الجائزة والقدس
عبد الحليم قنديل
2011-07-03
في الهواء الطلق، وفي أجواء إبهار سينمائي، وفي حفل
تنقله شبكات التليفزيون الإيطالي الكبرى، وعلى مسرح تتراقص عليه الأضواء
الناعمة، كان الفائزون بجوائز 'أمالفي' للصحافة يأخذون أدوارهم، صعد
الصحفي البريطاني الشهير روبرت فيسك ليتسلم جائزة الصحافة الأوروبية،
وصعدت أنا بعده لتسلم جائزة صحافة البحر المتوسط.
'أمالفي' مدينة
صغيرة في جنوب إيطاليا، وهي من مدن العمر الطويل، فقد قامت فيها حركة تمرد
ثورية مبكرة جدا، وأقيمت فيها أول جمهورية في التاريخ الإنساني، وهذا هو
سر اختيارها، وقرن اسمها بجوائز صحافة وميديا جرى استحداثها، وتوزيعها في
مهرجان قومي سنوي يقام برعاية الرئيس الإيطالي، وبلجنة تحكيم من رؤساء
تحرير الصحف ووكالات الأنباء وشبكات التليفزيون الكبرى، وبطابور من
الفائزين أغلبهم إيطاليون وإيطاليات، فيما جرى تخصيص جائزتين للقسم
الدولي، فاز فيسك بإحداهما، وفزت أنا بالأخرى، وقد كان فوزي مع فيسك هذا
العام قيمة مضافة زادت اعتزازي بالجائزة.
وبالطبع، فلم أتقدم إلى
هذه الجائزة، ولا إلى غيرها، فأنت تعرف سيرة الجوائز في عالمنا العربي
بالذات، وما هي عليه من قلة القيمة المهنية، ثم أنني فضلت دائما سعيا آخر
إلى كسب ثقة سيدنا القارئ، وحصلت منها والحمد لله على ما يكفي ويزيد، كانت
الثقة والمحبة هي زادي ورأسمالي وكنزي، وقد نالني منها ما يكفي لصنع مجد
ألف صحفي وكاتب، ولم أكن أعرف شيئا عن جوائز 'أمالفي'، بل ولم أكن أعرف
حتى موقع هذه الـ 'أمالفي' على خرائط الجغرافيا، وفوجئت باتصال تليفوني
أوائل آذار/مارس 2010، كان المتصل صحفي إيطالي وناقد كبير اسمه جوليانو
ديريزي، قال أنه عرف عن سيرتي من صحفي تونسي يعمل في إيطاليا اسمه صالح
مثناني، كان الأخير قد التقاني في القاهرة قبلها بأيام، وفهمت مع اتصال
جوليانو بقية القصة، وفيها أن مثناني وديريزي صديقان، وأن حماس مثناني
انتقل إلى جوليانو ديريزي، وأن الأخير يملك حق الترشيح لجائزة 'أمالفي'،
فهو عضو بارز في لجنة التحكيم، وبعد الترشيح وصلني الخبر اليقين، من
جوليانو أولا، ثم من مؤسسة الجائزة نفسها، فقد تم قبول ترشيحي بالإجماع،
وعلى موقع الجائزة الرسمي، ظهرت الأسماء الفائزة بجوائز 2011، بدت الأسماء
كلها إيطالية، وباستثناء اسمي واسم روبرت فيسك، ومع الأسماء برنامج
المهرجان السنوي الذي جرى هذه المرة يومي 17 و 18 حزيران/يونيو 2011.
