ثمّة سجال في دمشق حول حقوق المثليّين الاجتماعيّة. إنّ مجرّد طرح هذا
الموضوع على طاولة البحث هو أمر إيجابي، ولكنّ مسار النقاش يبيّن أنّ
المثقّف السوري، مثله مثل كثير من المثقفين العرب، ما زال بعيدا عن قبول
المثليين كأفراد مساوين له في الحقوق والواجبات.
بدأ السجال بحملة قام بها مجموعة من المثليين السوريين الذين قرّروا أنّه
قد آن الأوان لكي يخرجوا من العتمة إلى النور، فابتدعوا حملة عبر الإنترنت
يدعون فيها إلى التسامح في مجتمع محافظ يعتبرهم مرضى أو منحرفين. وأطلق
منظمو الحملة بيانا غير مسبوق، عبروا فيه عن رغبتهم في العيش مع باقي فئات
السوريين بحرية وكرامة ومسؤولية. وقالوا في بيانهم "أنا مثلي ويحقّ لي أن
أعبّر عن رأيي… أنا فرد من هذا المجتمع الذي عليه أن يبادلني الاحترام…"
وطالب البيان بإلغاء مادة من القانون الجزائي التي "تعاقب على ميول جنسية
لم يختاروها". ويجرم القانون السوري المثلية، دون أن يشير إليها بالاسم،
ويعاقب بالسجن من ستة أشهر إلى عام من ارتكبها. ورفضت سورية التوقيع في
عام 2008 على بيان للجمعية العامة للأمم المتحدة يتعلق برفع العقوبة عن
المثلية.
وقد نقل صحفي سوري (أبيّ حسن) السجال من حيز النداء إلى حيز الإدانة،
عندما نشر في موقع إلكتروني سوري واسع الانتشار مقالة تحت عنوان "معذرة:
ليس مثلك مثلي…عن الشذوذ الجنسي في سوريا،" شنّ فيها حملة شعواء ضد
المثليين السوريين، الذين "مابرحوا يطالبون بحق الاعتراف بهم مجتمعياً
وقيميّاً، كي يصبحوا مقبولين في الوسط الاجتماعي من دون أن تطاولهم أي
نظرة دونية من قبل الغيريين جنسيّاً والرافضين للمثلية."
ويبدو من عنوان المقالة وسياقها أن الكاتب يأخذ موقفا متحيزا ضد المثليين،
وإن كان يتنازل أحيانا فيمنحهم بعض حقوقهم من علٍ. ومن هنا نسمعه يقول: "
إذا كنّا نقدّر ظروفكم ونتفهم حالتكم المرضيّة ووضعكم غير السوي (وهذا ليس
شتيمة، معاذ الله. إنّما تشخيص لواقع الحال) لكن هذا لا يعني أننا صرنا
سواسية ولن نكون كذلك أبدا."
ثم نراه يسارع إلى الفكرة المحببة عند غلاة القوميين العرب والإسلاميين في
العالم العربي، فينسب حقوق المثليين إلى الغرب، وهو بحد ذاته تهمة مرفوضة
من قبل العديد، ثم يضيف: "لا يكفي أن يتعاطف المتثاقفون مع قضية المثليين
لكي نبصم لهم وللمثليين بالعشرة! وليس بالضرورة أن نؤلّه كل ما يأتي به
الغرب حتى نبدو في نظركم ونظر الغرب حضاريين، بمعنى إذا كانت "المصونة"
كارلا بروني مثلية جنسياً على سبيل الافتراض، فهذا شأنها وندافع لها عن
حقها في ذلك الشأن كتفهّمنا لحالتكم المرضيّة ولاسويّتكم، لكن ليس مطلوباً
منا الاقتداء بها – ببروني- وبمثيلاتها ولا الاقتداء بكم أيضاً."
سنرى هنا لأنّ السيد حسن لا يوفر أحدا من هجومه، فهو يصدر حكم قيمة على
المثليين، ويصادر حقوقهم، ثم يتهم مناصريهم بأنهم "متثاقفون" وساعون إلى
استرضاء الغرب، بينما يقف هو ومعه جبهة كبيرة من "الأسوياء" في جهة مواجهة
الغرب. كما أنه يتهم زوجة رئيس جمهورية بلد كبير كفرنسا بأنها مثلية، ثم
يتنازل لتفهم حالتها، كما "يتفهم الحالة غير السوية للمثليين العرب
والسوريين، ثم يرفض الاقتداء بهم وبها. لا أدري إن كانت كارلا بروني مثلية
أو لا، ولا يهمني ذلك في شيء، ولكنني أتـذكر أنه كانت واحدة من أشد
المناصرين للحملة من أجل الإفراج عن سكينة، السيدة الإيرانية التي تتعرض
لخطر الرجم بسبب اتهامها بالزنى، ويحق لي أن أتساءل لماذا اختارها الكاتب
من بين كل نساء العالمين، كمثال.
