بن عبد الله مراقب
التوقيع :
عدد الرسائل : 1537
الموقع : في قلب الامة تعاليق : الحكمة ضالة الشيخ ، بعد عمر طويل ماذا يتبقى سوى الاعداد للخروج حيث الباب مشرعا تاريخ التسجيل : 05/10/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 8
| | داروين والثورة والداروينية(3): داروين في مرمى النار الأصوليّة! | |
انتهيت للتوّ من قراءة كتاب ممتع، متحمّس، يستحقّ القراءة فعلا. صاحبه هو البروفيسور باسكال بيك أستاذ علم الانتربولوجيا والتطوّر البشري وإنسان ما قبل التاريخ في الكوليج دو فرانس. وهي أعلى مؤسّسة علمية في فرنسا، أعلى من السوربون، وتضمّ نخبة علماء وعباقرة هذا البلد. من كتبه السابقة نذكر: في البداية كان الإنسان، والنمور والقرود الكبرى، والقرد هل هو أخ الإنسان؟، وما هو الإنسان؟ وأخيرا داروين ونظرية التطور مشروحة لأحفادنا.سوف أتوقّف هنا عند كتاب آخر يحمل العنوان التالي: لوسي والظلامية الدينية. ولوسي لمن لا يعرفها هي المقابل الانتربولوجي لأمّّنا حوّاء المذكورة في الأديان الثلاثة مع أبينا آدم باعتبارها أصلنا جميعا. ولكن هذه مجرّد أسطورة جميلة بحسب رأي باسكال بيك وعلماء الانتربولوجيا والمختصين بنظرية التطور. فحوّاء بحسب سفر التكوين الذي يفتتح التوراة والذي نقل عنه القرآن لا يتجاوز عمرها الستّة آلاف سنة. هذا في حين أنّ جدتنا لوسي( وهي غير الراقصة المصرية الفاتنة لوسي) التي اكتشفوها عام 1974 في الحبشة يتجاوز عمرها الثلاثة ملايين ونصف المليون سنة! وبالتالي فأيّهما تفضّلون أيّها السادة الكرام؟ أنا شخصيا قلبي يميل إلى جدّتنا حواء بسبب العادة والألفة والتربية والطفولة.. ولكني مضطرّ للاعتراف بحقائق العلم غصبا عنّي. ماذا تريدونني أن أفعل؟ لا أستطيع أن أغلق عقلي أمام اكتشافات العلم. لكنّ المسألة ليست هنا في الواقع. الهمّ الأساسي للكتاب يكمن في مكان آخر.فالمؤلف مهووس بقضية أخرى في غاية الأهمية. وهو يعبّر عنها منذ الحرف الأول إذ يقول:هذا الكتاب ما كان ممكنا أن يوجد لولا العلمانية! ولهذا السبب فانه يتخذ شكل المانيفست الحربي ضدّ أعداء الحرية الفكرية: أي ضدّ الأصوليّين الظلاميين من كلّ الأنواع والأطراف يهودا كانوا أم مسلمين أم مسيحيين. وقد يعتقد البعض أن مؤلفه ملحد مادي بالخالص بسبب هذا الكلام. والحقيقة هي: لا. انه ليس ملحدا وإنما لاأدريا، أي لا ينفي وجود الله ولا يستطيع ان يثبته لأنه لا يعرف بكل بساطة. وليس هدفه بالدرجة الأولى رفع راية التنوير ومحاربة الظلامية الدينية. فهذه المعركة كانت قد خيضت في أوروبا وربحت منذ زمن طويل. يقول ذلك على الرغم من أن الأصوليّة تعود إلى الساحة من جديد حتى في أوروبا ذاتها. انه تعود بعنف غير مسبوق وبشكل مقلق يستحق الرد. فهناك هجوم مكثف على نظرية التطور لداروين وخلفائه. ولا يستطيع كباحث علمي من أعلى طراز أن يقف مكتوف الأيدي أمام هذا الهجوم الظلامي الكاسح على العقلانية والفكر العلمي.