موريس
غودلييه (Maurice Godelier) أنّاس فرنسيّ معروف على المستوى العالمي، عاش
بين عامي 1967 و 1988 عند قبيلة بارويا (Baruya) التي تتّخذ مرتفعات غينيا
الجديدة موطنا لها. وقد أنجز عددا من البحوث الميدانيّة اتّخذت القبيلة
المذكورة موضوعا لها، إضافة إلى قيامه ببحوث في عدد من المجالات
الرّئيسيّة للإناسة كان آخرها "التّمييز بين الأشياء التي علينا منحها،
وتلك التي تباع، وتلك التي لا يمكننا بيعها ولا منحها". وقد ارتبطت معظم
أعماله البحثيّة بالمسألة الاقتصاديّة، فقد نشر سنة 1966 في باريس كتابا
ضخما حول هذه المسألة تحت عنوان " العقلانيّة واللاّعقلانيّة في الاقتصاد"
(Rationalité et irrationalité en économie)، وهو العمل الذي وجد امتدادا
له من خلال عدد من الكتب (*). ونحن نقدّم هنا للقارئ العربيّ حوارا أجراه
معه عالم الاجتماع جان فرانسوا بيرت (Jean-François Bert) (**) سنة 2007
ونشر في نفس السّنة بمجلّة "الرّواق" (Le Portique) الفرنسيّة في عددها 19
الذي كان محوره "فلسفات المال" (Philosophies de l’argent).
****
أودّ أن أبدأ
محاورتك باستعادة أحد الأسئلة التيّ كانت سنة 1958 أساسا لبحوثك:" ماذا عن
المنطق الخفيّ للنّظم الاقتصاديّة وعن ضرورة انبثاقها، وتجدّدها أو
اختفائها في مسار التّاريخ"؟ كانت المسألة التي واجهتها بعد حصولي على التّبريز في الفلسفة أن
أحدّد ماذا عليّ فعله مستقبلا. لم يكن لديّ آنذاك أيّ نيّة لأقضي حياتي
كلّها مدرّسا للفلسفة في مدرسة ثانويّة، كما لم أكن أريد قضاء عمري في
التّفلسف حول الفلسفة. وحين سألتني هيئة المدرّسين غداة امتحان التّبريز
عمّا أنوي فعله بشهادتي - وهو ما فاجأني قليلا- أجبت بأنّني لا أنوي تدريس
الفلسفة وأنّني أريد أن أتعلّم شيئا آخر حتّى أتفلسف بشأنه. ولقد تردّدت
آنذاك بين ثلاثة احتمالات. إمّا العودة إلى دروس الطبّ، وكنت حينها شديد
التأثّر بأعمال ج. كانغيلهام (Georges Canguilhem) حول السويّ والمرضيّ،
أو التوجّه نحو الرّياضيات لأنّني تتلمذت على يد مدرّسين مثل ديزانتي
(Jean-Toussaint Desanti). إلاّ أنّ التزامي السّياسي قادني نحو مسألة
أخرى، هي الاقتصاد. وعلى أيّة حال، فقد منحت سنة واحدة للدّراسة بمدرسة
المعلّمين العليا لتنمية معارفي حول هذه المسألة. إلاّ أنّني توقّفت عن
ذلك بعد ثلاثة أشهر بعد أن فاق الأمر تحمّلي. لقد كان يطلب منّا شراء
مطبوعات مستنسخة واستظهار دروس كينز عن ظهر قلب حتّى نتحصّل على عدد 12 من
20 في الحصّة القادمة. لذا، أوقفت كلّ شيء ومكثت في المنزل وقرّرت أن أفعل
كما لو أنّي في المدرسة العليا، أن أقرأ كينز على غرار ما سبق أن فعلت مع
كانط، على سبيل المثال. لقد قرأت الكثير من كتب الاقتصاد وحول الاقتصاد،
وبدأت قراءة رأس المال. وقرّرت أيضا الانخراط بشكل متزامن في مركز
الدّراسات والبرمجة الاقتصاديّة (CEPE) حيث وجدت نفسي لمدّة سنة رفقة طلبة
المركز وخرّيجي كلّية العلوم التقنيّة (polytechniciens) الذين سيصبحون
موظّفي دولة. وقد غرقت وقتها تماما في النّماذج النّظريّة والصّيغ
الرّياضيّة. وقد تميّزت تلك الفترة بوجود مواجهة مستمرّة في مجال الجدل
الاقتصاديّ النّظريّ، بين الاقتصاد اللاّمركزي، أي اقتصاد السّوق بما
يفرضه من ضغوطات وجمود، والاقتصاد المخطّط الذي يسعى عكس ذلك إلى تحقيق
الأفضليّة من خلال التّمركز. وقد كان السّؤال الذي طالما طرحته على نفسي
باعتباري فيلسوفا، وقد كنت فيلسوفا وكذلك مناضلا، هو ما إذا كنّا قادرين
على إثبات تفوّق نسق على آخر. لقد كنت أطرح مسألة عقلانيّة النّظم
الاقتصادية (1).
