لعلّ من أكبر المفارقات التي تحكم عالمنا المعاصر ما تقدّمه الإحصائيّات العلميّة من تنامي نسب الفقر واتساع رقعته في العالم مقابل تنامي ثروات الفئات البورجوازية التي منحتها العولمة أسواقا جديدة ومهّدت لها السبل لخرق الحدود وترويج البضائع وتوسيع الأنشطة التجاريّة واستثمار الثروة المعلوماتيّة. فبعد سقوط الاتّحاد السوفيتي وانكماش المدّ الشيوعيّ وجدت الأنظمة الليبرالية فرصا أكبر للتمدّد والانتشار في ظلّ ضعف الرّقابة وانهيار المنافسة. وفي الوقت الذي ظلّت فيه قسمة العالم إلى عالم متقدّم وآخر متخلّف قائمة، ظهرت أطروحة صدام الحضارات لتغذّي الصراع القائم أصلا بين التقدّم والتخلّف بصراع بين المسلم وغير المسلم، على أساس القول ّإنّ الثقافة أو الهويّة الثقافيّة، والتي هي في أوسع معانيها الهويّة الحضاريّة، هي التي تشكّل نماذج التّماسك والتفكّك والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة.[1] إلاّ أنّ هذه القسمة الجديدة التي جعلت من سقوط الاتحاد السوفييتي الحدّ الفاصل بين الصّراعين، لا يمكن أن تحجب الصراع الأوّل بالثاني؛ ذلك أنّ تحويل الصدام إلى مواجهة هوويّة تجسّدت في ظهور تنظيمات مسلّحة استغلّت النظام الشّبكيّ وثورة الاتّصالات لترويج أفكارها وجمع أنصارها لم يحوّل الصّراع القديم عن وجهته، بل إنّ العامل الاقتصاديّ ظلّ محرّكا أساسيّا لتلك التنظيمات التي نشطت في مجتمعات عجزت فيها الدّول الوطنيّة عن منح المارقين عن سلطتها الرّضا والطّاعة لقوانينها. فأضحت صلتهم بإيديولوجيتها ومجالها وَهِنَةً عبر الانتماء إلى تنظيمات تعادي النظام الدولاتيّ الذي ينتمي إليه الأفراد أو الهجرة بوجهيها السرّي والقانونيّ بحثا عن أسباب العيش الكريم. لقد أضحى العاملان الاقتصاديّ والاجتماعيّ مُبَرِّرَيْنِ للبحث عن نقاط خلاف بين منظومة الدّول المتحضّرة والدّول المتخلّفة. فليس العامل الرّمزيّ سوى نتيجة طبيعيّة لإخفاقات اقتصاديّة واجتماعيّة. وأمام ضيق أفق المنافسة واتّساع الهوّة بين العالمين بحثت الشّعوب التي شعرت بضعفها الاقتصادي وتخلّفها التكنولوجيّ عن مجالات أخرى تعوّض بها إخفاقاتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة في شكل ردود أفعال هوويّة تستند إلى مرجعيّات تراثيّة وتستعيد سجلاّت الغلبة وتوظّف المقدّس. ولذلك، فقد وجدت في أطروحة صدام الحضارات دواء لجروحها النرجسيّة وإيحاء بالندّية تحت مسميات رمزيّة تواري الفوارق التقليديّة بين الأنظمة الرأسماليّة المهيمنة والأنظمة الخاضعة لها.
إنّ تركيز التّنظيمات الجهاديّة التي أعلنت عداءها للغرب وثقافته على الموت محرّكا لدعواتها، لهو تعبير عن الإخفاق الذّريع في مجاراة الأنساق المرتبطة بالمنافسة العلميّة والتّكنولوجيّة، وهو نتيجة حتميّة لخلل سبّبته هيمنة قوى الإمبرياليّة العالميّة التي احتكرت لنفسها كلّ الموارد وأسباب الثروة على حساب فئات فاقدة للثروة وخارج أنساق الحياة. فكانت النتيجة الطبيعيّة للإخفاق في صناعة الحياة الالتجاء إلى صناعة الموت في شكل ردود أفعال تقوم معقوليتها على استثمار مفهوم المظلوميّة واستعادة البنى التقليديّة التي تقسّم العالم إلى ديار سلم للمسلمين وديار حرب للكافرين، ثمّ راحت تلك القسمة تضيق شيئا فشيئا، حتّى أضحت "ديار المسلمين" قابلة للقسمة وفق نفس الهندسة على أساس الاختلافات العقديّة والطائفيّة.