ويعود المؤلف إلى الوراء قليلا ويقول: إن قانون 1905 الذي فصل الدين عن الدولة في فرنسا ورسخ النظام العلماني كان تتويجا لقرن بأسره من الصراعات السياسية والفكرية الذي هو القرن التاسع عشر. ففي هذا القرن العظيم الذي طالما تمنى كلود ليفي ستروس لو انه عاش فيه وليس في القرن العشرين تحققت الفتوحات العلمية الكبرى وفرضت فكرة التقدم نفسها على الجميع. ولكن المشكلة هي انه حصل فيه تطرف في الاتجاه المعاكس للظلامية المسيحية. فالعلمانية تحولت إلى دين جديد وأصبحت رأس حربة ضد كل ما هو روحاني وارتبطت أكثر من اللزوم بالفلسفة الوضعية العلموية: أي المتطرفة في علميتها.فكان أن شهدنا مؤخرا ردود فعل عنيفة ضد العلمانية الجامدة أو بالأحرى العلمانوية الحامية التي تبتر الروحانيات والتسامي والتعالي عما كل ما هو غير مادي صرف. كما و شهدنا ردود فعل ضد إيديولوجيا التقدم والفلسفة الوضعية المادية الإلحادية برمتها. ولذلك وجب توسيع العلمانية لكي تستطيع أن تستوعب العامل الروحي بدلا من أن تنفيه تماما. هذا لا يعني أبدا التراجع عنها أو التخلي عن مكتسباتها بأي شكل كان. فالواقع أنها تشهد الآن هجوما عنيفا من قبل الأصوليّين على إحدى الأرضيات الأكثر أهمية وأساسية بالنسبة لنا: ونقصد بها مكانة الإنسان في الطبيعة.ثم يدق المؤلف ناقوس الخطر قائلا: نحن نشهد الآن صعودا قويا للظلاميات الدينية المختلفة هدفه الإطاحة بداروين ونظرية التطور وكل تلك المعارف الهائلة التي جمعناها على مدار مائتي سنة من الجهد والعمل البطيء الصبور عن الطبيعة وأصولنا ومكانتنا في الكون بالقياس إلى بقية الموجودات من حيوانات ونباتات.هناك إذن ردة رجعية إلى الوراء، هناك محاولة للانقضاض على عرين الحداثة، على أعز ما حققناه من فتوحات علمية وفلسفية على مدار ثلاثمائة سنة من عمر الحضارة الأوروبية.. هناك هجمة أصوليّة بروتستانتية في الولايات المتحدة هدفها تحقير نظرية داروين واعتبارها تفسيرا للطبيعة من جملة تفسيرات أخرى لا أكثر ولا اقل. وتلاقيها من الجهة الأخرى الأصوليّة الإسلامية الصاعدة أيضا منذ انتصار الظلامية الخمينية عام 1979 بالإضافة إلى الحركات الإخوانية. وتلتحق بهما الظلامية اليهودية التي وان كانت أقلية إلا أنها موجودة وتريد أن تفرض كل ما جاء في التوراة وسفر التكوين وكأنه حقيقة مطلقة. كما وتريد استغلال الكتاب المقدس لخلع المشروعية على التوسع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. باختصار شديد: هناك تسييس للدين من كل الاتجاهات. هناك هبة أصوليّة عارمة تطغى على العالم. والمشكلة هي أن بعض صرعات ما بعد الحداثة تساعد هذه الأصوليّات على تحقيق مآربها أو قل تسهل لها عملها. ففلاسفة ما بعد الحداثة يقولون لك بما معناه: يا أخي كل شيء يتساوى مع كل شيء وما فيه حدا أحسن من حدا. وكرد فعل على الحداثة فإنهم يشيعون جوا من العدمية والنسبوية في الأوساط الباريسية الراقية أكثر من اللزوم! وهكذا يلتقي أقصى اليسار الباريسي بأقصى اليمين الظلامي الأصوليّ من اجل الانقضاض على الحداثة. وقد وصلت الحماقة بميشيل فوكو إلى حد التصفيق لثورة الخميني باعتبار أنها إعادة للروحانية إلى ساحة السياسة. ويا لها من سقطة الشاطر، سقطة العبقري الذي ندم عليها كثيرا فيما بعد. ولكل جواد كبوة. فلا ينبغي أن نقرعه أكثر من اللزوم. فقد تاب عن سقطته لاحقا توبة نصوحا وعاد إلى الحداثة العقلانية عندما كرس دروسه الأخيرة في الكوليج دو فرانس لشرح نص كانط الشهير: ما هو التنوير؟