«لم يغب عن بالنا أن التزاوج النوعي الذي
افترضناه، يشير مباشرة إلى آلية نسخ
ممكنة للمادة الجينية (الوراثية)».
ـ ،
نيتشر، 25/4/1953
«إن لهذه البنية ميزات جديدة ذات أهمية بيولوجية
بالغة»، كان هذا واحدا من أكثر التصريحات شهرة، وقد ورد في تقرير
و <.H .F C.كريك> المنشور في 25/4/1953 بمجلة
«نيتشر»، حيث اقترحا نموذج الحلزون المزدوج لبنية الدنا
DNA، وهذا الاقتراح يمثل اختراقا علميا أطلق العنان لمعارفنا في نطاقي
البيولوجيا الجزيئية والوراثيات.
واحتفالا بالذكرى السنوية الخمسين لهذا الاكتشاف،
أجرى رئيس تحرير مجلة «ساينتفيك أمريكان» حوارا مع (واتسون) في مكتبه الكائن بـ
«مختبر كولد سبرينگ هاربر»، في «لونگ أيلاند» الذي يديره منذ 25 عاما. لقد تفكر
واتسون مليا في الأحداث التي مهدت لاكتشاف الحلزون المزدوج، والوضع الحالي
للبيولوجيا الجزيئية، والجدل الدائر حول علم الوراثة. ولأسباب صحية صرفة، لم
يكن بالإمكان الحصول على تعليق كريك على الحوار، وفي ما يلي نورد موجزا لهذا
الحوار.
ساينتفيك أمريكان (S.A):
لم يعد الدنا مجرد كينونة علمية. لقد صار ظاهرة ثقافية ضخمة، كتعبير مجازي عن
طبيعتنا. إنه حاضر في محادثاتنا اليومية، وفي فنوننا. فهل كنت تتوقع أن يصبح
الدنا معروفا بهذا القدر عندما كنت تعمل على الحلزون المزدوج؟
جيمس واتسون (J.W):
لا، لم نتوقع ذلك قط، فلم يسبق لأحد أن سَلْسَل الدنا، أو ضخّمه.
لقد نشر عالم المناعة الأسترالي الشهير
مقالة في مجلة طبية، ظهرت إما عام 1961 وإما 1962، ذكر فيها أنه لن يكون للدنا
وللبيولوجيا الجزيئية أي تأثير في الطب؛ لأن ذلك ممكن فقط عندما نستطيع قراءة
الدنا. وهذا هو السبب في كون «مشروع الجينوم البشري» مهما جدا.
لقد كان جل اهتمامنا في عام 1953 أن نكتشف كيف
يزوِّد الدنا بالمعلومات، وما هي الآلة التي تصنع الپروتينات. هذا فعلا كل ما
في الأمر، إننا لم نفكر في المعالجة الجينية مثلا. لقد تطلب الأمر ما يقرب من
15 عاما قبل أن يشرع الناس بالتفكير في ذلك. في عام 1968 تقريبا، ما إن تم
اكتشاف إنزيمات التقييد restriction
enzymes 1 ، حتى أعقبت ذلك مباشرة سَلْسَلة
الدنا(2) DNA sequencing.
(S.A): لقد قلت إنك
بدأت أبحاثك على الدنا بسبب اهتمامك بالتطور وبالمعلومات الوراثية.
(J.W):
قد لا يكون الفيزيائي أول من ذكر أنه
لا بد من وجود كود ما يسمح للجزيئات داخل الخلية أن تحمل المعلومات، ولكنه كان
أول من قرأت له ذلك. وفي الوقت الذي نُشر فيه كتاب شرودينگر «ما هي الحياة؟»
(وكان ذلك عام 1944) فإن قلة من الناس، مثل البيولوجي،
كانت تقيم تلك الصلة بين الجينات والبروتينات. ففي تلك الأيام، لم يكن قد
استُنْبطت تقنية سَلْسَلة الحموض الأمينية للپروتينات. فكل ما كان عليه الأمر،
هو أننا كنا نعرف أن هنالك تسلسلا ما. وحصولنا على بنية الدنا وعلى سَلْسَلة
شانگر(3) لأول سِلسلة من عديد الپپتيد [پروتين] هو وحده الذي جعلنا نشعر بشيء
من الارتياح بأننا على الطريق الصحيح.
