شكل من أشكال السؤال هو الحُلم.. حُلم مارسه العقل منذ القِدَم ومازال،
يستشرف من حيث هو سؤال إجابات تتجاوز المفروض والمَعيش لتصنع عالماً
افتراضيّاً يليق بحجم الإبداع.. بالسؤال. لهذا انبرى الإنسان منذ أقدم
العصور يتخيّل ويحلم بمجتمع أفضل وأكثر نبلاً وجمالاً من المجتمع الواقعي
بما فيه من فقر وقسوة وإقصاء وتهميش وتكبيل للحريّات…، فالحياة المُسَلّم
بها لا تنفع الكائن الحي، على حد تعبير سقراط.
قد لا نفهم ما الذي يدفع هذا الفيلسوف أو ذاك لاعتناق هذا المفهوم أو ذاك
لأنّ التفلسف فعل إصغاء مدهش لصوت داخليّ يتبعه الفيلسوف بحرية مذهلة تنسجم
والنداء الداخليّ الحُرّ؛ لذا قد لا نستطيع أن ندرك تماماً لماذا كان
أفلاطون (مثلاً) فيلسوفاً مثالياً؟ ورغم هذا يمكن أن نمنح لأنفسنا بعضاً من
الحقّ في تأويل هذا النّزوع المثالي لديه كرغبة عارمة منه لتجاوز واقع
مادّيّ مأساويّ فانٍ جعله مثالياً يهيم عشقاً بمثله المنعتقة انعتاقاً
مطلقاً من المادة، (فسجناء الكهف الذين يثقون بالإحساسات، لا يرون إلا
أشباحاً وخيالات يظنّون أنها حقائق)(1). وقد لا نجانب الصواب إذا ما وصفنا
أفلاطون (427-347ق.م) بأنه واحد من أهمّ المبدعين، المتصوّرين لعالم مفارِق
كليّاً للعالم المادّيّ الواقعيّ المحسوس، عالم لا يمكن أن يكون إلا
كمالاً مطلقاً يذكّر البشر دائماً بنقص الواقع، بل وبضرورة التخلّي عنه
والسّعي الدائم عبر جدل صاعد صوب المعرفة.. معرفة هذا العالم الإلهيّ
الخالد مقابل عالم واقعيّ وهميّ زائل. لقد حلم أفلاطون بـ"جمهورية" مُثلى
تساوِق مُثله القابعة في عالمها العلويّ الإلهيّ، جمهورية تتخطّى واقعاً
ماديّاًّ ناقصاً يترتّب على نقصه نقصٌ مماثل في الحقّ والخير والجمال.
مَنَح أفلاطون رئاسة جمهوريته تلك للجدير، والجدير بلا أدنى شك بالنسبة
إليه هو الفيلسوف، صديق العقل.. ولا شيء غير العقل.
في جمهوريته يحاول أفلاطون الإجابة عن سؤال (لماذا يحكم ذوو الجدارة؟) على لسان سقراط، فيقول:
(وأثقلُ مصائب الناس أن يحكمهم أسافلهم إذا رفض فضلاؤهم الإحكام، فأرى أن
الأفاضل يتبوّأون منصّات الحكم تفادياً من حصول هذه النتيجة، فيقتضبون على
أزمّة الإحكام، لا لأنها ضير بالذات ولا ليجنوا منها نفعاً ذاتياً، بل لأن
الحاجة المعنوية اضطرتهم إلى قبولها، ولا لمسرّة ذواتهم، بل لأنهم أكثر
فضلاً وأقلّ شرّاً….)(2).
ويبدو أن الواقع الذي عاشه الفارابي (870- 950م) في المجتمع الإسلامي كان
يستدعي أيضاً حلماً بـ"مدينة فاضلة" على غرار مدينة أفلاطون وإن كانت كلمة
"مدينة" التي استعملها الفارابي ليس لها نفس مضمون كلمة (مدينة polis) التي
استعملها أفلاطون من حيث هو أثيني، إذ أعطى الفارابي تعبير المدينة معنى
آخر يقترب من معنى الدولة، فالمدينة بمعناها اليوناني لم يكن لها وجود في
الإسلام، إلا أنه تأثر بأفلاطون شديد التأثر في وصف رئيس المدينة الفاضلة،
فمدينته أيضاً لن يرأسها إلا الجدير. فهو يرى "أنّ الإنسان الذي حلّ فيه
العقل الفعّال، هو الذي يصلح للرئاسة فيفيض عليه ما يفيض من الله على العقل
الفعّال، ويكون حكيماً وفيلسوفاً، نبيّاً منذراً بما سيكون، ومُخبِراً بما
هو الآن، ويكون في أكمل مراتب الإنسانية، وفي أعلى درجات السعادة، ثم يجب
أن يكون له مع ذلك قدرة للسانه على جودة القول والتخيّل وقدرة على جودة
الإرشاد إلى السعادة، وأن يكون له مع ذلك جودة ثباتٍ ببدنه لمباشرة
الأعمال"(3). وليست السياسة عنده إلا قسماً من الفلسفة الأولى، فـ"المدينة
الفاضلة تترتب أعضاؤها على صورة شبيهة بترتيب الموجودات واتصالها بعضها
ببعض، وإن المدينة الأفضل والأكمل هي مدينة الله، فالموجودات البريئة من
المادة تقرب من الأول ودونها الأجسام السماوية، ودون الأجسام السماوية
الأجسام الهيولانيّة، وكل هذه تحتذي حذو السبب الأول وتؤمّه وتقتفيه ويفعل
ذلك كل موجود بحسب قوّته"(4).