لقد كسبت الجولة النّظريّة لمقاربتك حول الاقتصاد، ولكنّني أرى أنّ مواجهتك مع هذه المسألة كانت أكثر ذرائعيّة؟ بالفعل، بعد سنة من المناقشات المستمرّة- خاصّة التي طالت أعمال
بتلحاييم (Charles Bettelheim)- عرض عليّ أن أذهب بصفة خبير في اليونسكو
لدراسة تأثيرات الخطّة الاقتصاديّة الحكوميّة على الاقتصادات القرويّة في
مالي. وقد كان ذلك البلد قد مرّ لتوّه نحو الاشتراكيّة الإفريقيّة، وتحوّل
بالتّالي إلى تخطيط اقتصاده وتنميته. وبذلك وجدت نفسي لمدّة سنة في مالي
لدراسة الخطّة، ولكنّني كنت قد غيّرت وجهة نظري حول الاقتصاد قبيل
الالتحاق بمالي، إذ غدوت أقلّ اهتماما بالمناقشات الكبرى الجارية بين
الاشتراكيّة والرّأسماليّة، مقابل اهتمام أكبر بالمجتمعات الحيّة المنخرطة
في الرّأسماليّة أو في الاشتراكيّة. وفي نهاية المطاف، اتّخذت أعمالي
توجّها تاريخيّا إناسيّا كان عفويّا بدرجة كبيرة، ونجحت بذلك في تجاوز
المناقشات الكبيرة والانتقال نحو تحليل النّظم الما قبل رأسماليّة
المنخرطة في الرّأسماليّة، وترسّباتها وتحوّلاتها، وكذلك النّظم غير
الاشتراكيّة المنخرطة في النّظام الاشتراكيّ الآخذ آنذاك في التمدّد. لقد
كنت في أفريقيا بنيّة دراسة تأثيرات خطّة اقتصاديّة على حياة الجماعات،
لأجد نفسي بصدد تحليل الكيفيّة التي يؤثّر بها الاقتصاد الرّأسماليّ على
البنى المحليّة، تلك التي لم تكن في البدء رأسماليّة قطّ. وقد كان هذا
النّهج إناسيّا بمعنى أنّ ما أثار اهتمامي في المقام الأوّل هو تلك
المجتمعات المحليّة المدرجة في نظام شامل، والتي ما زالت تحتفظ بمعالم من
نظمها الاقتصاديّة السّابقة. وقد كانت مالي تستجيب بصفة كبيرة نسبيّا لهذا
التّساؤل الإناسيّ الاقتصاديّ، أي للمقارنة بين النّظم. وقد لاحظت مع ذلك،
أنّ وجود وزارة للتّخطيط ووزير للتّخطيط لم يكن يعني بالضّرورة وجود خطّة.
وعلى أيّة حال، فقد قرّرت بعد هذه التّجربة، أن أكتب حين عودتي كتابا حول
موضوع ومنهج الإناسة الاقتصاديّة. وقد استثمرت ذلك العام في قراءة مقالات
كثيرة، أغلبها أنكلو- سكسونيّ، بشأن هذه المسألة الاقتصاديّة (2) التي لم
تكن تهمّ في حقيقة الأمر في فرنسا إلاّ شخصين فقط. كان هناك مياسّو
(Claude Meillassoux) من جهة أولى، وكان حينها في شيكاغو، وهو أوّل من
أنشأ إناسة اقتصاديّة لشعب الغورو (Gourou) (3)؛ وكان هناك بروديل
(Fernand Braudel) من ناحية أخرى، وقد قابلته بمحض الصّدفة قبل أن يعيّنني
رئيس أبحاث ثمّ بعدها بسرعة أستاذا مساعدا لتدريس الإناسة الاقتصاديّة.
