع الجنس Syphacia يضع بيضه على جلد أحد القوارض،
فيفرز هذا البيض مادة تسبب حكة تضطر القارض إلى تنظيف (فَرْجَنَة) grooming مكان الحك بأسنانه، فيؤدي ذلك إلى ابتلاعه البيض. وما إن يتم لهذا البيض الدخول
إلى جوف القارض حتى يُنقَف (يُفقس) فيه في أمان.
وتتم هذه التغيرات السلوكية بشكل أساسي عبر إزعاج العائل على نحو يجعله يتصرف
بأسلوب يستفيد منه الطفيلي. ولكن بعض الطفيليات يعمد في الواقع إلى تغيير وظيفة
الجهاز العصبي نفسه. ففي بعض الأحيان يحقق الطفيلي هذا التغيير بشكل غير مباشر
عبر التصرف في هرمونات تؤثر في الجهاز العصبي. فهناك بَرَنْقيلات barnacles (قشريات
بحرية) من النوع Sacculina granifera (الموجود في أستراليا) تتثبت بذكور
السراطين (السلطعونات) الرملية وتفرز هرمونا مؤنِّثا feminizing يسبب سلوك
الأمومة لدى تلك الذكور؛ ومن ثم تهاجر هذه السراطين المُزَنْدَقَة zombified
2 إلى عرض البحر مع سائر الإناث الحاضنة لتعمل حُفَرا في الرمال تصلح بشكل نموذجي
لنشر اليرقات. ومن الطبيعي أن الذكور لا تطلق أي يرقات، ولكن ذكور هذه
البرنقيلات تفعل ذلك. وإذا ما أصاب أحد البرنقيلات سرطانا أنثى فإنه يثير
السلوك نفسه بعد أن يسبب الضمورَ لمبايض الأنثى عبر ممارسة يطلق عليها الإفساد
المِنْسلي الطفيلي parasitic castration.
ومع غرابة هذه الأمثلة، تظل الكائنات فيها خارج الدماغ على الأقل. ولكن هناك
قلة من الكائنات تنجح في الدخول إلى الدماغ. وهذه الطفيليات المجهرية تكون في
معظمها ڤيروسات، وليست مخلوقات كبيرة نسبيا مثل الحَلَم والديدان الدبوسية
والبرنقيلات. وما إن ينفذ أحد هذه الطفيليات المتناهية الصغر إلى داخل الدماغ
حتى ينجح في الوصول إلى ملاذ آمن من الغزو المناعي، ويبادر عمله في تحويل الآلة
العصبية لصالحه.
يعد ڤيروس الكَلَب rabies واحدا من أمثلة هذه الطفيليات. ومع أن أفعال هذا
الڤيروس معروفة منذ قرون، فما من أحد ـ على حد علمي ـ قام بتأطير تلك الأفعال
بالأسلوب البيولوجي العصبي على نحو ما أنا بصدده. فهناك أساليب كثيرة يمكن أن
يكون داء الكَلَب قد طورها للانتقال بين عوائله. لم يكن هذا الڤيروس مضطرا إلى
أن يذهب إلى مكان قريب من الدماغ، ولعله ابتكر حيلة شبيهة بتلك التي تستخدمها
مسببات زكام الأنف، وهي تخريش (تهييج) irritating نهايات أعصاب المجرى الأنفي
مؤديا إلى عطاس العائل ونفث نُسَخ replicates الڤيروس هنا وهناك، مثلا في اتجاه
الشخص الجالس أمام العائل في السينما. وبديلا لهذا ربما استطاع الڤيروس إثارة
رغبة شرهة لدى العائل في لعق شخص أو حيوان ما، مما يسمح بانتقال الڤيروس
المُراق في اللعاب. وبدلا من ذلك، فإن داء الكلب، وفقا لما يعرف جميعنا، يستطيع
جعل عائله عدواني السلوك، بحيث يتاح للڤيروس الانتقال (القفز) إلى عائل آخر عبر
اللعاب الذي يتسرب إلى الجروح الناجمة عن هذا السلوك.
دعونا فقط نفكر فيما يلي: يدرس عدد كبير من بيولوجيي الأعصاب الأساس العصبي
للعدوان aggression، من حيث مساراته الدماغية ونواقله العصبية المعنية
والتآثرات بين الجينات والبيئة وما تحدثه الهرمونات من تحوير وغير ذلك. وعلى
الرغم مما بذره موضوع العدوان من مؤتمرات وأطروحات للدكتوراه ومشاحنات أكاديمية
تدعو للأسف ونزاعات دنيئة على المناصب، فمن الثابت أن ڤيروس داء الكَلَب قد
تعرَّف بالضبط أي العصبونات (الخلايا العصبية) ينبغي عليه أن يصيب كيما يجعل
الضحية مسعورة. وعلى حد ما أعلم حتى الآن، لم يدرس أي من علماء الأعصاب داء
الكلب بشكل نوعي يتوخى فهم البيولوجيا العصبية للعدوان.
