كنتُ
طبيباً مبتدئاً عندما "جلدني" أحد أقربائي بمحاضرة طويلة عريضة حول حديث
نبويّ يقول :(امش بدائك ما مشى بك). وحاول قريبي الستّينيّ، آنذاك، بكل ما
أوتي من منطق وبيان، أن يفهمني ما تسلّل إلى فهمه هو من منطوق الحديث،
وفحواه أنّ على "المؤمن الحقيقيّ" أن يصبر على مرضه ووجعه ما دام قادراً
على تحمله، وأن لا يلجأ إلى الطبيب إلا حين يشتدّ ألمه ومرضه إلى درجة
يفقد معها القدرة على التحمّل والصبر. طبعاً انتقل قريبي بعد ذلك إلى شرح
شكواه المرضية التي مضى عليها سنوات وهو يكتمها في نفسه ولا يبوح بها
لأحد، عملاً بمفهومه للحديث الآنف الذكر، قبل أن يمنّني طبعاً وبشدّة،
لأنّه قرّر أخيراً اللجوء إلى الطبيب الذي هو أنا!
لا أكتمكم أنّي ذهلت وصدمت بفحوى المحاضرة وطريقة الحديث، وأنا
المتخرّج حديثاً من كلية الطب، طريّ العود، ليّن العريكة، وقليل الخبرة
الحياتية، ولشدّة الصدمة والذهول لم أفلح في الردّ على قريبي آنذاك، وهو
في الأساس لم يعطني مجالاً للردّ، مع أنني عاينته وعالجته مجاناً، ومع
أنني لم أفهم من الحديث إياه دعوة لعدم مراجعة الطبيب، بل دعوة لعدم
الاستسلام للمرض والقعود في الفراش أو في المنزل دون مبرّر فعليّ لذلك!.
مضى على تلك الحادثة أكثر من خمسة عشر عاماً، ولكنها لم تغادرني ولو
لحظة، بل ظلّت تطفو على سطح الذاكرة بين الفينة والأخرى، ولاسيما عندما
أتعرّض لمواقف مشابهة، أو أدخل في جدالات مماثلة، أصبحتُ مع الأيام
والسنوات أكثر قدرة على التعامل معها ومواجهتها والتصدي لخطلها، ومحاولة
تصويب ما يجب أن يفهم منها، دون الأخذ بحرفيتها كما يفعل الكثيرون. فكم
سمعت خلال ممارستي الطبية لأحاديث من هذا النوع، وكم حاول أشباهٌ لقريبي
"جلدي" بمثل ما فعل هو، ولكني كنت أردّ عليهم وأفحمهم في بعض الأحيان،
وأفشل ـ والحقّ يقال ـ في أحيان أكثر، وذلك حسب قدرتهم على سماع الرأي
الآخر وقابليتهم للاقتناع.
ومن الأحاديث التي دخلت في جدالات حولها على مدى السنوات على سبيل المثال:
(داووا مرضاكم بالصدقات)
(المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء)
(في الحبة السوداء شفاء من كل داء)
(إذا وقع الذباب في طعام أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه، فإنّ في أحد جناحيه شفاءً وفي الآخر داءً)
ناهيكم عن أحاديث الكيّ والحجامة والكحل والتداوي بأبوال الإبل و.. و…
ومن خلال تجربتي الجدالية تلك، وحواراتي المتفرعة عنها مع زملاء أطباء
مختلفي الانتماءات والمشارب، خرجتُ مقتنعاً بما لم أكن بعيداً عنه من قبل،
وهو أنّ جزءاً كبيراً من العرب والمسلمين يربطون ربطاً وثيقاً بين الطبّ
بما هو علم مادّيّ تجريبيّ، وبين الدين بما هو اعتقاد روحيّ ما ورائيّ،
وهم بأغلبهم لا يطلبون من الطبيب أن يكون طبيباً فقط بل يريدونه متديّناً،
كما أنّ البعض منهم يريدونه شبه داعية أو قديساً يمكن "التقرب به إلى
اللـه تعالى" على حدّ تعبيرهم. ولعلّ هذا يفسّر السهولة الكبيرة التي
يصدّقون بها أدعياء الطبّ والدجالين، الرائجين في كلّ عصر، والذين
يداوونهم بطرق مستوحاة من الدين، أو متلبّسة بلبوس الدين، ولا شأن لها
بالطبّ ولا بالعلم، أو في أحسن الأحوال بطرق تجمع بين شيء من الطب وكثير
من التدين، أو الدين المُساء فهمه وتفسيره، أو بعض الطقوس التي تشبه طقوس
الدين وهي منها براء، وهي لا تبدأ بتقديس القبور/المقامات واستسقاء الشفاء
من أصحابها، ولا تنتهي بتقليد ما يُروى ويُعتقد أن الرسول كان يمارسه في
مأكله ومشربه ومرضه وتداويه.