ولا أشكّ في أنّه كان يعتبر هذا المنظور أمرا جديدا ومثيرا للاهتمام.
إنّها نفس الفترة التي التقيت فيها كلود ليفي ستروس (Claude Lévi-Strauss). كنت قد حضرت إحدى ندوات كلود ليفي ستروس، للاستماع إليه أوّلا. وكان
قد نشر للتوّ كتاب الفكر البرّي (la Pensée sauvage)، وتحدّث في ندوته حول
البراكسيس والبنى وبنية البنى، إلخ، وأشاد كثيرا بأسبقيّة البنى
التّحتيّة. وحين التقيته أوّل مرّة، قال لي بلغة ماركسيّة، ربّما لكي
أفهمه، أنّه بحاجة إلى شخص مثلي يدرس البنى التّحتيّة، إذ هو متخصّص في
القرابة والدّين، أي في البنى الفوقيّة. وقد غادرت مكتب ليفي ستروس وأنا
أحمل هذه الصّفة: "أنّاس اقتصاديّ متخصّص في البنى التّحتيّة"، وهو ما كان
بحقّ مثيرا. وقد مكّنتي هذه الإناسة من الاهتمام بتحوّلات الاقتصاد،
وخاصّة بالتغيرّات الاجتماعية المرتبطة بخطط التّنمية. لقد كانت إناسة
موجّهة مباشرة نحو الحياة اليوميّة للنّاس، وتحاول فهم مشاكلهم المتعلّقة
بالتّراكم، والاستغلال، والهيمنة…
وحين غادرت بعد وفاة مطرو (Alfred Metraux) نحو غينيا الجديدة عند
قبائل بارويا، بناء على نصائح ليفي ستروس، أدركت على الفور مدى تعقّد نظم
القرابة. ولم يقع اختياري لقبائل البارويا إلاّ لأنّ عددهم كان 1600فرد،
وهو ما يعني أنّه ما يزال بإمكاني تقريبا معاينة أحوالهم حالة حالة. وقد
علمت أيضا بأنّهم يصنّعون الملح وكنت أحلم بالعملات البدائيّة. وأخيرا،
فإنّ التّفسير الأخير الذي يمكن أن أبرّر به خياري هو تمكّن هذه الجماعة
من مقاومة الرّجل الأبيض لفترة طويلة، فقد كان البارويا مقاتلين أشدّاء.
وهكذا بدأت بإنجاز عمل ضخم في الإناسة الاقتصاديّة لم ينشر بعد. وقضيت سنة
كاملة في الحقول وأنا أقيس 560 حديقة، بجميع أجزائها متسائلا عمّن يعمل مع
من، ومن أجل ماذا، ومن الذي يملك الحقّ في الأرض، ومن استصلحها أوّلا. وقد
كان عملي الميدانيّ مركّزا بشكل رئيسيّ حول الإناسة العاديّة وكان عليّ
الاهتمام بجميع جوانب حياة هؤلاء النّاس. وقد يكون الفرق مع المقاربات
الإناسيّة الأخرى يكمن في قيامي بمسوحات كبيرة منتظمة. وقد سمح لي البقاء
في تلك الحدائق لمدّة عام كامل وأنا أقيس قطع الأرض قطعة قطعة بالخصوص،
بأن أكون في قلب الاشتغال اليوميّ لمجتمع البارويا. فما من يوم إلاّ ويشهد
حدثا جديدا: سقوط رجل من على شجرة، نوبة من الغيرة…
وبما أنّني قمت أيضا بدراسة نسابة البارويا، فقد غدت في حوزتي مادّة
هائلة يمكنها أن تتقاطع مع دراسة الحدائق، ووقت العمل، وعملات الملح.