إن مدينة الفارابي الفاضلة هي المدينة التي "يُقصد بالاجتماع فيها التعاون
على الأشياء التي تُنال بها السعادة الحقيقية"(5). وقبل ولادة العولمة
التي حوّلت العالم إلى قرية صغيرة بقرون كان الفارابي قد تحدث عن النوع
الأعظم والأكمل من الاجتماعات البشريّة، اجتماع الجماعة كلّها في
المَعمُورة.
..وقد يكون الواقع الذي دفع الفارابي إلى تصوّر مدينة فاضلة تحكمها
الأخلاق والفضيلة، وتُنال السعادة فيها بالعلم والعمل، من حيث عيشه في
الشرق من الحضارة العربية الإسلامية، يتقاطع وواقع الغرب من هذي الحضارة في
المأساويّة بحيث يدعو أحد فلاسفتها للحلم بمدينة متناغِمة جداً ومدينة
الفارابي تلك، ففي الأندلس، ثمّة فيلسوف سيحلم ويحلم، حتى أن حلمه سيلقى
طريقاً إلى كل من ابن طفيل وابن رشد.. حَلِمَ ابن باجَة (1100،1099)-
1138م) بـ"مدينة كاملة" لا يشوبها النّقص، ذلك أن فلسفته هي فلسفة السعادة
العقليّة، فالإنسان عندما تتطوّر قواه الإدراكيّة يستطيع أن ينتفع بحسنات
الحياة ويبتعد عن مفاسدها، وأن يتّصل بالعقل الفعّال المنبثق من الله، وأن
يصل من ثمّ إلى السعادة.
تتضمّن مدينة ابن باجة الفاضلة الكاملة أكبر عدد ممكن من الحكماء
والفلاسفة. ولئن جعل كلامه على المُتوحّد، فالمتوحّد عنده لا يعني الفرد
كفرد، وإنما يعني الفرد والكثرة والجماعة في توحيد القوى والأعمال
الإنسانية الموجّهة نحو كمال تكون من ورائه السعادة المنشودة.
"الحكومة الكاملة" هي المدينة الفاضلة التي لا تحتاج أطباء وقضاة؛ لأنّ
سكانها يتحلّون بالقناعة فلا يتغذّون بالأطعمة الضارّة بكميتها أو
بكيفيتها، وهم من ثم ليسوا بحاجة إلى طبابة، والأمراض التي تأتيهم من أسباب
خارجيّة عنهم هي عارضة وتزول من ذاتها دون أي علاج، ثم أن العلاقات بين
سكانها قائمة على المحبة التي تُبعِد كل شجار وليس هناك مدّعٍ ولا مُدّعَى
عليه وليس هناك من يقوم بأعمال شاذّة، (فمن خواص المدينة الكاملة أن لا
يكون فيها طبيب ولا قاضٍ)(6). والحكومة الكاملة كفيلة بأن يبلغ الفرد فيها
أعلى درجة ممكنة من الكمال، وكل فرد مستقيم الرأي لا يجهل قانوناً ولا يخرج
على سنّة ولا يشذّ في عمل ولا ينساق إلى إثم ولا يلجأ إلى تهكّم واحتيال،
فـقد بيّن أن (المدينة الفاضلة الكاملة قد أُعطِي فيها كل إنسان أفضل ما هو
معدّ نحوه، وأن آراءها كلّها صادقة، وأنه لا رأي كاذب فيها، وأن أعمالها
هي الفاضلة بالإطلاق وحدها)(7). ولئن وُجِدَ المُتوحّد في مدينة غير كاملة
فعليه أن يعيش كأنه فرد في حكومة كاملة، أو كأنه نبتة تعيش وتنمو بذاتها
نموّاً طبيعيّاً. هكذا؛ لا تحتاج مدينة ابن باجة الكاملة تلك إلى أنواع
الطبّ الثلاثة (طبّ النفس- طبّ الخُلق- طبّ البدن)، ومَنْ يدري، ربما كان
هذا الحلم المبدع بمدينة كاملة تتجاوز نقص الواقع بما فيه من شرور ومفاسد
وراء موت هذا الفيلسوف الشاب مسمُوماً! فالذين يمقتون الأحلام يتربّصون
بالحالمين دائماً وأبداً!
