عنف من عيار كبير
عناية جابر
2011-06-23
العنف الآخذ بعالمنا من عيار كبير. نادراً ما عرفنا
، في شطر عمرنا الماضي، مثل هذه السعة العنفية، ومثل القدرة البشرية
البائسة هذه، على الإيذاء. قدرة على الإيذاء، لا تضمن لنا شرف التعرف على
أهوالها فحسب، والأنين من جبروتها، وإنما تعدنا بحظوة التعرف على عنف
أكثر، ما دمنا رضينا لأمر أو لآخر ذلك الصمت، العنيف بدوره، عن أحوال
لحكامنا .. ومآلات.
عنفٌ مثل أسهم البورصة، يزيد سعرها كلما ارتفعت
أصواتنا منادية بالحرية والعدالة والأمان. وهكذا يمكن رواية ما هو أدهى عن
بشاعات حكّامنا وجنون أفعالهم، مع ذلك عجزهم جوهرياً عن معرفة ان الورود
التي يدوسونها بأقدامهم، تزهر ثانية في اللحظة التي تلتصق فيها بالأرض.
التلقيح يحصل فوراً ونحن منكفئين على بطوننا، التلقيح المبارك المعجز.
ورود عطرية رقيقة! اجل، لكن غير مأمونة الجانب، عنيدة الى الحياة ، وماضية
دون خوف الى ربيعها.
للأسف، الورود هذه هي نفسها من صنعت من
دائسيها رجالأ عنفيين. صنعتهم من صمتها وصبرها، من لطفها ومن انحنائها
المزمن أمام قاماتهم الكرتونية. والآن، الورود وقد ملأت الحقل، ومنتبهة
أخيراً للغدر الذي لحق بها، وممتلكة تماماً قدرتها على الانتفاض ورفع
الرأس، ثم مناطحة السماء من خلال توازن يتدفق ويجدّد نفسهُ في كل لحظة وفي
كل وضع، والذي ربما يشكل قدرتها الرئيسة حقاً .
ورود تبدّت وروداً شأن
كائنات لاحول لها ولا قوة، تملك ألوانها وعطرها وعمرها القليل، جفلت
أخيراً من ثقل الأقدام وقسوتها عليها، وأعلنتها حرباً عجائبية التحول
والقوة، على غرباء الحقل ومغول الوقت.
على غرباء اللون والرائحة،
تطاولت الورود عالياً وتبدلت، واصبحت حرة في اختيار ميتاتها، وهذا سر من
أسرارها العميقة، فات ذوي النعال الثقيلة معرفتها.
'سرّ الورد'
محدّد وقابل للتيّقن، ليس من شجاعته البادية فحسب، وإنما من ذلك الشيء
السحري فيه، الذي ينقلب في غمضة عين، مستفيداً من واقعة العنف الممارس
عليه، بارعاً في الرّد والكشف بكل عنف رقته. وهكذا هي الطيبة العميقة
للورد، والحب، وايضاً الإنتباه، حيث تكاد تكون كرامة ورفعة كائن ما، نبات
ما، ما الفرق (الكائن/ الوردة) مرتبطة بتخلّقات مبهجة في مقاومة دائسيه،
واستعادة عالمه، اخضر، فوّاحاً، مبهجاً، أريجه الطيّب يفوح في الدم، وكل
ما يُنشدُهُ نبيلاً.
أشعر بالشكر والامتنان للورد الذي اغتيل،
وللذي في طريقه للاغتيال، وللمغتال أبداً، وأيضاً للذي يُدبّر اغتياله
بشجاعة، ويُغنيّ ما زال من اجل حقله وهوائه وكرامة اغصانه واشواكه ورئتيه.
يُغنيّ لإعادة الاعتبار للفكرة الإنسانية الأم، ويغنّي لأن عليه هو
تحديداً رغم رقته وقهره الأسطوري إحياء تلك الفكرة وحمايتها من أعداء
الألوان والجمال. يحميها من الانحدار والتصلب والثلج القاسي، فلم يعد
الوقت يتسع لطأطاة الرأس وضمّ الأجنحة على حزن مقيم، فيما يلهوالفاسقون
على أوراقه معنفين بتلاته على فتنتها التي صبرت طويلاً جداً. عنف الأرجل
الدائسة زوّدت الورد المهيض بكمية كبيرة من الأفكار المشمسة، والهتافات
الشجية، ما جعلها قوية، بأفق واسع: هل يوجد اليوم أيّ أمر على الإطلاق
نكرّس له طاقاتنا ونعتبره أولوية، سوى تسييج هذا الحقل وطرد الأحذية
الثقيلة التي تربض على ظهور الورد؟
الورد ينهض، يتنفّس، يرفع
رأسه، محاطاً بالفضاء، بفيضانه الساطع. هذه فرصة لن تتكرر لتحقيق كل ما هو
مؤّجل، عظيم وكبير. فباستثناء طيور الشؤم وعربدة الحظ، سوف تعيش كل الورود
حياتها سواسية، بصورة طيــــبة وكريمـــة. شعور بالكرامة هو بالنسبة لورد
الحقول الذي لم يكن يمــلك سوى منظور ضيّق الى معنى حياته، بديل ُمضيء،
جدير بالسعي إليه والموت من أجله. ففي الحالة العربية الاستثنائية الآن،
يمكن لهذا الشعور الجمعي المستفيض، ان يرتقي بعد الى نشوة السّمو والحرية.
إذا كان ثمة مدنيون بمزاج حربي، فلماذا لايكون ثمة جنود يحبون فنون
السلام؟ الجنود الذين يرفضون تلبية أوامر رؤسائهم بقتل الناس العُزّل
والناس الأبرياء، هم من كائنات الحقول، واصناف غاردينيا وياسمين وفتنة
وفلّ. ثمة المُشعون ، إنحازوا الى الربيع، الى الحقل يرسمون فيه مستقبلاً
أفضل، أو يدرسون تاريخ وجعهم ويعملون على تغييره.
التعليمات، الأوامر
بالقتل، كانت تمنع هؤلاء الجنود من الخروج الى الناس بمنجزاتهم الروحية،
لكنهم خرجوا مع ذلك، وهو الربيع من دعاهم.
في الحقيقة، اشتقت الى
بدايات ثورة مصر وتونس قبل أن تلتهم مجرياتها الالتباسات. اشتقت الى بداية
اللحظة المسحورة، التي جعلتنا نرى النور، نحن التائهين المتوحدين، نحن
المتخصصين بالخيبات العربية. على أن ما ينبغي أن يتضح كذلك، هو ان جمال
تلك البداية، لا يشكل قط مقياس الحالة التي أصبح عليها الورد، وغير متفق
بالضرورة مع الخصائص الخفية الغامضة للثورات. مع ذلك الأمل المقلق، وفتنة
الانتظار المتقلبة الباعثة على الاضطراب. يؤرقنا هذا الزمن المعلّق. أمل
رجلاه ليستا على الأرض، ولا هو طائل السماء بعد. تعال أسرع أيها الربيع
المتهادي وئيداً جداً.