على أنّ ما فاجأني كثيراً بعد التوسع في موضوع العلاقة بين الطبّ
والتدين، هو أن الأمر لا يقتصر على العرب والمسلمين، كما كنت أحسب، فقد
أصبحت أسمع ممن أحاورهم أو أجادلهم بعضَ الاستشهادات والاقتباسات التي
كانت ـ والحق يقال ـ تبهتني فلا أنطق ببنس شفة، مثل ذلك القول المنسوب إلى
أمبروز بير Ambrose pare الذي ولد قبل 500 سنة وكان الجراح الملكي لأربعة
ملوك (هنري الثاني، فرنسيس الثاني، تشارلز الرابع وهنري الثالث) فهذا
الجراح البارع والشهير في أيامه، يروى عنه قوله الشهير: (أنا عالجت المريض
واللـه شفاه).
وقد لفتني بقوّة أن بعض القراءات والمقالات والتدوينات المعاصرة تتبنّى
رأي أمبروز بير بطريقة أو بأخرى. فالطبيب الأمريكي غريغ هود Greg Hood
مثلاً أقرّ في إحدى مقالاته بأن الإيمان والصلاة يبقى لها جذور قوية في
قطاع المرضى الذين تخدمهم عيادته، والذين ـ حسب اعترافه ـ كثيراً ما
يطلبون منه أن يصلي معهم قبل إجراء عمل جراحي لهم.
والطبيب الهندي جوستينباول justinpaulكتب صراحة: (أنا طبيب قلبية هندي،
أقبل نظرية أمبروز بير بأنني أعالج واللـه يشفي…. أنا أصلي قبل كل حالة
أقوم بها…. لقد صليت مع بعض المرضى…. الإنسان كينونة جسمانية وعاطفية
وروحية، والعديد من المرضى لديهم عنصر روحي في مرضهم.)
وفي نفس السياق كتبت الطبيبة الأمريكية جانيت لي ليفنسون Janet
Lee-Levinson :(أنا كثيراً أستحضر اللـه في المعادلة. بعض المرضى يندهشون
عند ذكر اللـه، بينما يتقبل آخرون الفكرة بانفتاح….. لا أركب أي شيء بدون
صلاة…. وغالباً أجد الأطباء الشباب مهتمين بالفكرة، لأن الدين غائب عموماً
من كل برامج تعليمهم وتدريبهم منذ المدرسة الابتدائية…. نحن أدوات بيد
اللـه والعناية الطبية تكون مفهومة أكثر عندما نعتنق ذلك المبدأ.)
وكتب جراح الوجه والفكين البرتغالي درليوناس drleonas : لست متديناً،
لكني أعتقد أنني فقط أعطي دفعة بسيطة للطبيعة، التي في الحقيقة تنجز
الشفاء.
وللمفارقة الشديدة فإنّ هؤلاء الأطباء الثلاثة سجلوا تعليقاتهم السابقة
على هامش مقالة حول تراجع دور الدين في بعض البلدان الغربية، كتبها غريغ
هود المذكور أعلاه، وطرح من خلالها السؤال التالي (متوجهاً به للأطباء):
ما هو التأثير الذي يتركه الدين على عملك وعلى مرضاك وعلى علاقتهم بك
وتعاملهم معك؟.
واستندت مقالة غريغ إلى بحث علمي قدم في مؤتمر الجمعية الطبية
الأمريكية الذي أقيم في شهر آذار 2011، في دالاس بولاية تكساس، وقد تمّ
إجراء البحث في تسعة بلدان (استراليا، النمسا، كندا، تشيكيا، فنلندا،
ايرلندا، هولندا، نيوزلندا، سويسرا) عبر جمع معلومات إحصائية تتعلق
بالانتماءات الدينية، وتعود عقوداً للوراء (حوالي قرن من الزمان)،
وإدخالها في كمبيوتر مصمم لهذه الغاية ومتخصص بالرياضيات. وقد كانت
مستويات المواطنين غير المنضوين في مجموعات دينية أعلى ما كانت في جمهورية
التشيك وبلغت ستين بالمائة. أما النتيجة الأبرز التي خرج بها البحث
الإحصائي الكمبيوتري فهي أن الدين يتأرجح على طريق الزوال في البلدان
التسعة التي تمت دراستها، والتي لم تكن من بينها الولايات المتحدة
الأمريكية التي لم تكن داخلة في هذا التقييم، لا كدولة، ولا كمجموعة
ولايات، مع تأكيد غريغ في مقالته أن هناك اختلافات واضحة وموثقة بين
المجتمعات والولايات في هذا البلد فيما يتعلق بانتشار الدين وطقوس التدين،
وكذلك بكيفية ممارسة الطب وأساليب التداوي. وظهر هذا واضحاً في التعليقات
على مقالته التي لم تقتصر على ما ذكرنا بل حفلت بوجهات نظر مخالفة تماماً
ومنها ما كتبه طبيب التخدير غابريلسن gabrielsanبلهجة حاسمة:(نعم، أنا
أحترم بشدة الاعتقادات الدينية لمرضاي، لكن الدين والعلم، حسب رأيي، لا
يختلطان. لو كان أمبروز بير في عصرنا وكرر ما قاله في عصره، فسوف لن
أصدقه.)
هل يمكن استعارة عبارته (سوف لن أصدقه) للرد على كثير مما مر ذكره في هذه المقالة، وكثير ممّا لم يمرّ أيضاً؟!