كان حفل تسليم الجوائز هو مشهد الختام في برنامج اليومين، ولم أكن أدري
أنها رحلة من نوع خاص جدا، طلبوا مني أن أختار مرافقا، واخترت إبني البكر
محمد مهندس الكومبيوتر في شركة عالمية كبرى، وأخذتنا تذاكر السفر ورحلة
الطيران المركبة إلى مكان يشبه الجنة، زرقة البحر المتوسط تصادفك أينما
وليت وجهك، وتعانق زرقة السماء الصافية، لوحة طبيعة فاتنة رسمتها ريشة
الخالق سبحانه، بيوت بيضاء نائمة في حضن تلال صفراء، وخضرة متدرجة على
منحدر التلال إلى زرقة البحر، والوجوه الحسنة كما تعلم، ومن حفل استقبال
إلى جولة سياحة، ومن صفاء شمس حانية إلى انتعاش ليل ساحر، وإلى بهجة أول
لقاء مع روبرت فيسك، والذي فاجأني بأنه يعرفني جيدا من خلال شاشة قناة
'الجزيرة'، وراح يقرأ عناوين كتبي الملتهبة بلغة عربية مكسرة، وشكرته أنا
بإنكليزية مكسرة، فيما راح ابني محمد ـ بإنكليزيته الأفضل يواصل الحوار مع
فيسك وزوجته الشابة، كان اللقاء على باب الفندق ثم في حفل الاستقبال، وإلى
أن التقينا مرة أخرى في حفل تسليم الجوائز، كان فيسك يبدو ضائقا
بالإيطالية المفرطة في المراسم، وإلى حد يندر معه أن تجد إيطاليا يجيد
الإنكليزية، ثم أن المطبوعات كلها باللغة الإيطالية وحدها، كان ضيق فيسك
مفهوما، وكان ضيقي أشد، فلا أحد هناك يفهم حرفا في اللغة العربية، والشخص
العربي في جنة أمالفي وما حولها غريب الوجه واليد واللسان، كانت الحفاوة
عظيمة، لكن غربة اللغة مضاعفة، وأنت مضطر للتواصل بما تيسر من اللغة
الإنكليزية، وإلى أن صادفت إمرأة تقتحمني باللغة العربية وبالعامية
المصرية، كانت 'ماريا' سعيدة لأنها وجدتني، فقد سمعت عن اسمي كأول صحفي
مصري يفوز بالجائزة، هتفت 'ماريا': وأنا كمان مصرية وبنت خواجه، ولدت
'ماريا' في حي المعادي القاهري، وتركت مصر وهي طفلة، تركتها قبل نصف قرن،
وحفظت لغتها من الزوال بالعمل في سفارات عربية بروما، وتزوجت من مسئوول
إيطالي كبير، بدت سعادتها طفولية غامرة برؤيتي كمصري، وبدا انفعالها طافحا
بحمرة الحماس، وهي تسأل عن مصر وأحوالها وناسها، وعن الثورة المصرية وما
تصادف، وعن حلمها في العودة لمصر العائشة في أحلامها.
وفي حفل تسليم
الجوائز، عاد كل شئ إيطاليا صرفا، فقد اختفت 'ماريا'، وظهرت ميلي كارلوتشي
على المسرح، ميلي كما فهمت مممثلة سينما إيطالية شهيرة، وتعمل مقدمة برامج
في شبكة تليفزيون 'راي'، ووقع عليها الاختيار لتقديم الحفل، وحين جاء دور
فيسك ثم دوري، فقد كانت مهمتها مضاعفة، تسألنا بالإنكليزية، وتسمع الجواب
بالإنكليزية ذاتها، ثم تنقل السؤال والجواب إلى الإيطالية لشهود الحفل،
وللمشاهدين في البيوت، تضايق فيسك قليلا لتعطل مفاجئ في الميكروفون، وهو
ما لم يحدث معي لحسن الحظ، بدا الحوار القصير كغيره من حوارات خاطفة
أجرتها معي قنوات تليفزيون إيطالية أخرى، وضحكت ميلي كارلوتشي من قلبها،
وهي تسمع جوابي الأخير، كانت تسألني عن سيرة صدامي الطويل مع نظام مبارك
المخلوع، وعن صنوف الترويع والتجويع التي لقيتها كصحفي معارض بشدة، ولم
أحب أن أتذكر مواجع، ولا أن أكشف عن جراح عشر سنوات خلت، بدأتها كأول صحفي
مصري يكسر الخطوط الحمراء، ويضع الرئيس وعائلته في عين العاصفة، ويتنبأ
بالثورة التي خلعت الديكتاتور، تركت التفاصيل جانبا، وقلت لميلي كارلوتشي
ما يلي كاختصار للقصة كلها، قلت لها: كان الناس ينظرون لي في البداية كرجل
مجنون، وبعد الثورة اختلف الأمر، وصاروا ينظرون لي كنبي، وأنا لم أكن
مجنونا ولا صرت نبيا.
نعم، لم أكن مجنونـــــا ولا صرت نبيا، ومن
أول يوم بدأت فيه الحملة المتصلة ضد حكم مبارك وعائلته، وقد شاءت
المصادفات البليغة أن يحدث تواقت عجيب، فقد بدأت حملتي الصحفية والسياسية
ضد مبارك بمقال نشر في تاريخ 18 حزيران/يونيو 2000، وفي 18 حزيران/يونيو
أيضا، وبعــــد 11 سنة بالتمام والكمال، تلقـــيت جائزة 'أمالفي' للصحافة
الدولية، ويحيــــثيات كان جوهرها عملي الصحفي ضد مبارك ونظامه إلى أن
سقط، وفي صحف 'العربي' و 'الكــــرامة' و 'صوت الأمة' التي ترأست تحريرها
تباعا، وطوردت فيها جميعا، وبضغط داهس من بيت الرئاسة ومباحث أمن الدولة،
وإلى أن جرى منعي تماما من الكتابة والعمــل في مصر خلال سنوات الديكتاتور
الأخيرة، وفي لحظة العصــــف، كانت 'القدس العربي' تمــــد إلي يدها
بمبادرة كريمة من رئيس تحــــريرها الأستاذ عبد الباري عطوان، وتفتح لي
صفحاتــــها، وتمنحني فرصة التنـــفس والكتــــابة ومواصلة الحرب، وإلى أن
قامـــت الثورات، وجاءت جوائز الأقدار.