وكانت فكرتي تتمثّل في الجمع بين هذه السّلاسل من المعلومات وإحداث
تقاطعات بينها، مثل ملكيّة الأرض (من يعمل مع من، وحقوق الاستخدام)،
وعلاقات القرابة، والإقامة … وبذلك يمكنني الإحاطة بالفرد من خلال مواقع
وجوده المتعدّدة، خاصّة في ظلّ وجود معنى لما يقيمه من علاقات. وعندما
عدت، كتبت في ظرف ثمانية أسابيع كتابي (إنتاج الرّجال العظماء). ولم يكن
لديّ آنذاك رغبة في كتابة مونوغرافيا للبارويا على ما جرت به العادة، أي
تناول الاقتصاد، والقرابة، والدّين. لقد عدت وأنا مقتنع من النّاحية
العلميّة والوجوديّة بأنّ أهمّ ظاهرة تنتظم سلوك النّاس هي شيء آخر:
الهيمنة الذّكوريّة.
أيّ من بين جميع
العلاقات الاجتماعيّة، تلك التي تصنع مجتمعا؟ ولم لا تكفي العلاقات
الاقتصاديّة، كما يبدو من تحاليلكم، لإنتاج قاعدة مشتركة بين الفئات
الاجتماعيّة قادرة على صهرها لتجعل منها مجتمعا؟
لقد أصبحت أدرك على نحو متزايد من خلال عملي اليوميّ، أنّ النّظام
الاقتصاديّ لن يشرح لي نظام القرابة. ففكرة ليفي ستروس حول وجود تطابق بين
نظامي الإنتاج والتّوالد الاجتماعيّ، مثل القرابة، لم أجدها بين البارويا.
وبالمثل، فإنّ ما يبحث عنه الأنّاسون الماركسيّون من تطابق بنيويّ بين بنى
القرابة وبنى نمط الإنتاج، لم أجد له أثرا أيضا في غينيا الجديدة. وكنت
كلّما تقدّمت في البحث ازددت اقتناعا بأنّ الاقتصاد لا يمكن أن يفسّر لي
تشكّل المجتمعات. يوجد شيء أكثر جوهريّة يخترق جميع الممارسات، جميع حركات
الوجود، ويعطي معنى لمكانة الرّجال والنّساء في مختلف المجالات
الاجتماعيّة، وبنفس القدر أيضا داخل المنازل. لقد كانت منازل البارويا
مقسّمة بطريقة غير منظورة إلى مجالين اثنين: النّساء بالقرب من باب
المنزل، والرّجال في آخره. وبالتّالي، فإنّ العلاقة الاجتماعيّة التي يمكن
أن تفسّر الظّواهر الاجتماعيّة الجارية تحت بصري هي العلاقة بين الرّجل
والمرأة، وهي علاقة هيمنة. فالمؤسّسة التي كانت توجّه وتشغّل في كلّ لحظة
تلك العلاقات هي المسارّات. وقد قادني التّفكير إلى إدراك أنّ الاقتصاد
بالخصوص لا يمكنه أن يفسّر لي هيمنة الذّكور، ولكن هيمنة الذّكور يمكنها،
وهنا المفارقة، أن تساعدني في تفسير مكانة المرأة، والإنتاج… فما يكسب تلك
العلاقات معنى هو في نهاية المطاف وبصفة دائمة العلاقات السّياسيّة
الدّينيّة. وبالمثل، فإنّ علاقات القرابة لا يمكنها أن تفسّر لي وحدة
البارويا. وقد رأيت، على وجه الخصوص، أنّ القرابة رغم تبادل النّساء غير
قادرة على توحيد الجميع في شبكة تضامن. فالقرابة مثلها مثل الاقتصاد، لا
يمكنها إدراج الجميع في نفس الشّبكة. وحقيقة عدم تمكّننا من تفسير كلّ شيء
من خلال الاقتصاد أو القرابة، أو من خلال الدّين أيضا، يعني أنّ تلك
المجتمعات هي بالفعل معقّدة. فما كان يتلاشى تدريجيّا خلال عملي الميدانيّ
عند البارويا هو مفهوم وجود تطابقات بنيويّة بين مجالات الحياة. ولقد كان
المنهج الإناسيّ الذي اعتمدته في ذلك الحين قائما بالدّرجة الأولى على فهم
وتفسير كيف تشكّلت، بشكل مؤقّت وبصفة تدريجيّة، الوحدات الاجتماعيّة
والثّقافيّة للسكّان. وكانت تلك وجهة نظر من شأنها أن تنسف في نهاية
المطاف كلّ قراءة اختزاليّة، ولكن دون المساس بالتّعقيد الاجتماعيّ لما
يسمّى المجتمعات التّقليديّة.