وعلى الرغم من وطأة هذه التأثيرات الڤيروسية، هناك متسع لتعزيزها، وذلك بفضل ما
يتصف به هذا الطفيلي من عدم النوعية nonspecificity. فلو كنت حيوانا مسعورا،
فلربما عضضت أحد المخلوقات القليلة التي لا يتكاثر فيها ڤيروس الكَلَب بشكل جيد،
مثل الأرنب. وهكذا فإنه على الرغم من روعة التأثيرات السلوكية لإعداء (خمج)
infecting الدماغ حين يكون وقع الطفيلي أوسع مما ينبغي، فإن هذا الطفيلي يمكن
أن ينتهي إلى التلاشي عند عائل يمثل طريقا مسدودا.
لقد أدركتُ أن أحد الميكروبات المجهرية، الذي يصول في تلك الحفرة المائية،
ربما
يعرف عن الدماغ أكثر مما نعرف نحن معشر علماء الأعصاب مجتمعين.
ويجرّنا ما تقدم إلى مثال نوعي خلاب عن التحكم في الدماغ وإلى المداخلة العلمية
التي ذكرتها سابقا والتي قدمها
وزملاؤه [في جامعة أكسفورد]. فقد
درس بيردوي وشركاؤه طفيليا يدعى توكسوپلازما گوندياي Toxoplasma gondii؛ ففي
الصورة المثالية للتوكسوپلازما تتألف حياة هذا الطفيلي من تعاقب عائلين يضمان
قوارض وسنانير (قططا). فالقارض يبتلع هذا الحيوان الأولي protozoan الذي يشكِّل
في داخل القارض أكياسا cysts في جميع أرجاء جسمه ولا سيما في دماغه. ومن ثم
يأكل أحد السنانير ذلك القارض فيتكاثر في السنور الكائن التوكسوپلازمي. وبعدئذ
يطرح السنور عبر بِرازه ذلك الطفيلي الذي تتناوله القوارض في إحدى دورات الحياة
عبر طعامها. وهنا يتوقف السيناريو بأكمله على النوعية specificity؛ فالسنانير
هي النوع الوحيد الذي تستطيع التوكسوپلازما أن تتكاثر فيه جنسيا ثم تُطْرح.
وهكذا، لن «ترغب» التوكسوپلازما في أن يصيد قارضَها الناقل صقر، أو أن تأكل
برازَ سنّورها خنفساء الروث. تذكروا أن هذا الطفيلي يستطيع إعداء جميع الأنواع
الحيوانية الأخرى، ولكن عليه أن ينتهي إلى داخل سنور إذا شاء الانتقال إلى عائل
جديد.
تفزع النساء الحوامل الواعيات من السنانير. بيد أن
ردَّ
فعل القوارض
المصابة بالتوكسوپلازما يكون نقيض ذلك.
تشكل قدرة هذا الطفيلي على إعداء أنواع حيوانية أخرى مبررا لقيام جميع كتب «إرشادات
الحمل» بإيصاء النسوة الحوامل بأن يحرِّمن وجود السنانير وجرائها في بيوتهن وأن
يحذرن العمل في الحدائق في حال وجود سنانير تتجول في المنطقة. فإذا دخلت
التوكسوپلازما من براز قط جوفَ امرأة حامل فإنها تتسلل إلى الجنين، حيث يحتمل
أن تسبب تلفا عصبيا. ولهذا تفزع النساء الحوامل الواعيات من السنانير. بيد أن
رد فعل القوارض المصابة بالتوكسوپلازما يكون نقيض ذلك، إذ تتوصل مكيدة الطفيلي
الخارقة إلى جعل القوارض تفقد فزعها من القطط.