العدو اللدود هو داروين إذن: ينبغي ان يطيحوا بشارل داروين بأي شكل وان يثبتوا أن نظريته ليست علمية على الإطلاق وإنما هي تعكس مصالح وإيديولوجيا طبقة ليبرالية بورجوازية معينة كبقية النظريات والفلسفات. وهنا يوجد خطر في أن يتسرب إلى عقول أطفالنا وتلامذتنا تشويش أو خلط كبير بين مستوى القناعات الشخصية أو العقائد الإيمانية من جهة، ومستوى الفكر العلمي المحض من جهة أخرى باعتبار أن كل شيء يتساوى مع كل شيء ولا شيء أحسن من شيء ولا توجد أي حقيقة ثابتة على وجه الأرض. وبالتالي فالسؤال الذي يطرحه المؤلف هو التالي: هل الفاصل العلماني الذي أتاح ازدهار العلوم وتفتحها هو في طريقه الآن لأن ينغلق ويموت؟ وكم سيكون ذلك خطرا على الحضارة. ألن تموت الحضارة بموته يا ترى؟ما العمل أمام كل هذا الهجوم الكاسح على لب الحضارة الحديثة؟ جواب المؤلف هو انه لا ينفع في شيء أن نطلق المدافع الثقيلة على الدين كما فعلنا إبان معركة الفصل بين الكنيسة والدولة عام 1905. فهذه فترة مضت وانقضت على الأقل بالنسبة لبلد ترسخت فيه العلمانية كفرنسا. وهو موقف يبدو الآن مراهقا وقد تجاوزه الزمن. فالتدين الروحاني حق لكل إنسان وليس كل متدين شخصا ظلاميا أبدا. فهناك مؤمنون مستنيرون يدافعون عن نظرية التطور وبقية الأفكار العلمية أكثر مني ومنك. وهم يشكلون الأكثرية الآن في دول الغرب المتقدمة. لا، الشيء الذي ينبغي فعله هو تذكير الناس لماذا أن نظرية التطور هي نظرية علمية وليست رأيا عقائديا من جملة عقائد أخرى ممكنة. كما وينبغي تذكيرهم بان نظرية الخلق التوراتية الواردة في سفر التكوين ليست نظرية علمية وإنما اعتقاد ديني يتعارض كليا مع اكتشافات علم البيولوجيا. ولكن باسكال بيك يضيف فورا قائلا: إذا ما فهمنا الدين جيدا أي بشكل رمزي ومجازي لا حرفي سطحي فانه لا يعود هناك تناقض بين الكتاب المقدس وداروين ولا بين لوسي وحواء إلا في أذهان الأصوليّين الذين يأخذون سفر التكوين على حرفيته. أما المسيحيون الليبراليون المستنيرون فيؤمنون بنظرية التطور في الوقت الذي لا يتخلون فيه عن إيمانهم الديني. ويمكن أن يحصل نفس الشيء في عالم الإسلام عندما يتطور العالم العربي الإسلامي وتنتشر فيه الأفكار العلمية والفلسفية على أوسع نطاق وتتراجع الأفكار التراثية والخرافية. وهو شيء قادم بلا ريب بل ويشكل المعركة الأساسية للمستقبل. ولكنها لن تكون معركة سهلة على الإطلاق وإنما حربا ضروسا قد تكلف ملايين الأشلاء والضحايا.وحدهم البروتستانتيون المهووسون في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية يريدون إشعال نار الحرب بين الدين والعلم من جديد بعد أن انطفأ أوارها في الغرب منن طويل. وكذلك الأمر فيما يخص هارون يحي الذي هو اسم مستعار لشخص أصوليّ يدعى في الواقع: عدنان أوكطار. وهو يرمز عموما على التيار الأصوليّ في تركيا وكل العالم الإسلامي. ولكن إذا كان مفهوما أن يوجد تيار ظلامي كاسح في العالم الإسلامي بسبب عدم المرور بالمرحلة التنويرية حتى الآن. فانه من غير المقبول وغير المعقول أن ينوجد في اكبر بلد علميا وحضاريا وتكنولوجيا: الولايات المتحدة الأمريكية!