وللدّخول في مسألة المال، أودّ أن أقترح عليك تعريفا يمكن أن يستخدم
أساسا لمناقشتنا. يبدو لي أنّ المال هو في نفس الوقت أداة قياس، وأداة
تبادل، وحامل للقيمة. بل هو قيمة القيم ذاتها، تلك التي تسمح في كلّ
الأحوال بقياسها. وهذا المنظور هو ما نجده بصفة خاصّة في تحاليل ماركس،
وهو الكاتب الذي تعرفه جيّدا. وأنا أستذكر بصفة خاصّة تلك العبارات
المقتبسة من "الصّيغة الأوّليّة للاقتصاد السّياسيّ: "المال هو الفساد
العامّ للفردانيّات الذي يحوّلهم إلى نقيضهم، بمنحهم صفات ليست فيهم على
الإطلاق… وبذلك يبدو كقوّة مفسدة. إنّه يحوّل الإخلاص إلى خيانة، والحبّ
إلى كراهيّة، والكراهيّة إلى حبّ، والفضيلة إلى رذيلة، والخادم إلى سيّد،
والذّكاء إلى غباء …".
فبعيشه في القرن التّاسع عشر، رأى ماركس من حوله الرّأسماليّة
الصّناعيّة وهي تبني الجبال والمصارف؛ وكان ذلك يتمّ، بمعنى ما، أمام
عينيه! ولم يكن البعد الماركسيّ للتّاريخ البشريّ، البعد الجماهيري
والعمّاليّ، هو البعد المفضّل من قبل التّاريخ. لقد كان التّاريخ في
المقام الأوّل تاريخ السّلالات الحاكمة والرّجال العظام، وتاريخ الأفكار،
وتاريخ الفنّ. ولم تكن حياة النّاس المتواضعين تذكر في كتب التّاريخ، لقد
صمت التّاريخ تماما بشأن كلّ هذا. وقد كان ماركس على حقّ حين جمع في
أعماله بين الجماهير، والعمل، والإنتاج واللاّمساواة في اقتسام الثّروات …
وتوجد عبارتان لماركس مثيرتان جدّا للاهتمام. فهو يستخدم على ما تسعفني
به الذّاكرة لفظ (entspringen)، فيقول إنّ "القرابة والسّياسة entspringen
(يخرجان أو ينبثقان) من علاقات الإنتاج". وهذا هو نموذج ألتوسير (Louis
Althusser) وغيره ممّن يرى أنّه إذا كنت تملك مفتاح أنماط الإنتاج، فأنت
تملك أيضا مفتاح القرابة. وقد استغلّ هذا المصطلح بتوسّع من قبل أحد أشكال
الماركسيّة التي كان لها وزنها في سنوات السّتينات والسّبعينات. ولكن هناك
مقولة أخرى لماركس يقول فيها تقريبا:"من السّهل فهم العلاقة بين الآلهة
وأحد المجتمعات، ولكن يجب على العكس، محاولة فهم حاجة المجتمع لتلك
الآلهة". إنّ ما كان يريد ماركس فهمه هنا هو قضيّة إنتاج تلك المثاليّات
التي تستخدم بعد ذلك، بكلّ تأكيد، في المجتمع ويكون من الممكن معاينتها.
وفي هذه الحالة المحدّدة، لا يبدو أنّ ماركس كان يقصد حتميّة انبثاق ذلك
من الاقتصاد، ولكن لماذا يتشكّل المجتمع في شكل محدّد. وفي نهاية الأمر،
فالآلهة جزء من المجتمع، أو بالأحرى وجه آخر للمجتمع. وللأسف ألاّ تكون
هذه الصّيغة هي المختارة !