ولأنّ الحُلم مُنفلِت من الزمان والمكان من حيث هو استشراف لا يتوقّف
لواقع أفضل وأسمى؛ ثمّة حلم يحلّق هذه المرة في فضاء الواقع الغربي
المسيحي، واقع المجتمع الإقطاعي، إنه حلم القديس أوغسطين (354- 430م).
في كتابها (الله والإنسان) كتبت كارين آرمسترونغ تقول: بالإمكان تسمية
أوغسطين مؤسّس الروح الغربية، فما من لاهوتي كان له نفس تأثير أوغسطين في
الغرب، عدا القديس بولس، فقد سعى منذ السنوات الأولى من حياته إلى دين
توحيدي، وقد رأى أن الله أمر أساس للبشريّة، وها هو يخاطبه في مطلع
اعترافاته (لقد خلقتنا من أجل نفسك، ولن ترتاح قلوبنا حتى تستقرّ فيك).
عانى أوغسطين في حياته الرّوحيّة القلق وفقدان السّكينة، ففي شبابه الأول
كان وثنيّاً على مذهب المانوية، فالأفلاطونية المحدثة، ثم انتقل إلى
المسيحية، وشهد في حياته انهيار الامبراطورية الرومانية المتغطرسة، انهيار
القيم في ذلك العصر المعذّب، وعاش سيادة الدعوة إلى الهروب من العالم
الخارج إلى عالم الباطن (عالم الذات) وهذا ما نلاحظه في مؤلَّفه
(الاعترافات) فنجده يأخذ من فكر أفلوطين ما يتفق وجوهر العقيدة المسيحية
التي ترى أن الله هو مصدر الجمال المطلق، حتى أن أوغسطين يعلن إخلاصه
للجمال الإلهي عبر التخلّي عن وهم جمال الموضوعات الدنيوية فيعترف قائلاً:
(لا أحبُّ الجمال الجسدي الزائل، ولا النور الساطع، ولا الأصوات العذبة،
ولا أريج الزهور…إنما هناك نور وصوت وشذى…أحبها حين أحب الله، نور الإنسان
الباطن وصوته وشذاه…)(8).
إن المدينة أو الدولة بالنسبة للقديس أوغسطين هي جماعة من الناس تؤلّف
بينهم محبة مشتركة لموضوع ما. وفي الإنسان محبتان: محبة الذات إلى حدّ
امتهان الله، ومحبة الله إلى حدّ امتهان الذات. فهناك مدينتان ترجع إليهما
سائر المجتمعات البشرية : المدينة الأرضية، والمدينة السماوية أو "مدينة
الله"، وينتمي كلّ إلى إحدى المدينتين بمحض إرادته، وبينهما منذ البداية
حرب هائلة، تجاهد الواحدة في سبيل العدالة، وتعمل الأخرى على نصرة الظلم،
ولا تزال هذه الحرب مستعرّة إلى نهاية العالم، حتى يفصل بينهما المسيح في
آخر الأزمان، فتنعم الواحدة بالسعادة الأبدية وتلقى الأخرى جزاءها في النار
التي لا تنطفئ. وعلى هذا؛ عدّ أوغسطين "مدينة الله" مصير الإنسانيّة
والمبادئ التي تجتمع عليها وفقاً للمسيحيّة، وإن مصير الإنسانية هذا يبدأ
بوجوب الإيمان إذا أردنا نيل السعادة والحكمة، ولكن الإيمان ليس عاطفة
غامضة وتصديقاً عاطلاً عن الأسباب العقلية، فعلى العقل مهمّة قبل الإيمان
(تَعَقّلْ كي تؤمِنْ)، وللعقل مهمّة بعد الإيمان، هي تفهّم العقائد الدينية
(آمِنْ كي تَتعَقّلْ).