ثم يردف باسكال بيك قائلا: يا للعجب العجاب! أحد أهمّ الفتوحات العلمية على مدار التاريخ ترفض اليوم في أوائل القرن الحادي والعشرين أكثر من أي وقت مضى. إحدى أهمّ المساهمات الكبرى في الفكر الحديث والكوني المرتبط بالعلمانية ارتباطا وثيقا ترفض من جديد من قبل الظلامية: إنها نظرية التطور. ينبغي العلم بان نظرية التطور لا تستطيع تفسير كل شيء. وليست حقيقة مطلقة مبرهن عليها مرة واحدة والى الأبد. ولكنها على الرغم من ذلك تتمايز وبشكل راديكالي عن كل المحاولات الأخرى لتفسير العالم وظهور الإنسان على سطح الأرض سواء أكانت أسطورية أم دينية أم إيديولوجية أم فلسفية. هي في جهة وكل هذه المحاولات بقضها وقضيضها في جهة أخرى. وبالتالي فلا ينبغي أن نخلط بين الأمور أو نميّعها قائلين: كلها مجرد تأويلات للعالم وما حدا أحسن من حدا! هذا يعني شطب على تاريخ العلم وقتل لفكرة التقدم والعقلانية العلمية من أساسها.ويرى المؤلف أن جميع المثقفين المطلعين على الأمور فوجئوا مؤخرا بتوزيع منظم ومبرمج ومنسق لآلاف عديدة من نسخ كتاب ضخم مطبوع بشكل فاخر يحمل العنوان التالي: أطلس الخلق، لمؤلف مجهول يدعى: هارون يحي. انه كتاب مرفق بالصور الجميلة الباذخة وذو طباعة ممتازة وحتما صرفت عليه فلوس كثيرة. ما هو هدف هذا الكتاب؟ تبيان ان نظرية التطور خاطئة من أساسها وان جميع الأجناس الحيوانية الموجودة على سطح الأرض بقيت كما هي لم تتغير منذ أن كان الله قد خلقها لأول مرة. وبالتالي فلا تطور في الطبيعة ولا تحول ولا من يحزنون. والواقع أن المحاجات الواردة في الكتاب فقيرة جدا من الناحية الفكرية بقدر ما هي خادعة وغشاشة. ولا تستحق حتى مجرد الرد. ولكن الهدف الحقيقي لهذا الكتاب ليس أن يبرهن ويحاجج وإنما أن يبث سموم الشكوك في النفوس ويجذبها ويسحرها بشكل من الأشكال. إن هدفه هو آن يشيع الحيرة لدى الناس الجاهلين بنظرية التطور وهم يشكلون للأسف الشديد أغلبية الناس على سطح الأرض. انه يهدف إلى بهر الناس عن طريق إثارة عجيب خلق الله في الكون، تبارك الله أحسن الخالقين.والله هو أحسن الخالقين بدون أدنى شك. ولكنه زود الكون بقوانين علمية لا يحيد عنها قيد شعرة ولم يترك الأمور فوضى عبثية. ومن بينها قانون التطور والاصطفاء الطبيعي الذي اكتشفه شارل داروين وكذلك قانون الجاذبية الذي اكتشفه نيوتن من قبله، الخ..ومهمة العلم تشغيل عقولنا واكتشاف هذه القوانين التي أودعها الله في الكون. ومهمة الدين إرشاد الأرواح وهدايتها. لكل مجاله الخاص. وحذار من الخلط بينهما لأننا عندئذ نخسر الدين والعلم ونغرق في الظلامية. وهذه هي حالة العالم الإسلامي حاليا. وبالتالي فلا يوجد أي تناقض بين العلم والإيمان إذا ما فهمنا الدين بشكل مستنير وصحيح لا بشكل أصوليّ متزمت كما يفعل هارون يحي وسواه. والدليل على ذلك أن البابا يوحنا بولس الثاني اعترف بنظرية التطور عام 1996 بعد ان رفضتها الكنيسة الكاثوليكية زمنا طويلا أو أبدت امتعاضها منها وكرهها لها بل وأدانتها. يقول البابا الراحل ما نصه في خطابه أمام الأكاديمية البابوية للعلوم: إن نظرية التطور هي أكثر من فرضية وينبغي علينا أن نأخذها على محمل الجد. ولكن البابا في ذات الوقت يدعو إلى التفريق بين مملكة الحيوان ومملكة الإنسان باعتبار أن هناك هوة تفصل بينهما ولا يمكن التعامل مع الإنسان كحيوان فقط