عندما حدثت ابني عن كوننا كنا
نعتاش على الخبيزة والمرار والرشاد والبصل الأخضر في الربيع، لم أقصد
الحديث عن الفقر، كما فهم ابني، فتأفف: كان سأم الحديث عن الطفولة –
طفولتي – البائسة، لكنني في ذلك النهار كنت أود أن أحدثه عن رحلاتنا إلى
السهل في الربيع. كانت أمي تجمع الخبيزة، والمرار والعكوب، أما أنا فلم
أكن أجمع الزهور – كما من المفترض أن يكون ،حتى يبدو المشهد رومانسيا – ولم
أكن أقف أتأمل السهل الأخضر الذي تشاكس امتداد خضاره ألوان زهور مختلفة،
ولا أذكر أن ثمة أفكار مهمة كانت تراودني حينها. لكنني أذكر أنني كنت أشعر
بالفرح. كنا ، نحن الأطفال، نركض خلف الحافلات المحملة بالحمص الأخضر، وإذ
نحظى ببضع عيدان منه، نشد عليها بقبضاتنا الصغيرة كأنما نقبض على الحلم.
كنا نسرق من الحقول العدس الأخضر، ونجري نسابق الريح خوفا من عصا
الناطور، إنما دون أن نفرط بحبة عدس واحدة: دليل الإدانة، الذي قد يودي
بنا!
أذكر أن أمي كانت تكشنا مثلما تكش الحمام عن حبوب القمح الأخضر المشوي.
أتعرف ما هو ؟ - سألت ابني وأردفت: إنه الفريكة. أنت تحبها! كنا ندور حول
النار، ونلعب لنسهى في لعبنا عن انتظارنا، ريثما ينشوي القمح، ثم نخطف حفنة
منه ونلتهمها فتسيل عصارته في فمنا! ليس بوسعي الآن وصف طعمه. يبدو لي
أنه يشبه طعم الفرح.
وشرد فكري، فيما فكر ابني كان شاردا أصلا، بيد أنني سرعان ما استطردت:
في الربيع هنا تصبح الدنيا جميلة. يزهر اللوز! هل رأيت شجر اللوز وهو
مزهر؟! - لم يجبني، ظل شارد الذهن، ومع ذلك استمريت: تغدو شجرة اللوز كأنها
غيمة صغيرة، يا إلهي ما أجملها! لابد لك أن تراها كي تفهم ما أقول!
ثم السهول والهضاب التي تمتد أمام ناظريك خضراء، لا غابات تحجبها ولا
عمارات عالية… تقف على سفح هضبة وتنظر! تنظر في الجهة التي تريد، فترى
العالم واسعا تعجز عن احتوائه بعينيك. تداعبك نسمات عليلة، والفراشات تطير
من جانبيك والشمس في السماء كزهرة: دافئة ورقيقة لدرجة أنك تود لو تقطفها.
ثم سكتّ، وظل أبني صامتا، فسألته:
- ما رأيك؟
بماذا؟! سألني باستغراب.
بالربيع هنا!
ماما! – أجابني بتعجب –
الربيع في كل مكان هكذا: تزهر الأشجار، وتطير الفراشات وتخضرّ السهول!
لكن شجر اللوز لا ينمو هناك
ولا يزهر! قلت ، وكنت أقصد بـ " هناك " روسيا، من حيث عدنا مؤخرا. وحيث ولد
ابني وعاش كل سنواته الست عشر حتى الصيف الماضي.
هناك تزهر أشجار بطم الشمال –
قال - أزهارها تشبه أزهار اللوز، حسبما وصفته، لكن لونها يمكن أن يكون
أبيض أو بنفسجيا، ورائحتها بالإضافة إلى ذلك ذكية للغاية! أنت تعرفين!
هذه الأشجار تزهر في بداية
الصيف وليس في الربيع! أما في الربيع هناك، فلا شيء يزهر، فقط يبدأ الثلج
بالذوبان، وتمتلئ الشوارع بالسيول، ويبدو العالم موحلا!
لكنك تسمعين طقطقة قطرات
الماء وهي تقطر من الثلج المتراكم على الأسطح، وترين أسراب الطيور وهي
تعود من هجرتها، وتسمعين زقزقة عصفور لا تدرين على أي غصن يقف، وعندما تشرق
الشمس – لم يعبر هو بهذه الطريقة، لكنني تخيلت المشهد، إذ طالما عشته
أيضا: تمد يدها وتلامس كتفك من الخلف قائلة: اخلع المعطف، فلقد عدت! –
فتخلعينه! كنا أنا وأصدقائي في طريق عودتنا من المدرسة نخلع المعاطف ونلعب
بها، نقذف بعضنا البعض بها، متناسين ما سنلقاه في البيت من توبيخ. كنا نضحك
عندما يمسك أحدنا بحفنة ثلج ليقذف بها الآخر فتذوب في يديه.
كنا…
واستطرد بالحديث بينما شرد ذهني. كنت أقول في نفسي: لقد أخفقت مجددا! إذ
أن الوطن ليس حفنة كلمات تحكيها للآخر فتمتلك وجدانه، إنه ذاكرة وحسب!