العرس الديمقراطي التونسي
رأي القدس
2011-10-23
توجه
ملايين التونسيين يوم امس الى صناديق الاقتراع لانتخاب مجلس وطني تأسيسي
يكون من أبرز مهامه وضع دستور جديد وانتخاب رئيس للجمهورية لفترة انتقالية
لمدة عام وتشكيل حكومة تتولى ادارة شؤون البلاد، ريثما يتم انتخاب برلمان
جديد لمدة أربع سنوات.
مراكز الاقتراع شهدت اقبالاً جماهيرياً غير مسبوق
على طول البلاد وعرضها، واصطف الناس في طوابير امتدت لآلاف الامتار
للإدلاء بأصواتهم في اول انتخابات حرة ونزيهة في تاريخ البلاد، وفاقت نسبة
المشاركة اكثر من ستين في المئة حتى بعد ظهر امس.
اللافت ان تجاوزات
محدودة جداً قد وقعت، ولم تحدث اي صدامات او اعمال تزوير، وكانت البسمة
ترتسم على وجوه جموع المشاركين الذين وصفوا هذا اليوم، يوم الانتخابات،
بانه عيد ديمقراطي انتظروه طويلاً طوال العقود الماضية.
السيد الباجي
قائد السيسي رئيس وزراء تونس المؤقت الذي قاد دفة الحكم في البلاد طوال
الشهور الأربعة الماضية، ويعتبر من المرشحين لرئاسة الجمهورية في فترتها
المؤقتة (لمدة عام فقط) وصف المرحلة المقبلة بانها الأصعب، لأن هناك تطلعات
كبرى في صفوف الشعب التونسي، كما ان هناك كتلاً متنافسة تحمل آراء سياسية
وعقائدية مختلفة.
ما لم يقله رئيس الوزراء التونسي الذي ابلغ هذه
الصحيفة انه جمع متعلقاته وأوراقه استعداداً للرحيل بمجرد تولي المجلس
التأسيسي مهامه، ان هناك مخاوف، وان كانت محدودة، من حدوث خلاف على توزيع
المواقع الرئيسية في المرحلة المقبلة، وخاصة رئاسة الجمهورية، رئاسة مجلس
الوزراء ورئاسة المجلس التأسيسي.
تعرض الشيخ راشد الغنوشي زعيم حزب
النهضة الاسلامي لبعض التهجمات المعادية اثناء ادلائه بصوته في احد مراكز
الاقتراع يعكس جانباً آخر من هذه المخاوف، اي احتمالات الصراع بين
الاسلاميين والعلمانيين، وهو صراع تتردد ارهاصاته على ألسنة الكثيرين في
تونس هذه الأيام.
تونس التي انطلقت منها الشرارة الاولى والأقوى لثورات
الربيع العربي، تشهد اول ثمار الديمقراطية لهذا الربيع، من خلال
الانتخابات، وتكاتف جميع ابنائها لانجاحها، والتأسيس لنظام حكم تعددي يقوم
على الشفافية والمؤسسات الديمقراطية المنتخبة وحكم القانون وترسيخ قيم
العدالة والحريات.
الانطباع السائد في مختلف انحاء تونس يفيد بان الشعب
التونسي الذي قدم التضحيات الغالية للاطاحة بالنظام الديكتاتوري سيكون
الحارس القوي، والضمانة الحقيقية لاستمرار مسيرته الديمقراطية التي بدأت
اولى خطواتها في الاتجاه الصحيح والمأمول بانتخابات الأمس.
التنافس بين
الاسلاميين والعلمانيين ظل في اطار التنافس الحضاري الديمقراطي، وكل
المؤشرات تؤكد حتى الآن انه سيكون كذلك، ومن اجل مصلحة تونس ورخاء شعبها.
الاسلاميون
الذين تؤكد معظم النتائج الاولية انهم سيكونون الرابح الأكبر في هذه
الانتخابات لا يستطيعون حكم البلاد بمفردهم، والعلمانيون لا يمكن، بل من
المستحيل ان يلغوا الاسلاميين من الخريطة السياسية الجديدة وان اختلفوا
معهم. فالتعايش والتوافق بين جميع الكتل والتيارات تحت سقف المجلس
التأسيسي، وبعد ذلك البرلمان هو الخيار الوحيد المطروح اذا كان هؤلاء
يريدون مستقبلاً واعداً بالأمل والرخاء للشعب التونسي.
المجلس التأسيسي
الذي سينبثق عن هذه الانتخابات الحرة النزيهة سيعيد السلطة للشعب التونسي
الذي بات الحاكم الفعلي للبلاد، فهذا الشعب هو اساس كل السلطات الثلاث:
التشريعية والتنفيذية والقضائية، ومن المؤكد ان هذا الشعب الذي يتحلى بأرقى
انواع الوعي سيكون متيقظاً للتصدي لأي اعوجاج او انحراف هنا او هناك.
لا
نعرف ما هي مشاعر الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي وهو يراقب
هذا العرس الديمقراطي التونسي من منفاه الاضطراري في المملكة العربية
السعودية، ولكن ما نعرفه انه سيشعر بالندم لانه لم يقدم لهذا الشعب، اثناء
حكمه له، الذي امتد حوالي عشرين عاماً، ما يستحقه من حريات ومشاركة في
الحكم عبر المؤسسات الديمقراطية.
مبروك للشعب التونسي عرسه الديمقراطي الذي يستحقه لانه قدم الدماء الزكية للوصول اليه.