كما يفعل الماديون بشكل مبتذل ورخيص. فللإنسان كرامة خاصة باعتبار انه أعلى المخلوقات وأجلها شأنا. كما أنّ له روحا أو حياة روحية وليس فقط مادية على عكس الحيوان. وهذا كلام متوازن مسؤول لا يخالفه عاقل سواء أكان عالما بالبيولوجيا أم باللاهوت الديني أم بالفلسفة. على هذا النحو يمكنك أن تكون متدينا وفي ذات الوقت تعترف بنظرية التطور دون أن تشعر بأي تناقض. ولكن المشكلة هي أن الأصوليّين البروتستانتيين في أميركا تماما كهارون يحي والأصوليّين المسلمين يأخذون ما جاء في سفر التكوين والقرآن الكريم على حرفيته في حين انه يتناقض كليا مع نتائج العلم الحديث. فمن قال بأن الأرض عمرها ستة آلاف عام فقط؟ اللاهوتيون المسيحيون اعتمادا على تفسير معين للكتاب المقدس. وهو تفسير ساذج وخاطئ. ولكن العلم الحديث يضحك من هذه الاستنتاجات الصبيانية التي لا تقوم على أي برهان ويقول لنا بان عمر الأرض أربعة مليارات ونصف المليار سنة! فمن نصدق: نظريات العلم القائمة على براهين تجريبية محسوسة أم كلام الفقهاء واللاهوتيين التي لا تقوم على أي منهج علمي أو تجريب اختباري؟ ومن يصدق أن الله خلق العالم في ستة أيام فقط ثم استراح في اليوم السابع؟ هذه كلها صياغات رمزية مجازية ولا ينبغي أن نأخذها على حرفيتها كما يفعل الأصوليّون الذين يريدون فرض التوراة وكأنها مبحث في علم الفيزياء والكون والبيولوجيا! وهذا ما يفعله الأصوليّون المسلمون بالنسبة للقرآن الذي يجدون فيه حتى علم الذرة! لقد نصحنا غاليليو منذ زمن طويل بان نعرف كيف نفرق بين الكتب المقدسة والكتب العلمية عندما قال عبارته الشهيرة: إن الكتب المقدسة تهذب أرواحنا وأخلاقنا وتعلمنا كيف نذهب إلى السماء ونحظى برضى الله وندخل الجنة. ولكنها لا تعلمنا كيف هي تركيبة السماء والكون والأفلاك. هذه هي مسؤولية العلم لا الدين. وبالتالي فإذا ما عرفنا كيف نميز بين كتاب الدين وكتاب العلم فانه لن يحصل أي تناقض بينهما. وسنحقق المصالحة الكبرى بين العلم والإيمان. وهذا ما يفعله كبار المؤمنين في الغرب الذين أصبحوا يتحدثون عن لاهوت ما بعد الحداثة! المشكلة هي في الخلط بينهما وهذا الخلط يرتكبه الأصوليّون الظلاميون عندما يحاولون إقناعنا بان كل ما جاء في النصوص المقدسة صحيح حرفيا ولا يقبل أي تأويل مجازي أو رمزي. وبالتالي فالعلماء الراسخون في العلم من أمثال باسكال بيك وسواه لا يهدفون إطلاقا إلى مهاجمة الدين وإنما فقط إلى مهاجمة التفسير الحرفي المتزمت الإرهابي للدين. وكما قال العالم الفرنسي الشهير باستور في عبارته الشهيرة: القليل من العلم يبعد عن الله، والكثير منه يعيد إليه.وبالتالي فنحن لا ندافع عن الإلحاد هنا إذ ندافع عن نظرية التطور. وإنما ندافع عن عظمة العلم وكرامة العقل البشري الذي وهبنا الله اياه لكي نستخدمه لا لكي نلغيه!ثم يحتج باسكال بيك محتدا: من قال بان الإنسان نازل من القرد؟ هذه عبارة شائعة ولكن خاطئة. فالإنسان والقرد ينتميان إلى نوعين مختلفين في الطبيعة على الرغم من ان القرد وبخاصة الشمبانزي هو أقرب الحيوانات إلينا. فهو يشاطرنا 95 بالمائة من الصبغيات الوراثية! ولكنه لا يتكلم ولا ينطق ولا يفكر إلا في حدود معينة. فمثلا يعرف القرد المتطور كيف يصنع أداة من الحجر أو الخشب لكي يكسر الجوزة بها ويأكلها مثلنا. ولكنه لا يستطيع أن يذهب إلى أبعد من ذلك كثيرا. نقول ذلك على الرغم من أن مطران باريس عندما رأى الشمبانزي في المتحف الطبيعي بباريس ودهش بتحركاته وتصرفاته وردود فعله التي تشبهنا كثيرا صرخ في وجهه قائلا: ولك انطق لكي أعمدك مسيحيا!