لا يبدو أنّ الأستاذ علي أومليل
يطرح مسألة الاختلاف في الفكر العربيّ اتّباعا لموضة ثقافية، أو استجابة
لهمّ معرفيّ خالص. ذلك أنّ مرماه في النهاية، وفي هذا الكتاب الذي يبدو
منصبّا على مسألة الاختلاف في تراثنا العربيّ الإسلاميّ، هو مساءلة الحاضر،
والانشغال بالواقع الراهن. فرغم أنّ أبواب الكتاب وفصوله تعرض لمواقف
مفكّرينا القدامى من الآخر المختلف، لإبراز الكيفية التي تعاملوا بها معه
وجادلوه، إلا أنّ المقصود هو الإجابة عن السؤال الراهن: هل تحصّل من هذا
الجدال رصيد يمكن أن يسند دعوانا الآن إلى مشروعية الاختلاف في الرأي،
وترسيخ قواعد الحوار وتقاليده؟
إنّ الرجوع إلى التراث هنا لا يتمّ بقصد إحيائه وبعثه، ولا تمجيده
والتباهي به، وإنما هو رجوع حفريّ يحاول أن يرسم الكيفية التي تشكّلت بها
"العقلية" العربية الإسلامية، وأن يتساءل عما إذا كان ذلك قد ساعد على
تكوين عقلية قابلة بشرعية الاختلاف وقائلة به.
قد يُعترض على المؤلف بأنّ الواقع العربيّ في حاجة بالأوْلى لبعث
الائتلاف والوحدة، لا إلى إحياء الاختلاف والتعدّد، وأنّ حقّ الاختلاف إن
انشغل به المثقّف الغربيّ، فلأنّ مجتمعه قد بلغ درجة عالية من التنظيم،
وتحقّقت فيه الوحدة، واستقرّت فيه مؤسّسات الدولة الحديثة، ونما فيه
المجتمع المدنيّ. فان كانت تقوم فيه بعض "الهوامش" لتطالب بـ "الحقّ في
الاختلاف"، فإنّ ذلك لا يهدّد وحدة وطن، ولا كيان أمّة، ولا استقرار دولة.
هذا في حين أنّ كلّ هذه الأمور عندنا مهدّدة أصلا. وكلّ دعوة إلى "حقّ
الاختلاف" لن تزيدها إلا تفكيكا وتشتّتا.
لا يستبعد الأستاذ علي أومليل هذا الرأي المخالف لغرضه، إلا أنه يتشبّث،
مع ذلك، بالدعوة إلى شرعية الاختلاف "كأساس لتعدّدية لا تعني الشتات
والتشتّت، ولا دعوة إلى طائفية أو قبلية، وإنما هي نظام لمجتمع مدنيّ
متعدّد العناصر والمصالح، تتعاقد حول مؤسّسات بناء على وفاق عامّ متجدّد
بالوسائل الديمقراطية…فالديمقراطية هي نظام مؤسّسيّ لإدارة تعدّدية المجتمع
المدنيّ".
عاش المجتمع الإسلاميّ مستويين للاختلاف: اختلاف تحت وحدة المعتقد،
وداخل ثوابت عقائدية مشتركة. وهنا نبع الاختلاف من تعدّد تأويلات نصوص
واحدة.
أمّا المستوى الثاني فكان أكثر حدّة، وهو الذي كان نشأ بين مفكّري
الإسلام، وبين أطراف خارج دائرة المعتقد المشترك.
هذان المستويان للاختلاف يجمعهما طابع واحد، وهو أنهما ليسا اختلافا في
اللغة أو العرق أو اللون أو الجنس، وإنما هما اختلاف دينيّ. لقد سمح
المجتمع الإسلاميّ التقليديّ لأديان مغايرة بالتواجد معه هي الأديان
الكتابية. أمّا ما عداها من عقائد فلا شرعية له. إلا أنّ عدم توفّر الشرعية
لم يكن ليعني انعدام الوجود.
فهذه العقائد ازدهرت داخل "دار الإسلام" ذاتها، بل كان لأتباعها، في بعض
الفترات، نشاط ونفوذ داخل جهاز الدولة نفسه. وقد قام بين مفكّريها وبين
مفكّري الإسلام جدل تولّدت عنه مناظرات عقائدية معروفة.
ثمّ إنّ اتساع رقعة الإسلام وقيام المفكّر المسلم برحلات خارج "الدار"،
جعلته يعيش الاختلاف، وينطلق من موقع نظام معيّن للعوائد والقيم ليقابل به
ما يشاهده من عوائد مخالفة وملل مغايرة. إلا أنّ نظرة المسلم إلى الآخر،
سواء داخل "دار الإسلام" أو خارجها كانت تتحدّد من موقع إسلام منتصر
"متميّز"، وليس بإسلام مختلف ومختلف فحسب.
من هذا المنطلق تعامل مفكّرو الإسلام القدماء مع المذاهب والعقائد
المخالفة " سواء وهم يكتبون عنها كتابة بسط وتعريف ( كما في كتب الملل
والنحل)، أو كتابة نقض وردّ ( كما فعل المعتزلة على الخصوص)".
ما طبع هذا النوع من الكتابة هو الموقف الإيديولوجيّ المسبق الذي يعتبر
أنّ الحقيقة واحدة يمتلكها طرف واحد لا غير. وهذا معنى الحديث عن " الفرقة
الناجية". يستوي في هذا الموقفان السنيّ والشّيعيّ عن الحقيقة الموقوفة على
من يمتلك عصمة العلم والسلطة.
هذا الاختزال الإيديولوجيّ إذ يحصر الحقيقة في جانب واحد يقرنها بسلطة
قائمة، أو سلطة مطالب بها. فهناك دائما " توأمية بين الاستبداد السياسيّ
وترسيم الرّأي الأوحد. والذريعة المعروفة هي أنّ الاختلاف خلاف والتعدّد
فتنة وتجزئة وفوضى".
صحيح أنّ التراث العربيّ الإسلاميّ لا يخلو من مواقف مخالفة تقبل الرأي
المختلف، إلا أنها كانت "حالات" نادرة " لا تدل على بنية عامة للتفكير".
كان من المنتظر أن تنقلب الأمور في العصر الحديث، حيث أصبحت علاقة العرب
والمسلمين بأوروبا، ثم بالغرب عموما علاقة غير متكافئة. فصاروا طرفا
مغلوبا يدخل في مواجهات معه، " إلا أنهم اعتبروا أنّ موقعهم كطرف مغلوب
إنما هو موقع ظرفيّ". ورغم تعدّد واجهات المواجهة، إلا أن الواجهة
الدينية-الثقافية هي التي أخذت الدور البارز. فكان اللجوء إلى التراث
الثقافيّ والدينيّ وتهيئته لضرورات الدفاع. وقد حال ذلك بطبيعة الحال دون
بروز "وجهة النظر النقدية" إلى ذلك التراث، وربّما كان هذا كافيا لتبرير
هذه العودة النقدية الى تراثنا التي يرومها كتاب الأستاذ علي أومليل.