إن جميع القوارض السوية تتجنب السنانير، وهو سلوك يطلق عليه علماء سلوك الحيوان
مصطلح نمط الفعل الراسخ fixed-action pattern، حيث لا ينمي القارض سلوك البغض
هذا نتيجة المحاولة والخطأ trial and error (إذ من غير المحتمل أن تتعدد فرص
التعلم من الأخطاء في بيئة السنانير). وعوضا عن ذلك، فإن الرهاب السنوري feline phobia يكون وطيد التشبيك hardwired في سلوك القوارض. ويتم ذلك عبر حاسة الشم
من خلال الفيرومونات، وهي إيعازات (إشارات) كيميائية ذات رائحة تطلقها
الحيوانات. فالقوارض تفزع من رائحة السنور (القط) بشكل غريزي. وينطبق ذلك حتى
على القوارض التي لم يسبق لها أن رأت سنورا في حياتها، مثل تلك التي انحدرت من
مئات الأجيال من حيوانات المختبر. ولكن تشذ عن ذلك القوارض المعداة
بالتوكسوپلازما. فهذه القوارض الأخيرة، وفقا لما أظهره بيردوي وفريقه، تفقد
بشكل انتقائي (انتخابي) بغضها للفيرومونات السنورية وخوفها منها.
والآن، هذه ليست حالة عمومية لطفيلي يعيث في رأس العائل الوسيط intermediate
host ويجعله مشتت التركيز وغير حصين. فجميع الأمور الأخرى تبدو سليمة بشكل جيد
لدى هذه القوارض، كما لا تتغير المنزلة الاجتماعية لهذا الحيوان في تراتبية hierarchy نفوذه. ثم إنه يبقى راغبا في التزاوج؛ ومن ثم، بالضرورة، في
فيرومونات الجنس الآخر. ولاتزال القوارض المُعداة قادرة على تمييز الروائح
الأخرى، ولكنها فقط لا تنفر من الفيرومونات السنورية، وهذا أمر يدعو للدهشة.
إنه أشبه ما يكون بشخص يصاب بطفيلي دماغي لا يؤثر البتة في أفكار المصاب أو
انفعالاته أو درجات نجاحه في الاختبارات المدرسية أو أفضلياته التلفازية؛ ولكنه
(أي الطفيلي) كي يستكمل دورة حياته، يولِّد لدى ذلك الشخص دافعا لا يقاوَم
للذهاب إلى حديقة الحيوان وتسلق السياج ومحاولة تقبيل أقذر دب قطبي فيها قبلة
حميمة. وبحسب ما يذكر فريق بيردوي في عنوان نشْرته العلمية: إنه إغواء مميت
بتحريض من طفيلي.
من الواضح أننا بحاجة إلى المزيد من الأبحاث في هذا الصدد. وأقول هذا ليس فقط
لأنه أمر إلزامي عند هذه النقطة في أي مقالة تخص العلوم، بل لأن هذا المكتَشف،
في صميم طبيعته، مؤثر إلى حد ينبغي معه أن يستجلي أحد ما كيفية أدائه. وكذلك ـ
إذا سُمح لي بلحظة من أجواء (3) ـ لأنه يقدم دليلا قويا إضافيا
على أن التطور مذهل في ما ينتهجه من أساليب مخالفة للحدس. فالعديد منا يؤمن
بالفكرة المستحكمة التي ترى أن التطور اتجاهي directional وتقدمي progressive:
بمعنى أن اللافقاريات أكثر بدائية من الفقاريات، وأن الثدييات هي الأكثر تطورا
بين الفقاريات، وأن الرئيسات هي الأكثر كمالا من الناحية الجينية بين الثدييات،
وهلم جرا. وأشير هنا إلى أن بعضا من خيرة طلبتي ينزلق إلى تلك الفكرة غير آبه
بما أردِّدُه على مسامعهم في محاضراتي مرارا وتكرارا. إنكم إذا أخذتم بتلك
الفكرة طويلا، لن تكونوا مخطئين فحسب، بل ولن
تكونوا بعيدين جدا عن فلسفة طورها البعض على خلفية اتجاهية، فاعتبرت الأوروبيين
الشماليين الذين يحبُون شرائح اللحم ويمشون مِشية الإوزة العسكرية (الألمانية)
هم الأكثر تطورا بين البشر.
ولهذا، تذكروا أنه توجد مخلوقات تستطيع التحكم في الأدمغة، مخلوقات مجهرية القدِّ
أو حتى عيانية الحجم وتملك من القوة ما يبز عُتاة الدكتاتوريين، بل حتى علماء
الأعصاب. لقد نقلني تأملي في بركة الماء الصغيرة التي على حافة الطريق إلى
استنتاج نقيض لما وصل إليه نرسيسوس(4) Narcissus في تأمله سطح الماء (من هوى
لذاته). إننا بحاجة إلى النظر إلى تاريخنا السليفي بصورة أكثر تواضعا، نشعر
معها أننا لسنا بالتأكيد أكثر الأنواع الحية من حولنا تطورا، ولا أمنعها كيانا؛
بل ولا حتى أذكاها.