الأصح إذن أن نقول إن الإنسان والقرد لهما جد مشترك. وبالتالي فنحن أبناء عم ولكن بعيدون جدا. وقد كاد أجداد القرد أن يقتلوا جدنا الأعلى فلا تقوم لنا قائمة ولا يحصل لنا ظهور أو استمرارية على سطح الأرض. وبالتالي فليطمئن الإنسان: انه يظل أرفع المخلوقات وأعلاها شأنا حتى بعد نظرية التطور. ولكنه لا يستطيع أن ينكر انه ينتمي إلى مملكة الحيوان أيضا في فعاليات عديدة من فعالياته وجوانب كثيرة منه.لقد وقفت أديان التوحيد كلها في البداية موقفا عدائيا من نظرية التطور لداروين. هذه حقيقة واقعة. فالكنيسة الكاثوليكية أدانت دون تأخر نظرية داروين طيلة القرن التاسع عشر وحتى أواخر القرن العشرين عندما غير البابا يوحنا بولس الثاني موقفه كما رأينا عام 1996. بل ويمكن القول بان رياح التغيير ابتدأت تهب على المسيحية الغربية منذ انعقاد المجمع الكنسي التحرري الشهير باسم الفاتيكان الثاني عام 1962. 1965. ولكن الكاثوليك الأصوليّين المتزمتين لا يزالون يرفضون حتى الآن داروين ونظريته جملة وتفصيلا. هذا في حين ان أغلبية الكاثوليك في أوروبا أصبحوا مستنيرين وليبراليين ولا يجدون أي غضاضة في القبول بنتائج العلم الحديث. ولكن بما أن الليبراليين هم الأقلية في العالم العربي والإسلامي عموما فان الوضع معكوس. ولذلك فان داروين مكروه كرها شديدا عندنا بل وحتى داخل الجاليات المغتربة في فرنسا. فالمؤلف يروي قصة الفتاة التي ترفض حضور درس البيولوجيا وتخرج من الصف عندما يحين أوانها لأنها مخالفة للدين كما قالوا لها في البيت أو في الجامع. ونفس الشيء يحصل في بعض الولايات الجنوبية بأميركا حيث منعوا تدريس نظرية داروين وفرضوا مكانها نظرية سفر التكوين وطوفان نوح وبقية الأساطير. وقد استمر الأمر على هذا النحو حتى عام 1968 عندما تدخلت المحكمة العليا في الولايات المتحدة وأجبرت هؤلاء المتخلفين على تغيير موقفهم والسماح بتدريس نظرية داروين في المدارس العامة بصفتها نظرية علمية. وهكذا برهنت أميركا على أنها تظل بلدا ديمقراطيا كبيرا على الرغم من كل شيء. ولا يمكن أن تسمح للمتزمتين بالسيطرة عليها وإرهاب الآخرين كما يحصل في العالم الإسلامي عربيا كان أم غير عربي.ثم يشنّ المؤلف هجوما عنيفا على الأصوليّين، أعداء العلم والعلمانية ويقول:لقد فتحنا على موقع الانترنيت الخاص بالسيد هارون يحيى فماذا وجدنا؟ في صفحة الاستقبال تجد شارل داروين وهو محاط بكل طغاة القرن العشرين: من هتلر إلى ماوتسي تونغ الى لينين وستالين الخ. وعلى قدميه نجد طفلا من ضحايا الانتفاضة. ماذا يعني كل ذلك؟ هو أن داروين مسؤول عن كل شناعات التاريخ ومجازره. ثم هناك خلط بينه وبين القرن العشرين الذي جاء بعده مباشرة والذي هو قرن العلمانية بامتياز. وبالتالي فالإدانة موجهة له وللعلمانية في آن معا. هذا الرجل أصوليّ فعلا ويكره العلمانية ويحقد عليها. بل ويعتبر داروين مسؤولا عنها وعن كل ما يحصل في مجتمعاتنا المعقدة من عنف واغتصاب واعتداءات ومثلية جنسية الخ.