لقد مثّلت إعادة الاعتبار للجماهير المنسيّة عموما في التّحليل، كما
فعل ماركس، وكذلك لمسألة المصالح الخسيسة والخفيّة عادة، قوّة كبيرة. لقد
كانت للماركسيّة قوّة فعليّة في المناخ الوضعيّ، قوّة إظهار التّناقضات في
الحياة وفي العلاقات الاجتماعيّة، قوّة إظهار وجود تضارب مصالح وعلاقات
قوّة. فتاريخنا ليس تاريخا ملائكيّا، بل هو بحقّ تاريخ قذر. وأنا أستحضر
هنا تلك الجملة الشّهيرة التي قال فيها ماركس إنّ البورجوازيّة مزّقت حجاب
العلاقات الاجتماعيّة الفيوداليّة حيث كان يسود الوئام بين السيّد والعبد.
وهذا يعني في الأساس أنّ الرّأسماليّة نفسها، بوصفها مجتمعا، اختزلت كلّ
شيء في مصلحة باردة، مخترقة بذلك حجاب الأوهام والمثاليّات كي تقود
العلاقات الاجتماعية إلى حظيرة العقل البارد للمصالح. ولا ننسى أيضا أنّ
ماركس كان يقول حين كان يتحدّث عن الفنّ، على وجه الخصوص، إنّه سيكون من
الغباء محاولة استنتاج عظمة الفنّ اليونانيّ، الذي سيظلّ خالدا على الأقلّ
بالنّسبة لنا، من الاقتصاد. كما يمكن لمنظور آخر أن يستخدم أيضا لتعريف
المال. يمكن للمرء حقّا أن يقرّر الانطلاق من الخيال ومن المواقف
المتعدّدة التي ينشرها المال. وواضح من هذا المنطلق، تجابه خطابين حول
المال في مجتمعاتنا. الأوّل يرى أنّ المال وسيلة تحرّر، بل ومرادف
للاستقلال، فيما يصرّ الثاني، عكس ذلك، على مظهره الاستعباديّ.
السّؤال الذي أودّ
طرحه عليكم، في محاولة للخروج من هذا المأزق، سيكون أوّلا معرفة ما إذا
كان تنقيد العلاقات الاجتماعية يحوّل، بصفة حتميّة، الحياة الاجتماعيّة،
ومن ثمّ ما إذا كانت توجد أشكال للعلاقات الاجتماعيّة متعارضة مع التّبادل
النّقديّ؟
يحمّل أولئك الذين يسعون إلى المال أو يستخدمون المال، مسؤوليّة تداعي
العلاقات الاجتماعيّة. ففي غينيا الجديدة، على سبيل المثال، نلاحظ اكتساء
بعض العلاقات الاجتماعيّة مثل الزّواج طابعا نقديّا. كما نلاحظ كيف يستبدل
السكّان المحليّون المنتجات المحليّة ببضائع يتمّ شراؤها من الأسواق. إنّه
اختراق السّوق لتبادلات لم يسبق أن كانت لها علاقة بالسّوق. ومهما كان
الحال، فإنّ النّاس هم الذين يقرّرون استبدال الأشياء التي لم تكن تنتج
ضمن علاقات تجاريّة، بأشياء لا يمكن حيازتها إلاّ في ذلك الإطار تحديدا.
ففي مرتفعات غينيا الجديدة، تهدى المرأة اليوم سيّارة تويوتا. إنّ الأفراد
هم الذين ينخرطون بأنفسهم في تلك العلاقات النّقديّة التي ليست، بالمعنى
الدّقيق للكلمة، علاقات رأسماليّة. فالعلاقة الرّأسماليّة تبقى علاقة نذهب
فيها إلى العمل في مزرعة للحصول على أجر. وهي كذلك حالة المنتج الصّغير
للبنّ الذي يقوم بمراكمة المال. وهذا هو الموقف الذي يعطي الانطباع، وهو
انطباع غير صحيح البتّة، بأنّ كلّ شيء يباع ويشترى. فنفس علاقات القرابة
تواصل فعلها، ولكن اعتمادا على عناصر ماديّة أخرى. ولقد احتجّ علماء
النّياسة الوصفيّة الأوائل لاحتمال وجود "مجتمع بلا مال"، أي مجتمع متحرّر
من القيود النّقديّة. عصر ذهبيّ، كما قال سرفانتس ذات مرّة، يجهل النّاس
فيه لفظي "ما لك" و "ما لي" (دون كيشوت ، الكتاب الثّاني، 11).