حقاً إن مدن الفلاسفة الفاضلة لم تتحوّل إلى حقيقة واقعة، لكن الحُلم
كخاصيّة مدهشة للإنسان لن يتوقف، فالحرية خفّة تأبى ثقل المادة.. المادة
التي يمثلها الواقع الاقتصادي، والاجتماعي الثقافي، والسياسي، والديني "حين
يتشيّأ متخليّاً عن روحانيّته". وعندما يتحرّر الإنسان من ثقل المادة
يتأصّل وجوده ككائن معنى في هذا العالم. لهذا؛ سيستمر الحُلم بمدن اشتراكية
قائمة على أساس التعاون وينتفي فيها الظلم الاجتماعي؛ ففي سنة 1506 نشر
الكاتب الإنكليزي توماس مور كتاباً بعنوان utobiaوصف فيه جزيرة خياليّة،
الأموال فيها مملوكة مُلكيّة شائعة ويحصل الناس بذلك على قدْرٍ من السعادة
لم يكونوا يحصلون عليه في إنجلترا وقت أن نشر أحد رجال الدين الإيطاليين
كتاباً عنوانه (مدينة الشمس) يصف فيه مدينة خياليّة أخرى قائمة على
المُلكيّة الجماعية والحياة المشتركة، وقد تعددت بعد ذلك المقترحات في هذا
الخصوص ومن ذلك ما نادى به الفرنسي فوريير(1722- 1832) من إنشاء مستعمرة
اشتراكية أطلق عليها اسم fhalanstere تقوم بالأعمال الزراعية على طريقة
البساتين حتى يكون ذلك مدعاة لجعل العمل محببّاً إلى النفس ويعيش فيها
الناس مَعيشة جماعيّة من حيث العمل ومن حيث إعداد الطعام وتناوله.
ومن التجارب الاشتراكية التي وُضعت موضع التنفيذ، المستعمَرة التي أقامها
الإنجليزي روبرت أوين (1771- 1858) في قرية أمريكية بولاية indiana أسّسها
على قواعد اشتراكية من حيث الملكية والعمل الجماعيان وتوزيع الناتج الكلي
بين الأعضاء ولكنها انتهت بالإخفاق وبتصفية التجربة. وقد كان نفس المصير
للمستعمَرة الاشتراكية التي أقامها الفرنسي كابيه (1788- 1856) في New
orleuans بأمريكا.
ويبدو أنه لا حدّ لعدد هذه المقترحات والآراء في تاريخ الفكر البشري لأنها
تنفيس عن الضّيق بالواقع بما يحتويه من آلام وقسوة وحرمان وشرور ومفاسد لم
تخلُ منها الحياة يوماً من الأيام.
و"الآن" يمكن الحديث عن حُلم الإنسان في العالم العربي الإسلامي بعد خروجه
عن صمت طويل عبر طفرة لا تاريخيّة كانت مفارَقة قدّها إقدام التونسي "محمد
البوعزيزي" على إضرام النيران في جسده احتجاجاً على واقع مادي مأساوي،
والمفارَقة التي صنعت منعطفاً تاريخيّاً هاهنا هي أن موت الجسد لم يرافقه
موت الروح من حيث استمرار أو تواتر هذه الروح التي أطلقت عنان التمرّد
لنفسها من شخص فرد إلى أمّة بأكملها مُعلِنة رفض واقع مادي بأكمله، مكلّلة
بحُلم طالما طال انتظار تحقّقه، إنه الحُلم بـ"مدينةٍ ديمقراطيّة".
ليست مدينة الديمقراطية الآن بغريبة عن تلك المدن التي طالما حَلمَ بها
الفلاسفة والمفكّرون منذ القِدَم، فالعدالة والحرية والمساواة بين البشر
هذه كلّها طموحات إنسانية شديدة الصّلة بمفاهيم كونيّة تؤكّد حقوق الإنسان
كبداهة، ولا شأن لها بزمان ولا بمكان.
مات البوعزيزي لتواصل الملايين من بعده معركة الحريّة.. ملايين استحالت
برميثيوس فسرقت نيران البوعزيزي لتحرق الواقع المادي بثقله وتثاقله، ويبدو
أن الإنسان حين يدخل مغامرة الحُلم بعد سُبات طويل لا يعود الأساس في حياته
مجرّد مَأكل ومَلبَس ومَأوى فحسب، فالحرية والكرامة الإنسانية تصبح الهاجس
الأكبر والأهم والأعلى شأناً.. هاجس يقضّ مضجع الوعي السّاكن، موقِظاً له
على حقيقة (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، وإن كان لا يستطيع أن يحيا بلا
خبز!)، فثورة الإنسان في العالم العربي الإسلامي على الواقع (المادة)
بثقلها المتمثل بالطّاغية وبالمال والسّلطة والفساد والفقر والجوع والبطالة
و القهر والتّهميش والانتهاك اليومي لحقوق الإنسان بكل ما يتّسم به من
بشاعة..و..وغير ذلك من التفاصيل التي تنتمي إلى واقع مادي لا أخلاقي، تنطوي
على التّوق إلى دولة ديمقراطية قوامها الأساس مجتمع مدني يحترم الإنسان
كقيمة عليا. وعند هذه النقطة تلتقي أحلام البشر في كل زمان وكل مكان.
فهل ستتحقق مدينة الديمقراطية في العالم العربي الإسلامي؟ أم أنها ستبقى حُلماً مَحْضَاً؟