بصفتي خبيرا استراتيجيا وامبراطورا لليابان: لماذا قررت الظهور في التلفزيونات؟
توفيق رباحي
2011-06-09
لست بواعظ ولست بناصح. ولم أزعم يوما أن بقدرتي إسداء النصح والوعظ لأحد، لكن الذي أسمعه وأشاهده يخرجني من صمتي، والأهم، من تواضعي.
الأولى للقائمين على الكلام والصمت في سورية. والثانية الى القائمين على القنوات الفضائية العربية الكبرى بخصوص سورية.
1
ـ
اقترح على السوريين الرسميين ومن يسبحون في بركتهم، مهلة عن الكلام. لنقل
أسبوعا واحدا أو اثنين لا يظهر فيها 'محلل' أو 'خبير' سوري من دمشق في
الفضائيات العربية. على ضوء ذلك سيتقرر هل تواصل سورية الرسمية الدفع
بهؤلاء الناس الى ذلك الحديث السمج في التلفزيونات، أم لا.
ما يدفعني
الى هذه النصحية (الصادقة) هي تلك العبثية التي بلغتها هذه الحالة والتي
لم تعد تطاق. رجال يظهرون في الشاشات من دمشق يقولون كلاما يثير السخرية
ويحط من قيمة وذكاء العقل البشري. أحيانا يثيرون الشفقة وهم يدافعون عن
نظام الحكم في سورية. لا بأس في الدفاع، فحتى أدولف هتلر وجد من يدافع
عنه، المشكلة كلها في الطريقة الكئيبة.
لا تحضرني كل الأسماء لكن أستطيع أن أحيلكم الى د. بسام أبو عبدالله وخالد العبود وطالب إبراهيم.
مثلا،
يسأل المذيع في قناة ما، مهما كان السؤال قيّما أو غير قيّم، فيرد د. بسام
أو النسخة المستنسخة منه: 'أنتم في 'العربية' تغطيتكم سيئة وتتآمرون على
سورية. هذه الصور هذه مفبركة، كم عدد الذين خرجوا للتظاهر؟ خمسة آلاف،
عشرة، عشرون، يا سيدي 50 ألفا. سورية فيها 23 مليون نسمة فلماذا لم تنظروا
الى من بقوا في بيوتهم؟'.
سأل عبد الصمد ناصر أحدهم عن الفتى حمزة
الخطيب الذي لقي حتفه في واحد من دهاليز الأمن، فرد الرجل بالكلام نفسه:
'أنتم في 'الجزيرة' لماذا لا تهتمون بما يجري في قطر وتتآمرون على سورية.
الصور مفبركة وسورية فيها 23 مليون نسمة فلماذا لم تنظروا الى من بقوا في
بيوتهم؟؟.
يسأل مذيع 'فرانس24' ضيفا مسكينا عن جسر الشغور، فيرد
صاحبنا: البارح توجه السوريون الأبطال الى الجولان! فيضطر المذيع لانهاء
المقابلة منفعلا: ضاع الوقت ونحن ندور في كلام فارغ.
قبل هؤلاء كلّف
خالد الكعيم نفسه عناء الاتصال بـ'الجزيرة' وقد احمرّت عيون إيمان عياد
ومحمد كريشان من السهر، ليقول الكلام نفسه بالحرف تقريبا. لا أعرف من أين
جاء بتلك الصلابة ليقول ذلك الكلام في ذلك الوقت المتأخر من الليل. إنه
كلام يحتاج الى طاقة وجرأة لا تتوفران للمرء إلا في بداية النهار.
في
الأول كان الأمر مسليا. المشاهد يضحك. المذيع يغمز لفريقه في الغاليري.
المذيعة تبتسم بخبث. مسؤول النشرة ربما يقهقه من وراء الستار، وهكذا..
تسلية وسط كمّ هائل من الأخبار المبكية والمفجعة. لكن مع الوقت تحولت
المسرحية الى مأساة تثير الشفقة، أعتقد أن من واجب القائمين على نشرات
الأخبار حماية المتلقي منها.
