[size=10]198[/size]
العولمة هي السيرورة المتسارعة - بتأثير فعّال وحاسم من التطور التكنولوجي - التي تكتسب من خلالها العلاقات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والتكنولوجية، سمات مجردة عن المسافات، والحدود الطبيعية أو المصطنعة، وأصبح البشر "أكثر إدراكا" من أي وقت مضى في التاريخ الإنساني أنهم يعيشون في هذا العالم، باعتباره مكاناً منفرداً وواحداً شديد الترابط، حيث أصبح تأثير الأحداث وظواهر مهما كانت نوعيتها امتداداً من: الأمراض المعدية، الاحتباس الحراريّ تجارة المخدرات والرقيق الأبيض والإرهاب، إلى الأزمات المالية التلوث البيئيّ أو مكان حدوث هذه العلاقات والظواهر في العالم متزايداً بشكلٍ متسارع جداً([1]). لكن المؤكد أن عملية العولمة خلقت نظاما دوليا معقداً جداً، حيث لم يعد تعدد القوى الاقتصادية والسياسية من المسلمات في هذه الحقبة من سيرورة العولمة، بل إنه يعتبر أمرا إيجابيا حتى من قبل القوى القديمة المهيمنة مثل: الولايات المتحدة (الأمريكية) والدول (الأوروبية واليابان). وتعدّ ظاهرة الإرهاب المعاصر التي تتغذى على التطرف - خاصة الديني - واحدة من تلك الظواهر التي أخذت ـ وخلال العقدين الماضيين ـ تساهم في سيرورة عملية العولمة وزيادة ترابط العالم، رغم الجدل الواسع الذي لا يزال يكتنف المفهومين: العولمة والإرهاب؛ لأنه في ظل العولمة لا يمكن فهم الأحداث الجارية في العالم المعاصر، إلا من خلال الأنظمة المعقدة ضمن "المجتمع العالمي" التي تشمل أطرافا فاعلة متعددة - (الدولة، فوق الدولة، ما دون الدولة) الحكومات، والشركات والمنظمات الدولية المتخطية للحدود الوطنية، والمجموعات غير الشرعية، والمجموعات الإرهابية، ولأن الدول والحكومات تفقد سيادتها عندما تواجه وتتعرض لهجوم الإرهابيين، أو التهديد باستهداف تلك الدول سواء مواطنيها، أو مصالحها. تغدو مسألة "محاولة" دراسة العولمة وأثرها على الإرهاب العالمي محاولة مفيدة لفهم عالم العلاقات الدولية المعاصر والسياسة العالمية وتحليل العلاقات بين الأفراد، الحكومات والمنظمات الإرهابية بوصفها أطرافاً فاعلة في العولمة.
والعولمة سيرورة (كلاّنية - Holistic) بمعنى أنها "كيان كلي وأن مجموع تفاعلات، وتحولات الظاهرة أكبر من مجموع أجزائها ومظاهرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية"([2]). وهذا يستدعي التأكيد أنه لا يمكن ولا يستوي تجزئة الظاهرة، وأنه لا يمكن لمظهر منفرد أو "معزول غائيا" من مظاهرها المختلفة أن يعبر عن فحواها، أو أن يكون على صورتها. وتأتي أهمية هذه النقطة من حقيقة أن كثيرا من ناقدي العولمة وكثيراً من الباحثين والدارسين في الغرب، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا يعمدون إلى اختصار وتجزئة العولمة ببعض آلياتها أو مظاهرها، مثال آليات العولمة الاقتصادية - وتضخيم فوائدها في المجتمعات - وكأنها العولمة.
وهناك آخرون خاصة في (ألمانيا) و(فرنسا) ودول (أمريكا اللاتينية) وفي دول العالم الثالث العربية والإسلامية من يركزون على آلياتها الاجتماعية والثقافية على اعتبار أنها تؤدي إلى تفتيت المجتمعات للحط من قيمة وأهمية الظاهرة واعتبارها مجموعة من "الأساطير Myths)) على حد وصف المنظرين البريطانيين (بول كونتيين هيرست وغرهام تومبسون)([3]). أو "الكذبات العشر للعولمة" على حد وصف الألمانيين (جيرالد بوكسبرغر وهارولد كليمنتا)"([4]) وكل هؤلاء يُحسبون على المدرسة المُشككة بالعولمة. ثم إن العولمة سيرورة مستمرة، وغير مستقرة، وهي "في جوهرها لحظة متداخلة أشد التداخل من لحظات التاريخ الحضاري العالمي"([5]). لكنها تتطور مكانيا وزمانيا وبتفاوت وعمق من مكان لآخر، ومن زمان لآخر بفعل آليات التغير والتحولات الكبرى المتسارعة التي تؤدي إلى ما يسمى بتغيير المسلمّات Paradigm shift))* التي باتت سمة تعتري كافة نواحي الحياة العصرية. ويمكن القول إن تغير المسلمّات والتحولات الكبرى التي رافقت العولمة "ربما تفوق كل ما حدث من تغيرات في التاريخ خلال إلى (2000) سنة الأخيرة"([6]). الأمر الآخر من المهم؛ التأكيد على معنى مفهوم "العولمة" وتحديد الفارق الكبير بينها وبين مجموعة أخرى من المفاهيم التي تستخدم كثيرا مرادفات لها، رغم اختلاف معانيها عن معنى العولمة. ومن أهمها:
1. التدويلية (Internationalization).