سمح لك عملك
الميدانيّ عند البارويا الذين كانوا يصنّعون ملحا نباتيّا بغرض استخدامه
عملة، ملاحظة الظّروف الاجتماعيّة والتّقنيّة لإنتاج تلك العملة المسمّاة
"بدائيّة"، وكذلك التّحوّلات السّياسيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة التي
يمكن أن تؤدّي إليها حالة استعماريّة. وأنا أستذكر هنا، على سبيل المثال،
دخول السّوق، التّنصير، وإيقاف الحروب القبليّة، وإلحاق جزء من الشّباب
بالتّعليم …
للوصول إلى ما يسمّى النّقود، بالمعنى الحديث للعملة، وهو ما يقتضي
مجال تطبيق شديد الاتّساع، فإنّ ذلك يشترط أن يكون جميع الأفراد والفئات
الاجتماعيّة معتمدا بعضهم على بعض من أجل العيش. فساعتي، ونظّارتي وجميع
ما أرتديه الآن، لست أنا من أنتج أيّا منها. لقد أنتجها لفائدتي أناس
غيري. لذا، فلكي يوجد نقد، لا بدّ من وجود شبكة من التّبعيّة الاقتصاديّة
والماديّة ممتدّة إلى حدّ ما. وهذا بالفعل ما يميّز النّقود عن العملات
البدائيّة المستخدمة في المقام الأوّل لإعادة إنتاج العلاقات الاجتماعيّة.
وإذا ما ترجمنا ذلك بلغة المصطلحات الحديثة، فإنّك إذا أعطيت (س) قوقعة
كبيرة مقابل (ص) من شيء، فسيكون لديك (س) على (ص) أي ما يعادل ثمنا، أو
سعرا. إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّنا بالضّرورة، في هذه الحالة، في اقتصاد
سلعيّ. فهذا الاقتصاد هو في المقام الأول نتيجة تعميم التّبادلات على نطاق
واسع بحيث لم يعد الأفراد والجماعات يحقّقون الاكتفاء الذّاتي مطلقا، ذلك
أنّ اعتماد كلّ فرد على جميع النّاس، سيؤدّي على العكس إلى اعتماد الجميع
عليه. بل إنّ علماء الإناسة الانكليز لا يتحدّثون دائما عن "عملات
بدائيّة"، ويفضّلون استخدام مصطلح "Valuable" أي الشّيء القيّم. وقيمة
الشّيء، هي القوّة التي يتضمّنها في ذاته، وهي أيضا القوّة التي يمكن أن
يمنحها للأفراد أو الجماعات في ما يسعون لإقامته أو ما يقيمونه من علاقات
مع الآخرين. وتوجد أشياء لا توهب ولا تباع. إنّه الشّيء المقدّس، الشّيء
الثّمين الذي يستخدم من أجل الزّواج، وهو ما يستخدم أيضا في دية القتيل
[…]. وهذه العملات البدائيّة ليست حقّا كعملاتنا: فتداولها يتمّ ضمن مجال
ضيّق، ولا يمكنها الانتقال من مجال إلى آخر، وهي خاضعة للعلاقات
الاجتماعيّة التي تُتداول في إطارها.
وإذا ما استعدنا حلم المجتمعات بدون مال، فإنّ ذلك سيعني وجود نوع آخر
من التّبادل أو غياب كلّ تبادل على الإطلاق. وهذا قريب من فكرة بول بوت
(Pol Pot) حين كان يريد إزالة المدن وإعادة جميع النّاس إلى الرّيف. لقد
كان يسعى لإقامة مجتمع من القرى المكتفية بذاتها، وهو ما لم يسبق أن وجد
من قبل أبدا! وهذه المواقف الطوباويّة والرّجعيّة، هي التي ولّدت أيضا
فكرة أنّ الغاية تبرّر الوسيلة - وهو ما لا يقلّ عن كونه اغترابا للفكر!
لقد عملت كثيرا
انطلاقا من أعمال مارسيل موسّ (Marcel Mauss) وخاصة مقالته حول الهبة.
ولعلّ نجاح هذه المقالة يعود إلى التصوّر الذي ابتدعه موسّ لنفسه حول
الاقتصاد.
