ها هي تغفو وعلى زندها السؤال ذاته: ما الذي حسر الماء في تفكيرها حتى استغرقت حدّ الصمت والتندّر؟
لعلّه
الكلام المفقود والزائغة بصيرته في الفلاة، حتى أنّها لتجهد في متابعة
فقاقيعه المُتطايرة والتي لا تلبث أن تختفي في صوت المتكلّم ماحية كلّ أثر.
فلقد جاءت من بلدٍ تُرصد في سمائه كل ضروب الكلام ومجراته التي لا تكاد
تُعد أو تُحصى. فالبعيد منها، كلام بعيد النظر، وقد يكون مُتطرفاً أو
مُبطناً، مُشعاً حِكماً ورؤى، أو محاكاة للكتب والجرائد. والقريب منها قد
يستنير به بيت الجيران. والشارع كلّه أحياناً قد يصيبه المغص واللعيان
لكثرة الكلام البلدي والرخيص والمُعسّل والدبلوماسي والتجاري والذي كلّه
يسبح في كوكبة الكلام (ببلاش). فما بال الكلام هنا نظيف كالثلج، ومحايد
وعارٍ من أي انتماءات؟! ما باله موصد من الداخل إلى درجة يستحيل معها
تشريعه على أي احتمالات متجاذبة؛ فهو ليس بميّت ولا بحيّ، حتى ولا بحالة
لُبس تشي بها الأذهان.إنّه كلام بالأبيض والأسود يُفضي بسامعيه، كما في
مشاهدة فيلم من الستينات، إلى إهمال الصوت والتأمّل في الصورة! كلام…إلى
السطح وربما إلى ما فوقه قليلاً تطفو قلوبه الآلية التي تمّ ضبطها وتعييرها
لتنبض بالدقة والرتابة ذاتها. فالصباح كلامه دائماً يُتكتك بأحوال الطقس،
وفي الساعات والأيام والدهور التالية يدور دورته المنتظمة في أفلاكه
المعهودة، وإن تثاقل هنا أو تزوّق هناك، فلا يفوتنّ المُضفي على نفسه حسّاً
نباتياً أنّه ما من جذور لهذا الكلام تُرسخّه ولا من فروع يُغرّد فيها.
إنّه كلام عرضي وآني بامتياز. مطهي بمقادير من الأفكار، ونِسب من الفِطن
تتفاوت بتفاوت الوقت الذي يفيض عن حاجة ناطقه. فالكلام قبل كل شيء يلزمه
الوقت، والوقت الذي يُستغرق في ما يتعدّى حدود تلبية الرغبات والحاجات
والواجبات الأساسية والطبيعية، هو بمثابة الضائع. لذا، فالكلام هنا لايُطهى
للتلذذ به، بل لسدّ الرمق والإتيان بالغرض النفعي الأصلي الذي نُطق به
لأجله مما يجعله خالياً من أي نكهة إضافية مُكلفة! ومن نافل القول إذن أنّ
لغة الناس هنا غير شهيّة؛ فالثلج يعني البرد، والعُطلة هي الراحة، ومن
الرعونة بمكان أن لا يُفسّر الماء بالماء. إنه كلام سطحي إخباري بليد، بلا
طوابق علوية أو سفلية، وبينه وبين بيوت الناس المشكوكة هنا كأسنان المشط
صلات الرحم ذاتها شكلاً ومضموناً. ولو عاد الناس هنا إلى البدء، لتفقّهوا
الكلمة. لو عادوا إلى عصور كان يُستعاض فيها عن الكلمة بالإشارة، لكان من
المُؤمل بعد للأفكار والخواطر أن تتساقط من إيماءة رأس أو هزّة خنصر! لكنهم
باقون هنا بإرادات بالغة السطحيّة، يتنفسون الكلام كالهواء الرطب، غافلين
عن كل التفاصيل التي غُيّبت في حضارة "المُلائم للعصر" و"المُوجز"
و"المُفيد"؛ حضارة قتل العصافير كلها بأذن صمّاء.
يا للبؤس..أين هي الآن من شياطين الرُؤى وعبث الفراشات؟
لقد لاذت
بالصمت. ولقد راقها كثيراً لما في بُلوغ معانيه من فضائل هي في سوق الكلام
ما يُوازي الثمار في غير مواسمها. وغالباً ما كانت تجد في جسده الهامد رئةً
ما تتنفّس من خلالها، فتردّ إليها ما ابيّض واسوّد من كلماتها مُخضّباً
بالألوان.
الأربعاء نوفمبر 02, 2011 12:26 pm من طرف هشام مزيان