من هنا دعوتي الى هدنة أو راحة مؤقتة. وإذ
أدعو الى هذه الهدنة أو الاستراحة، فإنقاذا، ليس فقط للمتلقي، إنما لهؤلاء
المتكلمين من أنفسهم ومما دُفعوا إليه.
لا أجزم بأن هؤلاء السوريين
يتجهون الى مكان أو مكتب ما، وهم في طريقهم الى الاستوديو، ليُلقّنوا ما
يجب أن يقولوا أو تلقي توجيهات حول فنون التمسك بالجواب الواحد على طول
الخط مهما اختلفت الأسئلة ومهما كان المذيعـ(ة) ملحاحا، لكن لا يمكن أن
يكون الصدفة هي من تجعل هذا التناغم بريئا عفويا ومتناسقا باستمرار مثل
معزوفة موسيقية كلاسيكية.. مستحيل.
لم أر هذا إلا مع 'المحللين'
السوريين. استمعت لليمنيين والبحرينيين والتونسيين، ولم يكونوا كهؤلاء.
سقى الله ايام مجدي الدقاق ونبيل لوقا وبرهان بسيّس وأبوبكر الصغير أثناء
الثورتين المصرية والتونسية. ذهبوا وأخذوا معهم ما تبقى من حياء.
بحوزتي
وثيقة لا أدري مدى مصداقيتها يُعتقد أنها تسربت من دائرة التوجيه المعنوي
بالمخابرات السورية تتحدث بالضبط عن أهمية تمسك 'جماعتنا' بهذه الطريقة في
الرد على الأسئلة في الفضائيات المأجورة، وتصيغ طريقة معنوية في الدفاع عن
الحكم (عفوا عن الوطن).
يسأل المذيع عن شيء في درعا، يرد الضيف: لماذا
لا تتكلمون عن مظاهرات التأييد للسيد الرئيس بشار الاسد؟ تسأل المذيعة عن
واقعة في بانياس، فيرد الضيف: ولماذا لا تتحدثون عن قاعدة السيلية؟ يسأل
المذيع عن صناعة البلوط في المريخ، فيرد الضيف: سورية هي دولة الممانعة
الوحيدة وأنتم تتآمرون عليها.
في اليوم الأول يبدو الجواب طبيعيا. ثم
يتكرر في اليوم الثاني فالثالث والرابع، وها نحن نعيش الشهر الرابع من عمر
الاحتجاجات في سورية، ولا زال د. أبو عبدالله وطالب والعبود يكررون
الأجوبة نفسها على أسئلة مختلفة وأحداث جديدة.
من طبيعة الانسان الملل، فكيف ومتى يمل هؤلاء؟ ومن أين جاؤوا بكل هذا الثبات والصمود؟
لاحظ أنه في كل هذه الشكشوكة لم يصدر قرار في دمشق بمقاطعة القنوات المأجورة والمدسوسة.
حالة
هؤلاء الناس فريدة من نوعها لأنها يصعب تصنيفها. يتحدثون عن سلفيين
وإرهابيين، فيخرج بشار الأسد ويقول إن هناك مطالب مشروعة للشبان ناسفا كل
كلامهم. يخرج أحدهم واصفا المتظاهرين بالفوضويين المغرر بهم، فيطل الرئيس
بعفوه عن الناس.. إلخ.
وكي لا يتهمني أحد بالتجني، أضع بين أيديكم
هذا الرابط نموذجا لمشاهد تتكرر في أكثر من تلفزيون وأكثر من مرة في
اليوم، ثم احكموا بأنفسكم:
https://www.youtube.com/watch'v=rwg8uRbs8XM2
ـ
أما القائمون على نشرات الأخبار بالمحطات الفضائية فأقول لهم: رفقا
بالقوارير! أقترح عليهم أن يتوقفوا عن استضافة هؤلاء الناس في سياق الهدنة
الواردة أعلاه. ومرة أخرى ليس حجرا على آرائهم، إنما صونا لهم من أنفسهم
والناس والتاريخ.
