هل
يفكّر المسؤولون السياسيون في المصلحة المشتركة عندما يتحدّثون عن "تخليق
الرأسمالية"؟ فهم يرون بلا شكّ أنّه يجب عليهم، قبل كل شيء، من أجل
المحافظة على مصداقيتهم، أن يهدِّؤوا من سخط الناس: من المفروض أن تلعب
الدولة الديمقراطية، دور الطرف الثالث، أو دور الوسيط، بين الأقوياء
والضعفاء. غير أنّه، حتى في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث نجح إشهار
انتخابيٌّ حاذق في جعل الفقراء يصوّتون ولمدّة طويلة لصالح الأغنياء (وهو
نجاح أفرز بعض النظائر في أماكن أخرى)، جاءت الأزمة لتذكّر بوجود هوّة
تفصل بين الطرفين.
هل يجب ترجمة البحث عن المصلحة المشتركة إلى عملية تخليق للرأسمالية"؟
قد يكون هذا، حلا وسطا- مناسبا بعض الشيء- بالنسبة للفاعلين الاقتصاديين.
وعلى غرار تفضيلنا للـّون الأخضر(تعاطفا مع البيئة)، لماذا لا نبدي أيضا
"تواصلا" وتعاطفا مع الخاصية "الأخلاقية" للمؤسّسة حتى ولو كلّفنا ذلك
تقديم بعض التنازلات؟
وبقدر ما يسيء الخطاب الأخلاقي تقدير علاقات القوى، فإنه يلعب دوره،
ولو عفويا، ضمن ما من شأنه أن يحجب (حقيقة هذه العلاقات)، أي إنه يلعب
دوره في الإخراج المسرحي للعقلانية. فالتجمعات الاقتصادية والمالية الكبرى
تشكّل قوى وسلطات، وعلينا أن نعمّم فكرة "مونتسكيو" الكبرى حول تحديد سلطة
السلطات لتشمل العلاقات بين السياسة والاقتصاد. كل سلطة تنزع طبيعيا إلى
التموقع والانتشار، وما من سلطة في مقدورها رسم حدودها بنفسها. لا تستطيع
الحدّ من قوّة إلا قوّة أخرى تقابلها. لقد وصف عدد من الاقتصاديين، في
الأشهر الأخيرة، ما يجب فعله لإصلاح الرأسمالية. ولم يبق سوى تجميع القوى
لإنجاز ذلك الإصلاح. وهذا أمر على غاية من الصعوبة، لاسيما وأن الانتصار
الأكبر للسلطة الاقتصادية تمثل في جعلها السياسيين يعتنقون عقيدتها
المهيمنة (اللبرالية).
يمكننا النظر إذن للعلوم الاقتصادية بصورة عامة، وللعقيدة اللبرالية
الجديدة بالخصوص، كعملية إخراج مسرحي للعقلانية. فعندما يكون هذا الإخراج
جيّدا ومقنعا، فإنه ينجح في أن ينسينا علاقات القوى ورغبات التسلط
(الحقيقية).
لقد تبين، كما رأينا، أن الإيمان بقدرة الأسواق المالية على تعديل
نفسها بنفسها هو ضرب من الوهم تماما. لكن، إذا كان الدور الذي أعطي له في
النظرية الاقتصادية لا يزال محل نقاش، فإن هناك دورا آخر لا تتكلم عنه
النظرية، في حين أنها بصدد القيام به على أحسن وجه: إنه إقناع الفاعلين
الاقتصاديين (خاصة الأقوياء منهم) وإن أمكن رجال السياسة، بأنه ليس من
الضروري الاهتمام بالمصلحة العامة والانشغال بالمدى الطويل. يكفي أن
نسلـِّم مصائرنا لليد الخفية: أي للعناية (الإلهية) الطبيعية التي تتكفل
تلقائيا بتحقيق المصلحة العامة. و(هكذا) تحت مظاهر العقلانية، يترك
التفصّي من المسؤولية، المشجّع بمثل تلك الطريقة، الحبل على الغارب
للأقوياء.
الرغبة في "رولكس"يُستعمل الإخراج المسرحي للعقلانية لتثبيت صورة الفرد الشفاف تجاه نفسه
وصورة الإنسان العارف في عالم الأشياء. إن ما يتحتم إخفاؤه ومنع تجلـِّيه
هو أن البشر، حتى في قلب الحسابات الاقتصادية، يبقون في نزاع دائم مع
بعضهم البعض، فهُم، في إطار تلك التفاعلات، ليسوا بتلك الشفافية التي
يريدون أو يعتقدون أنهم عليها.
