قد
يبدو هذا السؤال متجاوزا بعد الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات
التونسية، والتي تؤكد حتى الآن الفوز الكبير لحزب النهضة التونسي، متبوعا
بحزب المؤتمر من أجل الجمهورية. فالتونسيون صوتوا إذن بكثافة لهذين
الحزبين. الأول إسلامي معتدل. والثاني علماني معتدل. ومن خلال القراءة
الأولية لنتائج أول انتخابات تونسية نزيهة وشفافة وديمقراطية، يتضح أن
التونسيون صوتوا لأكثر الأحزاب التي عارضت نظام الديكتاتور السابق بنعلي.
وأيضا لأكثر الأحزاب اعتدالا داخل الساحة التونسية التي يتجاذبها اصطفاف
قوي بين علمانيين غلاة وإسلاميين متطرفين.
فحزب النهضة الإسلامي، بزعامة مرشده راشد الغنوشي، كان من بين أشد
الأحزاب معارضة لنظام بنعلي. ودفع فاتورة نضاله سنوات من الاعتقال والتعذيب
التي ذاقها الآلاف من مناضلي النهضة داخل سجن الديكتاتور الهارب، بينما
اضطر الآلاف منهم إلى العيش في المنافي وعلى رأسهم مرشد الحزب، راشد
الغنوشي الذي قضى نحو 20 سنة في المنفى. وطيلة سنوات معارضته، لم يهادن
الحزب مع النظام فيفاوضه أو يقدم تنازلات له، وفي نفس الوقت حافظ على
اعتداله ونضاله السلمي ولم ينشق عنه أي جناح مسلح كما حدث مع "جبهة الإنقاذ
الجزائرية"، ويورط البلاد في حرب بلا هوادة. لذلك استحق الحزب بعد قيام
الثورة التونسية أصوات ملايين التونسيين اللذين يتطلعون إلى بناء دولة تصون
كرامة الإنسان التونسي وتقيم العدالة الاجتماعية الموعودة، وفي نفس الوقت
تحافظ على الهوية الإسلامية لتونس. فالتصويت المكثف للتونسيين على حزب
طالما صنفه نظام بن علي بأنه إرهابي ومتطرف، وحاول استئصال جذوره من تونس
ومعه كل التيارات الإسلامية، يفند اليوم كل تلك الأطروحة الأمنية التي أسس
لها نظام بنعلي، وسرعان ما تحولت إلى "موضة" بالنسبة للأنظمة القمعية في
المنطقة، وهكذا تم تجريب نفس الوصفة في الجزائر، وأدت إلى حرب أهلية طاحنة
ذهب ضحيتها 200 ألف قتيل و20 ألف مفقود. وتم تجريبها في مصر، والنتيجة هي
أن استطلاعات الرأي اليوم في مصر تمنح الإخوان أكثر الفرص للفوز في
الانتخابات المصرية المقبلة. وما زال هناك من يحاول، بعناد، تجريبها في
المغرب، غير آبه بما آلت إليه الأوضاع في تونس ومصر وقبل ذلك في الجزائر.
أما حزب، المؤتمر من اجل الجمهورية، بزعامة المنصف المرزوقي، الذي يتوقع
أن يحتل الرتبة الثانية من حيث المقاعد المحصل عليها في الانتخابات
التونسية، فقد جازى التونسيون زعيمه على شجاعته عندما وقف ندا للند أمام
بنعلي كمرشح حقيقي لرآسة تونس، وأدى ثمن موقفه سنوات من المنفى، وحملات من
التشهير لتشويه صورته عند التونسيين. وحتى عندما عاد إلى تونس بعد سقوط
نظام بنعلي، ظل الرجل وفيا لمبادئه، ولم يدخل إلى سوق المزايدات السياسية
التي انفجرت بين جناحي التطرف من إسلاميين وعلمانيين، واختار العمل بهدوء
مع الشعب في القرى والمدن المهمشة التي فجرت ثورة الياسمين.
وبالمقابل نجد أن التونسيين، عاقبوا، بوعي وذكاء كل الأحزاب وأشباه
الأحزاب التي ولدت بعد الثورة وأغلبها أسسها أشخاص كانوا حتى الأمس القريب
أعضاء في حزب بنعلي. لكن الدرس الكبير كان ذالك الذي تلقته الأحزاب
والشخصيات، التي اختارت طيلة عهد بن علي أن تكون مهادنة وأن تمسك العصا من
الوسط. وعلى رأس هذه الأحزاب والشخصيات، الحزب الديمقراطي التقدمي، بزعامة
أحمد نجيب الشابي، فهذا الحزب مثل زعيمه، ظل مهادنا مع نظام بن علي يضع
رجلا في الحكم ورجلا في المعارضة، وظل هكذا حتى آخر ساعة من سقوط بن علي،
صمت على تجاوزات العهد السابق وزكاها، ولم ينس له التونسيون تسرعه في
المشاركة في حكومة محمد الغنوشي التي خلفها بنعلي بعد هروبه، وعندما حان
موعد الحساب رأينا كيف عاقبه التونسيون عندما رفضوا منح أصواتهم لحزب متردد
مهادن وغير واضح.
لقد أبان الشعب التونسي مرة أخرى على ذكائه الفائق، ووعيه السياسي
الكبير، عندما أتيحت الفرصة لأول مرة في تاريخه لتقرير مصيره بنفسه بدون
وصاية ولا خوف. فكان وفيا لمن أوفوا له العهد نضالا ومواقف وتضحيات