كل هذا مسؤولة عنه نظرية التطور في رأي صاحبنا التركي الذي يريد إرشاد الجاليات الإسلامية في أوروبا وحمايتها من الفساد الغربي ونظرياته الشيطانية، والعياذ بالله. ومحاجته هي على النحو التالي: إن نظرية التطور تزعم بأننا متولدون عن الحيوانات الأدنى منا مرتبة وبالتالي فهي بتخفيضها لقيمة الإنسان وكرامته تشجعه على ارتكاب مثل هذه الأعمال الحيوانية البغيضة كالمثلية الجنسية وسواها. إننا لا ننكر وجود تطرف الحادي شهواني مادي محض في مجتمعات الغرب. ولكن محاربتها أو تحاشيها لا يكون بالعودة إلى الأصوليّة الظلامية الرافضة للعلم والتطور وأفضل ما قدمته الحضارة الحديثة. وإنما بتقديم تأويل عقلاني مستنير لرسالة الإسلام والقرآن وكل الأديان.ثم إننا نطرح على السيد هارون يحيى السؤال التالي: هل انتظرت البشرية صدور كتاب داروين "أصل الأنواع" عام 1859 لكي تذبح بعضها بعضا؟ عيب وتزوير للواقع. لقد ارتكبت المجازر باسم النصوص المقدسة على مدار التاريخ يا سيد هارون يحيى إذا كنت قد نسيت.. وكل هذا حصل قبل داروين وظهور النظام العلماني بزمن طويل. بحياتها لم تحصل محاكم تفتيش ولا مجازر طائفية باسم قانون الجاذبية الكوني الذي اكتشفه نيوتن ولا باسم نظرية التطور التي اكتشفها داروين على اثر لامارك وآخرين. فلماذا يزور الأصوليّون الحقائق وينسون أو يتناسون المجازر التي ارتكبت باسم عقائدهم المقدسة أو فهمهم المتعصب والمشوه لها؟انه لمؤسف أن يجيء هذا الهجوم على العلمانية ونظرية التطور من البلد الإسلامي الوحيد الذي يعترف بالعلمانية: أي تركيا. فإذا كانت تركيا قد أصبحت أصوليّة بعد مرور تسعين سنة على علمانية اتاتورك فما بالك بالآخرين؟ حقا إن الظلامية توشك أن تطبق على العالم العربي والإسلامي الذي كان رائدا للحضارة والتنوير العلمي الفلسفي في يوم من الأيام. هناك ردة رهيبة بالقياس ليس فقط إلى عصر النهضة أو ما يدعى بالعصر الليبرالي العربي(1800.1950) وإنما أيضا بالقياس إلى العصر الذهبي العباسي البويهي الفاطمي الأندلسي المجيد. هذه هي حقيقة الأمر في العالم العربي حاليا. بل إن الظلامية الأصوليّة تنتقل عدواها الآن إلى الجاليات العربية المغتربة في بلدان الحضارة الأوروبية المستنيرة. والسيد هارون يحي يريد إعادتها إلى الأصوليّة غير مكتف بتدجين الأجيال في عالمنا الإسلامي المليء بالفضائيات الظلامية حاليا. فهو يريد أن يمد سلفيته الظلامية لكي تشملنا نحن العرب والمسلمين العائشين في أحدث وأرقى المجتمعات البشرية! وهذا ما لن تسمح به دول الاتحاد الأوروبي أبدا. فهم لم يناضلوا طيلة عدة قرون للتخلص من أصوليّتهم المسيحية لكي يقبلوا الآن بأصوليّة أخرى لا تقل شراسة وعدوانية إن لم تزد. ولكن المشكلة الآن لا تقتصر على الأصوليّة الإسلامية وإنما نكبنا بأصوليّة أخرى ذات إمكانيات هائلة: هي الأصوليّة البروتستانتية الأميركية. وبالتالي فان العلمانيين العرب والأوروبيين والأمريكان مدعوون لمواجهة الهجوم الأصوليّ على جبهتين لا على جبهة واحدة. وربما اضطررنا إلى رفع الشعار التالي: يا علمانيي العالم اتحدوا في مواجهة: يا أصوليّي العالم اتحدوا! | |
|