ثم ينتقل الكاتب إلى مساحة أخرى حيث يخلط الأمور بعضها ببعض ليُظهر فداحة
المثلية. ومن أجل ذلك سنراه يوغل في رسم صور "مقززة" عن المثلية الجنسية،
بلغة فيها ما لا يليق من التصوير الحسي المرفوض ضمن بعض الثقافات، ومنها
الثقافة العربية المعلنة على الأقل، مطلقا على هذه الممارسات صفات من مثل
"مخالفة الطبيعة والفطرة،" وأيضا "ما يتنافى مع الحشمة." وهو بذلك يستخدم
قاموسا مقبولا من قبل غالبية القراء، ويستطيع بذلك أن يأخذ قراءه بعيدا عن
جوهر القضية، التي هي الحقوق الفردية والمجتمعية لكل أفراد المجتمع بما في
ذلك الغيريّون والمثليّون. ونراه يثير ذكورة الذكور بصور من مثل صورة
أشخاص يقول إنه يعرفهم وهم "لا يريدون مالاً، بل تحقيق المتعة البصرية
والوصول إلى النشوة، فقط، وهم يشاهدون زوجاتهم في أحضان رجال آخرين." ثم
يلقي علينا سؤاله الخطير: ماذا لو خرج علينا "أمثال هؤلاء في الغد مطالبين
المجتمع الاحترام والاعتراف بـ"حقوقهم،" ترى هل بمقدور نظامنا الاجتماعي
والأخلاقي تقبّل هكذا حق؟" ويزيد على ذلك مقاطع حسّية يصوّر فيها حالات
فيتشية صريحة، ويتساءل "كيف للمجتمع السوي أن يتقبّل - برحابة صدر وبساطة-
من يريد أن يرى والده وأخوته عبيداً لحذاء زيد من الناس أو عمرو، وليس
بمقدوره أن يقضي وطره إلا إذا أذُلّ وأهين وشُتم مع عائلته؟"
وما إن يصل إلى هذه النقطة حتى يسارع لتقرير أن "الشارع هو للأسوياء من
الناس فقط، وذلك بحكم الفطرة والطبيعة، أما عدا ذلك فمكانهم الطبيعي ليس
في الشارع على ما أؤمن"، وهو يرى أنّ الحلّ الذي يحترم "مشاعر الأسوياء
والشاذّين" هو أن يتمّ "التعامل مع الشواذ جنسياً باعتبارهم كائنات مريضة
ومرض بعضهم قد يُعدي، ونقترح في هذا المقام أن تعامل تلك الكائنات طُبياً
كما المصابون بالجذام(مثلاً) بحيث توفر لهم الدولة منطقة سكنية خاصة بهم؛
والتعامل مع بعضها الآخر – إضافة إلى المرض- بوصفها كائنات تشكل خطراً على
المجتمع لا يقلُّ عن خطر بعض المتطرفين الإسلاميين."
سنرى هنا أن الكاتب لا يمتنع عن اقتراح حلول عنصرية، عزلية، تنتمي أكثر
إلى محاكم التفتيش، مستبدلا الحرق بالعزل، وهو مفهوم يكاد يلامس العنصرية
الصرف. ولكنّه، إلى ذلك، يستعدي كلا المجتمع والسلطة على حد سواء، عندما
يوازي بين المثليين والمتطرفين الإسلاميين. وفي الحقيقة، لا أدري كيف يمكن
لأي كان أن يجد ربطا بين الاثنين، سوى الرغبة في استعداء السلطة على
كائنات مسالمة عبر ربطها بالتطرف.
في مقابل مقالة أبيّ حسن "الكفاحية" نشر مثقفون سوريون جملة من المقالات
دافعوا فيها عن حقوق المثليين السوريين باعتبارهم مواطنين كاملي الحقوق.
وجاء الدفاع الأبرز من الكاتب السوري سحبان السواح، الذي لخص موقفه بأنّ
"لكلّ فرد في العالم حقّ ممارسة حرّيته دون أن يسأله أحد عما يفعله، طالما
أنّه يحترم القوانين السائدة، ولا يقدّم على إيذاء أحد في ممارسته تلك."
ورأى السوّاح أنّ "المثليّين أفضل من كثيرين منّا في أخلاقهم العامّة، وفي
تعاملهم مع النساء، وسلوكهم في المجتمع؛ ويندر جداً أن ترى منهم خارجاً عن
القانون."
السجال بحدّ ذاته دليل عافية، رغم سقم بعض الآراء. ودليلُ عافيةٍ أيضا
رؤيةُ أنّ المثليين العرب بدؤوا يدركون وجودهم، ويستعدون للمواجهة من أجل
حقوقهم. وثمّة عدد كبير من الكتّاب والصحفيّين والمدوّنين والكتاب في
المواقع الإلكترونية الذين باتوا يولون هذا الشأن اهتماما أكبر. ولا بأس
في أن تختلف الآراء، ولكن البأس - كلّ البأس - في أن يأخذ البعض مواقف
إقصائيّة لا تتّفق وقيمَ الديمقراطية التي يتغنّى بها صباح مساء، والبأس
أيضا في أن نرفع قياساتنا إلى مستوى القياس العام، فما هو فوقها إسراف وما
هو دونها تقتير. وليس في ذلك عدل.