لانتريت.. الخبز والزيت المعطي قبال -
mkabbal@gmail.com تبقى باريس، وبامتياز، مدينة المظاهرات والمظاهرات المضادة. في قلبها، يقف المرء على مقياس الحرارة الاجتماعية والسياسية والمزاجية للبلد بمتابعته للطوابير الضخمة التي قارب عددها، على سبيل المثال، خلال المظاهرات الست الأخيرة التي عرفتها فرنسا، 3,5 ملايين متظاهر. فمن الناس من يتظاهر دفاعا عن الحيوانات أو ضد وباء الإيدز، فيما ينزل البعض الآخر إلى الشارع دفاعا عن التدخين أو عن الموسيقى الإلكترونية... إلخ. في الثاني من أكتوبر الماضي، حل الدكتور عبد الرحيم العسري بباريس للمشاركة في مناظرة علمية في قصر المؤتمرات. ما إن خرج من الفندق حتى جرفه سيل مظاهرة حاشدة لم تلبث أن اختلطت فيها الأيدي بالهراوات، والحجارة بالغازات المسيلة للدموع. مسلحة بالدرقات، نجحت عناصر من قوات الأمن في اختراق الجموع. لما أفاق الدكتور عبد الرحيم، وجد نفسه مدمى الرأس وسط سيارة للشرطة اقتادته، ومجموعة أخرى، إلى المخفر. بعد ساعات من الانتظار، تقدم منه أحد المحققين ليطرح عليه، بلهجة عدوانية، سلسلة أسئلة تفيد، في مجملها، بأنه العقل المدبر للمظاهرة! فسر له الدكتور أنه جاء من المغرب إلى باريس للمشاركة، لا في المظاهرة بل في مناظرة دولية في موضوع البواسير بمداخلة عن آثار الفلفل السوداني على الأمعاء والبواسير في الوسط المغربي، وأنه لا يعدو كونه مجرد متفرج شملته الكماشة. لكن هذه التفسيرات لم تقنع المحقق الذي بنى على هذا الاعتراف فكرة تفيد بأنه جاء من المغرب خصيصا للتخريب وإشاعة الفوضى. ولتعزيز أطروحته، قدم إليه صورا تظهر شخصا يخبط بدبوس زجاج إحدى السيارات. بعد يومين من الحبس رفقة متظاهرين حقيقيين دخلوا في إضراب عن الطعام، أطلق سراحه بعد أن أثبت التحقيق صحة شهادته. قبل أن يغادر المخفر، اقترب منه المحقق ليهمس في أذنه: «أود أن أفضي لك بسر لا يذاع: حتى أنا مصاب بالبواسير، ومنذ الآن لن أتناول التوابل، وسأقبل على شرب عشب الشيح كما نصحت الجميع بذلك». وكان الدكتور قد ألقى نص المحاضرة المقرر تقديمها في المناظرة على رفاق الزنزانة في مرض البواسير وأسباب علاجه، تابعه باهتمام المحقق بدوره! لما تقدم الدكتور إلى قصر المؤتمرات الذي يحتضن المناظرة، ورأسه مغلف بضمادات، تحلق من حوله بعض المتناظرين لمؤازرته وكلهم شوق لمعرفة المزيد. لكن بدل إعطاء تفاصيل عن اعتقاله، حكى لهم كيف أنه من بين الـ18 شخصا الذين اعتقلوا رفقته، كان 16 منهم يعانون من داء البواسير، الذي كانت آلامه أكثر وقعا من آلام الاستنطاق والتحرشات. وختم شهادته بقوله: ومن حسن الحظ أنني كنت موجودا إلى جانبهم!
وبما أن حكايات المظاهرات في باريس تتناسل هذه الأيام بعضها عن بعض، أثارت انتباهي وسط الطابور البشري الضخم لافتة من الكرتون، كتبت عليها بالعربية كلمة «أنا». كان الشخص -الذي تعرف من خلال سحنته وهيئته أنه مغاربي، بطاقية على الرأس ومعطف خشن على الرغم من الطقس الدافئ- يسير وسط مسيرة مؤلفة من نقابيين محترفين يرددون، وراء مكبر للصوت، شعارات معادية للحكومة ولقانون التقاعد. وبمجرد ما كانوا يلزمون الصمت لاسترجاع أنفاسهم أو لشرب سيجارة، كان صاحب اللافتة يصرخ في بوق صغير هذه الكلمات: «لانتريت، الخبز والزيت، لانتريت الخبز والزيت». في البداية، ضحك المتظاهرون من لغو ولغط صاحبنا الذي اعتبروه متظاهرا أجنبيا، يعبر في لغته عن تضامنه مع المضربين. لكن ما لبثت الشكوك أن تسربت إلى الأذهان، الشيء الذي دفع بأحد أطر الكونفدرالية العامة للشغل إلى التقدم منه لاستفساره عن دلالة الشعار وعن انتمائه النقابي. في كل مرة كان جواب الرجل: «لانتريت، الخبز والزيت». في الأخير، أمسك الإطار النقابي بالرجل ليجره خارج الطابور وليحذره من مغبة تكسير الإضراب أو إشاعة الفوضى. «الأجدى بك أن تخرج من الصف...». فما كان من الرجل إلا أن قصد أحد كراسي الحديقة المجاورة حيث تابع إطلاق شعاره المفضل على الهواء الطلق. لم تمض بضع دقائق حتى تقدم منه محققان بزي مدني ليطلبا منه مرافقتهما إلى المخفر. بعد التأكد من هويته، لجآ إلى طلب خدمة مترجم محلف، ففسر لهما دلالة الشعار والكلمة المصكوكة على لوحة الكرتون. وخلصا إلى نتيجة أن بالرجل مسا من الجنون. وعليه أطلقا سراحه. لكن ما إن خرج صاحبنا إلى الشارع حتى شرع في الصراخ من جديد: «لانتريت، الخبز والزيت».