تبقى هذه المقالة محاولة للتّفكير في اقتصاد آخر. وستبقى استنتاجاته،
على وجه الخصوص، مفيدة جدّا حول الكيفيّة التي عبّر بها عن أسفه لـ
"المنعطف" الذي اتّخذته مجتمعاتنا.
لقد بيّنت أيضا،
انطلاقا من موسّ، كيف أنّه لم يركّز تحليله إلاّ على الهبات والهبات
المستردّة في إطار صراعيّ من نوع البوتلاش (Potlatch) متجاهلا الدّور الذي
تقوم به أشياء معيّنة أخرى. ولعلّه سيكون من المفيد العودة إلى تصنيفك
للأشياء : أشياء قابلة للبيع على شكل سلع، وتلك التي تباع، ولكن يبقى فيها
شيء من مانحها، وأخيرا تلك التي لا يمكن بيعها أو إعطاؤها.
إنّ هذا التّحديد يشير إلى أنّه توجد في جميع المجتمعات ثلاثة أقطاب
هي مجالات للعلاقات الاجتماعيّة. فنحن نجد علاقات اجتماعيّة تتداول فيها
الأشياء كهبات. وفي هذا النّوع من التّبادل، فإنّ الشّيء لا ينفصل بتاتا
عن مانحه. كما نجد قطبا ثانيا يتضمّن جميع العلاقات التّجاريّة التي ينفصل
فيها، على العكس، الشّيء عن الشّخص الذي يبيعه أو يؤجّره. ويمكننا أن
نتحدّث في هذا الإطار عن تنقيد للعلاقات. ويوجد أخيرا قطب ثالث، هو
الأشياء التي لا نستطيع بيعها أو إعطاءها، وهي ترتبط بشكل خاصّ بمسألة
التّقاليد. وفي جميع المجتمعات، تجد لعبة المال نفسها منحصرة بين علاقات
اجتماعيّة تنتقل فيها الأشياء من جيل إلى جيل، ولا يمكن فيها للممنوحين أن
يردّوا على ما تلقّوه أبدا، إذ هي هبات يبقى فيها الشّخص موجودا في الشّيء
الممنوح؛ وعلاقات تبادل تجاريّة يمكن أن تكتسي من خلال تطوّرها، طابعا
غُفْلا تماما. وفي الحالة الأخيرة ، وأنا أصرّ على ذلك، فإنّ التّبادل لا
يخلق أيّ رابط. فحين أشتري شيئا، فإنّه يغدو ملكا لي، وسواء أبقيته عندي
أو بعته، فهذا أمر يخصّني وحدي …
وتختلف العلاقة بين هذه المجالات الثّلاثة باختلاف الأزمنة والمجتمعات.
واليوم، فإنّ السّوق هي التي تغزو الكثير من العلاقات الاجتماعيّة التي لم
يسبق أن كانت منقّدة. ولكن لا يزال في مجتمعنا التّجاريّ، عديد العلاقات
غير التّجاريّة، وحسبنا المطالبة بتوزيع جديد، بعيدا عن السّوق، لمكاسب
البعض بما يتناسب وبؤس الآخرين. وليس كلّ شيء موضوعا للمال، فالدّستور
الفرنسيّ، على سبيل المثال، لا يمكنك شراؤه. يمكننا بالتّأكيد شراء أصوات
انتخابيّة، ويمكننا محاولة رشوة النّاس… ولكن ما يبرزه مثال الدّستور بكلّ
وضوح، هو الحدود التي لا يمكن للمال اختراقها. كما يمكننا بنفس الطّريقة
أيضا، سرقة قناع من أفريقيا وبيعه في باريس مع بعض المتواطئين، ولكن
القناع لم يصنع في الأصل لمثل هذا الأمر. وعلاوة على ذلك، فإنّ النّفوذ في
كثير من المجتمعات، كما نعرف على الأقل منذ مارسيل موسّ، لا يرتبط دوما
بالمال، بل بالهيبة في المقام الأوّل، وبالمعرفة الصّوفيّة، أي السرّانيّة
… كما أنّ سلطة الفرد لا تتولّد بالضّرورة من الثّروة، ولكن من شيء آخر،
هو ما نسمّيه نحن "اللاّمادّي "