2. الليبرالية (Liberalization).
3. الكوكبة أو العالمية (Universalization)([7]). 4. الغربنة أو التغريب، أو الأمركة Westernization)).
5. تجاوز الحدود (Deterritorialization).
خاصة وأن كثيراً من الباحثين سواء العرب أو الغربيين عجزوا عن أن يحددوا مثل هذا الفارق بين العولمة وهذه المفاهيم الخمسة الملتبسة حين يستخدمون مصطلح "العولمة"، وهذه المفاهيم أحدهما إلى مكان الآخر. فإذا كانت هذه المفاهيم تشير إلى الظروف نفسها، عندئذ فلن يكون هناك معنى للحديث عن العولمة.
وفي هذه الحال، تصبح المناقشات الراهنة حول العولمة وتغير المسلمّات مجرد إعادة صياغة للطروحات القديمة التي عرضها الواقعيون و(الليبراليون) و(الماركسيون) حتى قبل ما يزيد على مئة سنة خلت، حيث كانت هناك أفكار متداولة تتحدث عن عالم واحد قبل ثمانينيات القرن العشرين؛ فقد بدأ الناطقون باللغة الإنجليزية يستخدمون كلمة Global)) للدلالة على "العالم بأسره" في نهاية القرن التاسع عشر، وكانت الكلمة تعني في السابق Spherical)) "كروي" إشارة إلى الكرة الأرضية، إلا أن الكلمتين (Globalize) بمعنى "يعولم"، وGlobalism)) بمعنى "مذهب العولمة" وردتا أولاً في كتاب مغمور نشر عام 1944 م، في حين أن مصطلح "العولمة" (Globalization) دخل قاموس (Webster) للمرة الأولى عام 1961م.
وقد جادل (صمويل هنتنغتون) ومنذ 1993م حين قدم مقاربته الأولى عن (صدام الحضارات) أي قبل أحداث 11 أيلول 2001م الإرهابية بعقدين من الزمن، أنّ سيرورة العولمة تزيد من احتمالات الصدام الحضاري، لأن العالم أخذ في التحوّل والانكماش إلى رقعة أصغر، وهو ما يرفع درجة الوعي بالخلافات والتهديدات السياسية والثقافية، وأن التغيرات المتسرعة في الشؤون الاقتصادية تساعد في عزل الناس عن ولاءاتهم المحلية والإقليمية وإضعاف الدولة. أمّا الفراغ الناتج عن ذلك في الهوية والولاء، فيجري ملؤه بمرجعيات اجتماعية وثقافية.([8]) ولذلك يمكن القول إنَ مقاربة (هنتنغتون) كانت النبوءة المرعبة لهجمات 11 أيلول 2001 الإرهابية وخارطة طريق "أو مشروعا ذا خلفية نظرية حول كيفية التعاطي مع الإسلام ككل وليس مع المتطرفين الإسلاميين حين أكد "أن خطوط حدود الإسلام وداخله (كحضارة) دموية،" وأن صراعات خط الصدع بصفة خاصة ستكون ظاهرة بين المسلمين وغير المسلمين"([9]) وأن مشكلة الغرب الرئيسة ليس المتطرفين الإسلاميين، بل الإسلام نفسه كحضارة مختلفة يرى أتباعها أنهم متفوقون حضاريا.([10]) وهذا يعني أمرين؛ حسب رأيي، وهما:
الأول: أن هناك عملية ربط (أيديولوجية) في المنظومة المعرفية الغربية بين: العولمة - الإسلام - التطرف - الإرهاب.
الثاني: أن هناك مقاربات؛ غير (إمبريقية) مبكرة حول آثار سيرورة العولمة الإيجابية على الإرهاب؛ بمعنى أن العولمة ساهمت في زيادة احتمالات الصدام الحضاري، وزادت من تسارع انتشار وإدراك ظاهرة الإرهاب العالمي.