لكل
كاتب مأواه الخاص به، قد يكون شقة فاخرة أو غرفة صغيرة فوق سطح عمارة،
كوخا في الريف مثل تولستوي أو فيلا مثل الروائي البوليسي جورج سيمينون، ولم
لا نتحدث عن بعض الكتاب المغاربة الذين يقطنون في فيلات فاخرة في حي
السويسي والرياض؟ إن الكتاب، عادة، ما يكتفون بفضائهم الصغير يؤثثونه بعشق
زائد حتى يناسب ذوقهم الجمالي. ثمة طاولة للكتابة وخلفها مكتبة مليئة
بعناوين بشرية لرجال ونساء، لوحات فنية على جدران الغرفة، ملصقات لأفلام
سينمائية ومسرحيات، كتب مبعثرة هنا وهناك، جرائد ومجلات بالعربية
والفرنسية، كاتالوغات، لكن ثمة أيضا غرفة بائسة لكاتب كبير هو جان جينيه
ليس فيها إلا سرير بالٍ ونسخة من جريدة لوموند وعلبة سجائر جيتان بدون
فلتر، فهذا الكاتب الزاهد في الحياة لم يكن عنده هاجس حب الامتلاك، امتلاك
المال والعقار، لا علاقة له بالأبناك، كان زاهدا حتى في اللباس الذي يستر
جيده النحيل، أما ليون تولستوي فقد تخلي عن امتيازاته الإقطاعية وفضل العيش
في كوخ بسيط بالريف الروسي صحبة الفلاحين البسطاء الطيبين، وبخلافه هو،
كان الروائي الكبير دوستويفسكي يغرق نفسه في لعب القمار حتى دمر جسده
المصاب بالصرع ومن ثم لجأ الى كتابة فصول روائية من أجل مزيد من الروبلات،
لقد دمره القمار حتى النخاع ولم يبق إلا أثاث بيته وزوجته الشابة سكرتيرته
السابقة وقد باعت بعض حليها لتمده بالمال، كان هذا قدره التاريخي الذي لا
مفر منه.
******
غرفة الكاتب هي وسادته الخالية بتعبير إحسان عبد القدوس، فيها يستريح من
عناء التجوال أناء الليل وأطراف النهار، فيها تنبت الأفكار والخطاطات
والخيالات والمشاريع، القصص والروايات والقصائد، قد يؤنسك غيلمٌ مثل غيلم
محمد زفزاف الذي بقي يتيما بعد رحيله الأبدي، قط مثل قط محمد شكري في غرفته
السطحية (من السطح) المؤثثة ببعض اللوحات. إن غرفة الكاتب ليست غرفة عادية
لرجل متزوج وأبٍ في نفس الوقت، حريص على رتابة الوقت والنوم مبكراً، إنها
عالم من الأشباح المتحركة السائرة في نومها، الناهضة من عدم، الذاهبة الى
أحلامها المرعبة، بل هي غرفة رمزية بامتياز، شاهدة على تنقل الكاتب ببطءٍ
حتى لا يضيع شخوصه.
لقد شدّني الى هذا العنوان ما كتبه مؤخرا الصديق
الروائي والمسرحي يوسف فاضل عن غرفته الخاصة بحي بيلفيدير بالدار البيضاء،
وهي غرفة تقع على السطح بسيطة وجميلة تغري بالاستلقاء والقراءة وسماع
الموسيقي وإضاعة الوقت دون ندم، فإذا كان الكاتب في المغرب لا يملك بيتا من
ماله الخاص، مثلنا نحن الفقراء، فإن غرفة يوسف فاضل هي نصوصه الروائية
والمسرحية، مثل غرفة محمد زفزاف، المحلوم بها في اليقظة وفي المنام، من هنا
تنبت رمزية المكان كذاكرة تعبيرية مليئة بالأحاسيس. إن المكان لفضاء هام
للكاتب، فيه تخلق الشخوص وتموت، فيه تنهض الأحداث والمواقف. يكتب يوسف فاضل
في شهادته: غرفة الكاتب كرأس الكاتب مليئة بالأشباح، فارغة بمعني من
المعاني، فراغ الغرفة فراغ مؤقت، أسئلة الكاتب إن وجدت فهي مؤقتة، وجدت
صدفة، وحدها الصدفة أبدية.
******
في هذا النص الحقيقي والحميمي، والمجزأ الى ست عناوين فرعية هي: فراغ ـ
الحلم ـ البيضاء ـ غرفة السطح ـ الرواية ـ فراغ أخير، يحكي يوسف عن ذاته
المشتتة عبر المكان الذي يساوي أحلامه ومشاريعه الإبداعية، واصفاً إياه
بسخرية لاذعة مثل سخرية يوسف نفسه. يكتب أيضا: لم أختر ولادتي ولا بلدي ولا
مكان إقامتي ولن أختار موتي، فكيف وبأي لغة أسأل؟ مرت فترة انتقلت فيها
بين المدن والقرى، بين غرفة عالية وأخري واطئة وانتهي بي المطاف الى هذه
الغرفة على السطح عثرت عليها بالصدفة ما بين المجزرة والبحر، روائح البحر
تأتي مع الرياح الغربية في موسم الأمطار، أما الرائحة الغالبة فهي رائحة
الحيوانات التي يبدأ دمها يسيل تحت المدينة فجر كل يوم، هناك حيوانات خفية
تتحرك حولي في السطوح المجاورة. إنها غرفة الكاتب وملاذه الأخير ذكرتني
بغرفة مماثلة كنت قد اكتريتها مدة أربع سنوات فوق سطح عمارة بحي المعاريف
الأوروبي بالبيضاء، في هذه الغرفة الصغيرة المطلة على البحر نظمت قراءات
شعرية وقصصية وجرت نقاشات أدبية قبل أن يسكنها زفزاف وأنتقل أنا الى الرباط
لأسكن في غرفة أرضية يفتح بابها على سطوان فسيح وعلى صوت القطط المتناحرة
على فضلات القمامة. إن غرفة الكاتب هي ذاته.
17
الأربعاء أكتوبر 26, 2011 11:26 am من طرف تابط شرا