انسلّت أخبارها ككذبة بيضاء إلى ضجرنا اليومي النابع من ركود الشارع والفكر في بلاد كان منها المفكرون والثوار.. قطعت سكرتنا العبثية واللا إرادية التي قتلتنا في تفاصيل السخافة السياسية اليومية، فأرْدَتنا عقولاً متجمدة على ناصية التخلف.. شكّكتنا في أنفسنا وقدرتها على التفلّت من قبضة اليأس. خنقت أصواتنا إلى درجة نسينا معها النطق بغير الهمس من الكلام.. في كل مرّة أردنا فيها التأكد من قدرتنا على الصراخ في وجه الظلام وجدنا أنفسنا بين حائط الفتنة وتهمة الخيانة.. اعتقلوا أجسادنا وكبلوها على سكة جديدة تقبض على أرواحنا وعقولنا.. فلا يملّ قطارها الصدئ من رحلته اليومية فوق جروح أحلامنا المشروعة، يفتت من مقصوراته ما حمله من ملح اليأس، ولا ينسى أن ينشر معها قصاصات ورقية لا يتغير فيها إلاّ تاريخها، لتُعلِن تأجيل موتنا الرحيم إلى الغد..
تجاهلنا تلك الصور التي تســرّبت إلينا خلسةً من قبضة الدكتاتور التونسي خوفاً من أن يكون ذاك الغــد موعده اليوم.. يافطات كُتِبَت على عجل ورُفِعَت بجـرأةِ من أراد الحياة ولو لدقائق يمكنــه عــدّها.. صورٌ نُقِلَــت إلينا جــامدةً مهـربةً لا يذيلها أي تاريخ. وليــس فيها ما يدلّ أو يوضح مصيــر من رفعها، لا وليس فيها أي علامة تَشِي بمكان جثته.. إن كان قد مات اختناقاً بغاز وطني أو برصاص وطني..
كلا! هي لم تتسرّب خلسة من يد «بن علي» التي عرف عنها قساوة أين منها بطش الدكتاتوريات القديمة، تلك اليد التي خنقت تونس العربية. لم تتسرب بل يتصاعد من غموض الأخبار التي تتوارد تباعاً ما يدل على صلابة في موقف الشعب.. فهل ينكسر القيد؟ هل ينكسر أول قيد عربي؟ هل يتنفس هذا الشعب العربي الممتد على شواطئ القهر والقمع والتخلف من الرئة التونســية البعــيدة؟ هل يأتي هذا في زمن استيلاد الزعامات لأنفسها، الزمن الذي طال أمده وما كنا لنرى خيط نهاية له! زعماء ينتخبون أنفسهم ويصفِّقُون لها كلما انتهت من تلاوة خطاب كتبته أمام المرآة، فلم يسمعها غير النيام.. يتظاهرون ضد أنفسهم ويستفتون أنفسهم على أنفُسِهِم.. أناشيد وطنية يُحْكَم عليها بالإعدام إن هي أُنشِدَت لغير أسماء الزعماء الأبديين، حتى لتراها تتمنع عن الظهور منفردة بين الجماهير لحين وصول ممثل الزعيم...
جاء الخبر الأخضر من تونس.. أخيراً بدأت تلك الصور تتحرك أمام أعيننا. خرجت من إطارها الجامد إلى الحياة، فأخرجت معها شعباً بأكمله من بطالة فُرِضَت عليه طويلاً.. بطالة لم تخرق جدار صمتها إلا تلك النيران الحزينة التي أضرمها بوعزيزي في ضمير شعبه.. أضرمها في تاريخ الكسل العربي.. أضرمها في قطار اليأس الذي ما فتئ يطحن برحى عقله الحجري أحلامنا بين حنايا فولاذه القاتل.. أضرمها في جسده العربي المفكك ليحرق بها دكتاتور الـ23 سنة وينفيه إلى خارج البلاد وخارج التاريخ.. ليطويه صفحة سوداء من عمر اخضرار تونس وليهدي شبابها باقةً من أمل..
أحرق جسده ليدفئ ثورة مؤجلة كانت قد تجمدت أفكارها بين حدود الأقطار العربية المصطنعة، ليعطيها هويته التونسية وشهادته الجامعية قبل أن يحتضن تراب وطنه الذي أحب بعد أن اطمئن على صلابة رفاقه في الثورة..
تونس التي غابت قسراً عن حاضرها، تحتاج منا بعض الوقت لنستوعب ولادتها حقيقةً لا يرقى إليها الشك.. حقيقة موحية إلى ما بقي من الكسل العربي نائماً في أحضان الخوف من الفتنة أو من الموت جوعا..