في واقع الأمر، إنّ الثقة وسوء الظن والرغبات والأهواء وكل هذه الأشياء
لا تقل أهميتها، في مجال الأعمال، عن أهميتها في الحياة الخاصة، التي نروم
حصر الانفعالات داخلها. نقول نعم للحسابات والأرقام والإستراتيجية
الدقيقة، لأنها أدوات (عمل)عقلانية. لكن، ماذا عن الغايات؟ لا تحتوي
الرغبة في الإثراء على ذرة من عقلانية. فالمسألة تتعلق بانفعال، هذا إذا
ما أخذنا كلمة "انفعال" بمعنى كل ما يرتبط برغبة الوجود وبرغبة التحصل على
مكان ضمن الآخرين، مكان جيّد إن تيسّر الأمر. إنها رغبة ُ طفولةٍ تتواصل
زمن الكهولة. رغبة امتلاك ساعة يدوية - "رولاكس" - على سبيل المثال.
وبالرغم من ذلك، فرغبة الوجود ليست بالضرورة عديمة الفائدة. إنها الشاهد
على كونيّة قوة الحياة التي تحركنا وهي بذلك تستحق منا كل الاهتمام.
رغبة الحياة ليس لها محتوى تحدده جيناتنا، فليس لها موضوع يقابلها
وتجيب عليه كما يجيب الماء عن العطش. هذا ما يجعل منها رغبة بلا موضوع
وبلا حدود. ويجعل من حبّ المال الأمرَ الأكثر شيوعا بين الناس: فالمال هو
تلك المادة التي توجد بكميات غير محدودة والتي بواسطتها نستطيع أن نشتري
كل ما نريد.
ما عدى أنه ليس بمادة في الحقيقة، بل ثمرة ثقة متبادلة، سائلٌ وجوده
مرتبط بشرط كونه يُتداول (يسيل). لذلك السبب، نجد أن اللهفة على المال
تدمّر الثقة وتجفف عملية التداول. إن وُجدت حقيقة ٌ أنارتها لنا الأزمة،
فهي هذه. وقد سبق للاقتصادي "فريديريك لوردون" أن أخذ على محمل الجدّ
تماما، سنة 2003، هذا الإفراط في حبّ المال. وفي السنة الموالية أصدر كلّ
من "ميشال أغلياتا" و"أنطوان ريباريو" كتابا بعنوان: انحرافات الرأسمالية
المالية Dérives du capitalisme financier .
فأي صدًى لاقاه هؤلاء الكتاب؟ رغبة الحياة التي سلكت طريق الجشع والنهم
أصبحت انسلابا أعمى، وطريقة عيش أو وجود لا يمكن التخلص منها. فمن انقاد
إلى الإفراط والمغالاة، سوف يحيا التوجه نحو أسلوب عيش أكثر اعتدالا
كانخفاض في المقام وانتقاص في مستوى العيش. اسألوا الوسطاء (traders)
التائبين (أو المسرّحين): سوف يخبرونكم عن استلاب قوي كان يشدهم إلى تتابع
الأرقام على شاشة الحواسيب وإلى المال الذي أصبح في نفس الوقت، على غرار
ما جرى لـبطل رواية "اللاعب " لدوستوفسكي، ( Le joueur" de Dostoievski" )
كل شيء ولا شيء.
هناك درس آخر نستنتجه من الأزمة: إن شعور المرء بكونه يشكل دولابا ضمن
الآلة (الاجتماعية) الكبرى، يغذي فيه شعور الإحساس بالشرعية. لأنه كلما
انتشرت طريقة عيش وتشارك فيها الناس، بانت للذين اعتمدوها وكأنها مبرَّرة.
إذا ما انحرفت مع الآخرين، فلن يكون لديَّ وعي بأني قمت بأدنى انحراف.
كذا يكون الأمر، حتى لو استشاط جشعي، تحت وطأة المنافسة والمحاكاة.
فالفرد يعيش المحافظة على موقعه ضمن الجماعة كتبرير. إن المهم في هذه
اللعبة، هو أن يكون الخاسرون، مهما كان عددهم والخسائر التي تلحقهم، خارج
حلقة المتكاتفين جنبا لجنب.
الكاتب: "فرنسوا فلاهو" François Flahault
فيلسوف ومدير أبحاث بالمركز الوطني للبحث العلمي الفرنسي. آخر مؤلفاته:
" Le Crépuscule de Prométhée. Contribution à une histoire de la démesure humaine ", (Mille et une nuits, 2008)
نشر المقال بصحيفة "لو مند" بتاريخ 04-04-
الخميس أكتوبر 06, 2011 4:55 am من طرف بن عبد الله