كلنا نريد أن يكون لدينا مسؤولون نزهاء وشرفاء، يتحملون مسؤوليتهم كما ينبغي، ويضعون أنفسهم رهن إشارة المواطنين، ويتركون مصالحهم الشخصية جانبا وينشغلون بالمصلحة العليا للوطن. ليس هناك بطبيعة الحال مغربي واحد لايتمنى أن يكون لدينا مسؤولون من هذا النوع، ولكن الجميع في نفس الآن يعتبرون أن ذلك مستحيل، على اعتبار أن كل من لديه شعر أسود، أو ما يسمى بـ"كحل الراس" لا يمكن أن يأتي منه أي خير، ويترجم المغاربة هذا الاعتقاد الراسخ في أذهانهم بعبارة "الله ينجّيك من كحل الراس"!
الأمر هنا لا يتعلق فقط بنظرة المغاربة إلى السياسيين لوحدهم، بل بنظرة شاملة ينظرون بها إلى بعضهم البعض. والحال أنه لا فرق بين من لديه شعر أشقر وعينان زرقاوان أو خضراوان، وبين من لديه شعر أسود وعينان سوداوان، إلا أن النظرة السطحية التي ننظر بها إلى أمورنا هي التي تجعل هذه الاعتقادات الخاطئة تترسخ في أذهاننا، والتي لا تدفع بنا مع الأسف إلا إلى مزيد من التخلف والتقهقر إلى الوراء.
المؤسف في الأمر هو أن حتى بعض الصحافيين الذين يفترض فيهم أن يصححوا مثل هذه الأخطاء يساهمون بدورهم في تكريسها. أحدهم كان في زيارة إلى أوروﭙـا، زار خلالها رفقة مرافقيِِْه المغربيين عدة بلدان أوروﭙـية على متن سيارة، وعندما عاد إلى المغرب كتب عن تلك الزيارة التي أبهره فيها التنظيم المحكم الذي تعرفه حركة المرور على الطرق الأوروﭙـية، وكيف أنه طيلة 5000 كيلومتر لم يتم توقيفهم ولو مرة واحدة من طرف عناصر الشرطة أو الدرك. ويضيف أنه بمجرد دخولهم إلى التراب المغربي بدأت حواجز الشرطة والدرك، التي تنتهي دوما، حسب ما كتبه الصحافي، بـ"الحلاوة" التي تحلّ المشاكل وتريح خواطر الطرفين!
صديقنا لم يُلق بكامل المسؤولية على الدولة ومصالحها المعنية، وإنما حمّل جزءا منها إلى مرافقيْه المغربيين، اللذين كانا يتناوبان على قيادة السيارة، ويقول بأن طريقة سياقتهما تغيرت بمجرد أن لامست عجلات السيارة أرض المغرب، حيث كانا يلتزمان باحترام السرعة المحددة وإشارات المرور وأسبقية الراجلين على طرق الضفة الأخرى، لتتغير كل هذه السلوكيات الحسنة عندما دخلا إلى المغرب بمائة وثمانين درجة! بمعنى أن "كْحل الراس" واخا يمشي حتى للهند كايبقا ديما كحل الراس"!
نفهم من هذه الحكاية المعبرة أن المشكل لا يكمن في المغاربة، وإنما في قوانينه بالتحديد! فالمغربي عندما يتواجد في بلد ديمقراطي يطبق فيه القانون على الجميع بسواسية، يصير بشكل تلقائي "مواطنا صالحا"، يحترم قوانين السير عندما يقود سيارته، ويحترم "الصف" عندما يجد الناس واقفين في طابور الانتظار، ولا يرمي الأزبال في الشارع..إلخ. وعندما يدخل إلى المغرب يرمي كل هذه السلوكيات الحضارية خلف ظهره، ويغير طريق معاملته لتنسجم مع روح القانون المغربي، والذي يعرف الجميع على كل حال أنه لا يختلف عن قوانين البلدان المتقدمة سوى بكونه لا يجد من يطبقه على أرض الواقع!
فعندما ترتكب مخالفة مرورية في بلد ديمقراطي تدرك مسبقا ألاّ مناص لك من أداء الغرامة، لأن عناصر الشرطة والدرك هناك لا يعرفون شيئا اسمه "الحلاوة"، لذلك تكون مجبرا رغم أنفك على احترام قانون السير بحذافيره، لأن أي مخالفة مهما كانت بسيطة ستتحول بلا شك إلى مرارة! بينما في المغرب يمكنك أن تفعل بسيارتك على الطريق ما تشاء، وعندما يوقفك شرطي أو دركي يمكنك أن تمدّ يدك إلى جيبك وبعد ذلك إلى يد الشرطي أو الدركي وينتهي كل شيء بسلام، هذا إذا كنت مواطنا "عاديا"، أما إذا كنت ابن أو ابنة مسؤول كبير، فأقصى عقوبة يمكن أن تصدر في حقك حتى عندما تسحق عظام أحد الراجلين مع قارعة الطريق هي مدة شهر أو شهرين من الحبس، والتي يضيف إليها القاضي بطبيعة الحال عبارة "موقوفة التنفيذ"!
وإذا كان هذا هو حال المغاربة "العاديين"، فنفس الشيء ينطبق على المسؤولين الذين يسيّرون شؤوننا، فلو كان لدينا قانون صارم كالذي يوجد في البلدان المتقدمة، لكان لدينا أيضا مسؤولون كالذين يوجدون هناك! وأكبر دليل على هذا الكلام هو أن لدينا في أوروﭙـا مثلا، مغاربة يتحملون مسؤوليات كبرى، ولا يمكن أن تعقد بينهم وبين المسؤولين الذين يوجدون هنا أية مقارنة، لأن المقارنة مع وجود الفارق لاتجوز!
تذكّروا أن وزيرة العدل الفرنسية السابقة رشيدة داتي هي من أصل مغربي، وأحمد بوطالب عمدة مدينة روتردام، ثاني أكبر مدينة هولندية هو أيضا من أصل مغربي، ووزيرة الثقافة البلجيكية فضيلة لعنان بدورها من أصل مغربي... هؤلاء جميعا لا فرق بينهم من ناحية الاستقامة وبين نظرائهم في البلدان التي يعيشون فيها، ورغم أنهم من أصول مغربية، إلا أنه من المستحيل أن تطبق عليهم مقولة "الحاجة اللي ما تشبه مولاها حرام"! ما ينقصنا إذن في المغرب لكي تستقيم أمور هذا البلد المعوجة هو كثير من "الزيّار"، لأن "الزيّار" وحده يصلح العقليات الفاسدة ويجعلها تستقيم من تلقاء نفسها!
الإثنين نوفمبر 09, 2009 4:40 am من طرف هشام مزيان