(S.A): وهكذا هل يمكن
القول بأن الدافع وراء أبحاثك كان افتتانا بتلك الفكرة أكثر منه طموحا؟
(J.W): لقد ولدت
فضوليا. فمثلا إنني أحبذ أكثر قراءة تاريخ الاقتصاد على قراءة التاريخ بحد
ذاته، ذلك أنني أحب دائما معرفة الأسباب. وهكذا، إذا أردت إيجاد تفسير للحياة،
فإن بحثي سيتناول حتما أساسها الجزيئي، ولم أفكر قط بأنه يوجد أساس روحي
للحياة. وقد كنت محظوظا جدا بأن تربيتي كانت على يد والد لم تكن لديه اعتقادات
غيبية، ولم يكن تفكيري مقيدا بمثل هذه الاعتقادات، وكانت والدتي كاثوليكية
اسميا فقط.
(S.A): إذا عدنا إلى
التسابق للوصول إلى الحلزون المزدوج، فلقد كان من الواضح أن شخصيات الأفراد
أثرت تأثيرا كبيرا في تحديد من اكتشفه أولاً وكيفية ذلك. ومع ذلك فإن الاكتشاف
كان يبدو أمرا محتوما في تلك المرحلة. فقد كان عدد كبير منكم قريبا جدا من هذا
الاكتشاف: أنت شخصيا و<كريك> و<لينوس پولينك> [من معهد كاليفورنيا للتقانة)
و<موريس ويلكنز> و<روزاليند فرانكلين> [من كلية كينگ]. فإذا لم تتوصل أنت وكريك
إلى اكتشافكما في ذلك العام، متى كان يمكنكما التوصل إليه؟
(J.W): في غضون عام
واحد على ما أعتقد.
(S.A): لقد دار
باستمرار جدل حول قيام ويلكنز بإطلاعك على صور البلورات التي حضّرتها فرانكلين
من دون إذن منها، الأمر الذي أعطاك أنت وكريك مفتاحا مهما لمعرفة بنية
الدنا(4). وإذا استعدنا الأحداث الماضية، فهل كان من الأنسب أن تمنح لجنة نوبل
الجائزة لها مع كليكما (أنت وكريك)، بدلا من ويلكنز؟
(J.W): لا أعتقد ذلك.
لقد أعطانا ويلكنز صور البلورات للشكل A، وأعطتنا
هي صور الشكل B. وهكذا يمكنك القول بأنه في مجتمع
مثالي فاضل، كان يمكن أن يحصلا على جائزة نوبل في الكيمياء، وكان يمكن ان أحصل
أنا وكريك على الجائزة في البيولوجيا. لو حدث ذلك لكانت طريقة لطيفة لتكريم
أربعتنا. بيد أن أحدا لم يفكر على هذا النحو.
أعتقد أنه يوجد
في داخلي شيء ما من ذلك الضعف الشديد الوضوح الموجود لدى بطل التنس .
إنني لا أستطيع أن أقعد ساكتا في الوقت الذي يكون فيه حديث الناس مجرد هراء.
لقد ذاع صيتنا كثيرا، لأن الدنا صار مشهورا جدا. فلو
تعاونت فرانكلين مع كريك منذ عام1951 وشاركته بياناتها فلربما توصلت إلى بنية
الدنا وصارت ذائعة الصيت.
(S.A): خلال قرن واحد،
انتقلنا من إعادة اكتشاف قانوني (مَندل) وتعرّف الصبغيات (الكروموسومات) كعوامل
للوراثة، إلى تعرفٍ كامل تقريبا للجينوم البشري. ويقع اكتشاف الحلزون المزدوج
على نحو دقيق في منتصف تلك الفترة. فكم بقي علينا أن نفعله فيما يتعلق بالدنا؟
هل لا تزال هناك اكتشافات كبيرة تنتظرنا، أم أن الأمر يتعلق بتفاصيل لردم بعض
الفجوات؟
(J.W): أعتقد أن
المشكلة تتعلق بالكروماتين [المعقد الدينامي للدنا ولپروتينات الهستون، الذي
يشكل الصبغيات]. فما الذي يحدد ما إذا كانت قطعة مفروضة من الدنا على طول صبغي
تقوم بوظيفتها ما دامت مغطاة بالهستونات؟ إننا نرث شيئا ما يتجاوز تسلسل الدنا.
وهنا تكمن حاليا الإثارة الحقيقية في الوراثيات.
يقول الناس:
«حسنًا، سيكون هؤلاء الأطفال أطفالا مصممين،» وأنا أقول:
«حسنا،
ما العيب في الملابس المصممة؟»
ويبدو أن الأبحاث تتقدم بسرعة كبيرة نسبيا. وأظن أنه
خلال السنوات العشر القادمة سيكون معظم هذا الحقل قد حُلت ألغازه. ففي هذا
الحقل يعمل الكثير من الباحثين الجيدين جدا. والوسائل متوافرة أيضا. وسيتم في
مرحلة ما تعرّف المبادئ الأساسية للوراثيات بلغة الوظيفة الجينية. وسنكون عندئذ
قادرين على تطبيق هذه المعرفة أكثر فأكثر على معضلات أساسية، منها مثلاً كيف
يعمل الدماغ.