مثلا، في اجتماع التحرير يمكن مناقشة فكرة نشرة
أخبار بدون بسام أبو عبد الله وطالب إبراهيم وخالد العبود. اتركوا شعار
التوازن ووجهة النظر الأخرى ليلة واحدة وجرّبوا، ربما يكون في الأمر خير.
وإذا
كان لا بد من 'الرأي الآخر'، فاتصلوا بوزارة الخارجية أو وزارة الإعلام أو
الناطق باسم الحكومة أو الرئاسة. وإذا لم تجدوا أحدا، كما هو منتظر،
فليذكر المذيع في كل مرة مع الموضوع بأن المحطة اتصلت بالحكومة أو الرئاسة
أو وزارة الإعلام ولا أحد يجيب.
لن تكون هذه العبارة، مهما تكررت،
أكثر ضررا (بالمعنى الأوسع للكلمة) من 'أنتم في 'الجزيرة' تغطيتكم سيئة
وتتآمرون على سورية، والصور هذه مفبركة. كم عدد الذين خرجوا؟ 5 ألاف،
عشرة، عشرون، يا سيدي 50 ألفا.. سورية فيها 23 مليون نسمة فلماذا لم
تنظروا الى من بقوا في بيوتهم؟'.
وعلى ذكر أرقام المشاركين في
التظاهرات والاحتجاجات، هل خرج عشرة ملايين تونسي للإطاحة بالرئيس المخلوع
زين العابدين بن علي؟ وهل خرج 80 مليون مصري الى ميدان التحرير للإطاحة
بحسني مبارك؟ وهل خرج 50 مليون إيراني في 1978 للإطاحة بالشاه رضا بهلوي؟
وهل شارك سبعة ملايين جزائري بحرب الاستقلال ضد الاستعمار الفرنسي في
الخمسينات؟
3
كتبت مرارا في هذا المكان عن الشاشات العربية وما
تصدح به من 'محللين' و'خبراء' و'باحثين استراتيجيين' ومراكز بحث (لا وجود
لها) وخبرة منعدمة إلا عند مدّعيها.
حاولت عبثا أن أستوعب كيف يوافق
انسان أن يُكتب رفقة اسمه أسفل الشاشة 'خبير استراتيجي' مرة، و'باحث في
شؤون الجماعات الإسلامية' مرة ثانية و'خبير بشؤون الخليج' ثالثة، ولا يفصل
بين هذه المرات شهر واحد.
كان ذلك قبل أن أستسلم، بعد صمود دام سنوات
وان أوافق على الظهور في الشاشات محللا وخبيرا وباحثا استراتيجيا
كالآخرين. فعلت ذلك استجابة لوالدتي التي لم تتوقف عن معاتبتي برفق: يا
وليدي الناس الكل شفناهم في التلفزيون إلا أنت! وفعلت أيضا لكي لا يظن
الظانون أن الظهور في التلفزيون عبقرية أو الشطارة فيُحكم عليّ بعكسهما.
عندما
سألتني سيدة لطيفة مرة في قناة عربية كيف أريد أن أُقدّم للجمهور، قلت:
امبراطور اليابان! فهذا الأخير غير معروف للدهماء مثله مثل وصف 'خبير في
الشؤون الأمنية' و'مدير مركز الأبحاث في تعليب الخردل بكوكب زحل'.
وسألتني
أخرى مرة، فقلت: كاتب عظيم لا يشق له غبار وصاحب طموح رئاسي، فتذكرت بسرعة
أن عمي بوتفليقة هو الوحيد صاحب الطموح الرئاسي والذي يحق له أن يكون
رئيسا، وأن بشار الأسد هو الوحيد الذي يحق له رئيسا ليس على سورية بل
العرب والعالم كلهم كما صاح أحد أعضاء البرلمان السوري ذات يوم، فتنازلت
من باب احترام المقامات.
لو أُتيح لي أن أدير نشرة أخبار تلفزيونية
واحدة، سأجعلها بلا 'محلل' واحد أو 'خبير'. سأعطيكم الخبر حاف وأمشي
وستدعون لي بالخير والتيسير. فلربما أعود بالناس الى زمن نشرة الأخبار
التي تقاس بالدقائق لا بالكيلومتر.