(S.A): لو كان بإمكانك
أن تبدأ الآن كباحث، فما الذي ستفعله؟
(J.W): كنت سأعمل على
أمر ذي صلة بالعلاقة بين الجينات والسلوك. بإمكانك أن تعثر على جينات خاصة
بالسلوك، بيد أن هذا لا ينبئك بكيفية عمل الدماغ. كان أول اهتمام علمي لي هو
كيف تهاجر الطيور. فما لم تعرف كيف يعمل دماغ الطائر، لن تعرف كيف تعلِّم
الجينات الطائر أين يهاجر. ولأن أم الطائر لا تعلم صغيرها - كما هو معروف ـ أين
عليه أن يهاجر، فإن هذا السلوك يجب أن يكون موروثا.
هنالك ألغاز أخرى كثيرة، تتعلق بسلوكيات أساسية، يجب
حلها. بعض الناس يجدون من الغرابة بمكان كيف يمكن لرجال أن يميلوا إلى رجال
آخرين، ولكنني أجد الغرابة نفسها في كيف يميل الرجال إلى النساء.
هذه أمور بالغة الصعوبة. ويصر كريك على أن البحث في
الدماغ لا يمتلك ما يكافئ جزيء الدنا. فليس له شيء مركزي ينبثق منه أي شيء آخر.
(S.A): لقد اشتهرت
بصراحتك، وانُتقدت بسبب ذلك، فهل تشعر الآن بأي أسف حيال أشياء قلتها؟
(J.W): أحيانا، أعتقد
أنه يوجد في داخلي شيء ما من ذلك الضعف الشديد الوضوح الموجود لدى بطل التنس
، إنني لا أستطيع أن أمكث في اجتماعٍ حديثُ الناس فيه مجرد هراء من
دون أن أصارحهم بأنهم يتحدثون عن أمور تافهة.
(S.A): فيما يتعلق
بالسياسة، يتجادل الناس هذه الأيام بشأن أمور عديدة ذات صلة بالجينات: الأغذية
المهندسة جينيا، والاستنساخ، والبصمة الوراثية للدنا، وهلم جرا. فما مدى الثقة
التي توليها للتغطية السياسية لهذه الموضوعات؟
(J.W): أعتقد أن الناس
مشاكسون كثيرا بإصرارهم على عدم تدخل الدولة في هذه الموضوعات. نعم، قد يكون من
الأفضل أن أبقى خارج هذه النزاعات، بالطريقة ذاتها التي على الحكومة أن تبقى
فيها خارج موضوع الإجهاض. يجب أن تُتخذ قرارات الإنجاب من قبل النسوة وليس من
قبل الدولة.
ما أعنيه أن الاستنساخ هو الآن موضوع الساعة. بيد أن
المستنسخ البشري الأول لن يكون مماثلا لأول قنبلة نووية يجري تفجيرها. إن الفرد
المستنسخ لن يؤذي أحدا.
أعرف عالما فرنسيا شهيرا لم يكن لديه أولاد قط بسبب
وجود حالات جنون في عائلته. فلم يرغب في المجازفة بزيادة هذه الحالات. هذا ما
أعنيه. فقد يعني الاستنساخ بأنك تعلم مسبقا بأنه لن يكون هناك مزيد من حالات
الجنون. وأعتقد أن الاهتمام الأسمى يجب أن يوجه إلى حقوق العائلة مقابل حقوق
الدولة.
يقول الناس: «حسنا، سيكون هؤلاء الأطفال أطفالا
مصمَّمين،» وأنا أقول: «حسنا، وما العيب في الملابس المصممة؟»، لو كان بإمكانك
أن تقول: «إن طفلي لن يصاب بالربو، ألن يكون ذلك أمرا جيدا؟ وما العيب في
الاستنساخ العلاجي؟ من سيطاله الأذى من جراء ذلك؟»
إذا كنت تعتقد أن كل نبات من النباتات كان مخلوقا
لغاية محددة، فبإمكانك القول عندئذ إنه يجب عدم تغييره. بيد أن أمريكا لا
تتشابه اليوم بشيء مع ما كانت عليه عندما توافد المهاجرون إليها. لقد غيرنا كل
شيء. لم نحاول قط أن نحترم الماضي، حاولنا أن نحسنه. وأعتقد أن أي رغبة في
إيقاف الناس عن تحسين الأشياء ستكون ضد الروح البشرية.