لقد راجت صناعة الموت حين أفرغت الأنظمة الليبراليّة حياة الشعوب المفقّرة من المعنى.[2] فقد كانت كلّ مرحلة من مراحلها تفرض شكلا جديدا من أشكال العنف الاقتصاديّ والسياسيّ. وفي آخر هذا المسار، حققت الولايات المتّحدة إنجازا "لم تحقّقه أيّة دولة في التاريخ، وهو الهيمنة المطلقة على العالم وبدون أيّ منازع جدّي. وتدلّ كلّ المؤشّرات على أنّ هذه الهيمنة الكاسحة مرشّحة للبقاء لمدّة طويلة نسبيّا."[3] فكان من النتائج الطبيعيّة لاحتكارها أغلب مجالات الصناعة والتجارة والتكنولوجيا ظهور صناعة الموت التي اتخذت أشكالا مختلفة: يتمثّل الشكل الأوّل في تبنّي خطاب دينيّ يستثمر عالم ما بعد الموت من أجل كسب الأنصار وإقناعهم بأنّه يمثّل بؤرة الجزاء ومحور الرّجاء ومنتهى المقاصد التي يطمحون إليها. ويتمثّل الشكل الثاني في إزهاق الأرواح تحت مسمّيات دينيّة كالجهاد والقصاص وتطبيق الحدود، وأمّا الشكل الثالث، فيتمثّل في منح الانتحار طابعا دينيا يهبه القداسة ويستثمر الأجساد لتكون قنابل يمنحها الإفتاء شرعيّة الموت بالشّهادة ويباركها، بينهما يوجّهها القادة الميدانيون نحو أهداف استراتيجيّة محدّدة تخدم مخطّطات التنظيمات العنيفة وتحقّق أهدافها. فقد صارت صناعة الموت رائجة ينتجها رجل الدين باسم الإرادة الإلهيّة وينفّذها شباب متحمس للموت ويدفع ثمنها البشر الموسومون بالكفر والطغيان. تلك حلقات الإنتاج التي ولّدتها الهيمنة بكلّ أشكالها الماديّة والرمزيّة. ولعلّ هذه الحقيقة تصير جليّة في نقطة المواجهة الأبرز بين المنظومتين: تفجير برجي التجارة العالميين. فقد عبّر ذلك الحدث عن رمزيّة الصّدام بين ثقافة الموت ورموز الهيمنة العالميّة. ويتجلّى هذا التقابل أيضا في المواجهة بين الغرب المعتدّ بغلبته بعد أن روّج لصورة البطل الذي سبق الجميع في سلّم الحضارة، ومن عدّوا أنفسهم خصومه وتبنوا لاحقا شعار "التوحش"، فضلا عن كونه يعبّر عن تقابل بين الفوضى التي تنشرها جماعات العنف التكفيريّ والنظام العالميّ الجديد القائم على الانضباط لمنطق الهيمنة وقوانين الغالب. لا ريب أنّ الموت هو العدوّ اللّدود للإنسان منذ الأزل، ولكنّه أضحى الصديق الحميم للفكر الدينيّ يستثمره من أجل الإقناع بوجود عالم جزاء وعقاب على ضوئه تحدّد مسالك النجاة في الحياة. فقد استطاعت التنظيمات الجهاديّة استغلال مشاعر اليأس والإحباط لتهب الحالمين بمكاسب رمزيّة أفقا جديدا للسعادة تصوغه عبر مواجهتها مصدر الخوف الإنسانيّ المتمثّل في الموت بتحويله إلى بؤرة للمعنى ومعبر للخلاص. ولكنّ هذه المشاريع التي تستثمر الموت وتسوّقه رافعة شعار "الإسلام هو الحلّ" لا تجعله في الحقيقة حلاّ، بل تصيّره بتأويلها مشكلا في حدّ ذاته، فهو لا "يعود إلاّ على شكل إرهابيّ. وهذا ما تحاول ترجمته المنظّمات الجهاديّة العدوانيّة بعقليّة الثأر والانتقام: محو آثار الحداثة والعلمنة، ونسف الحياة المدنيّة والمكتسبات الديمقراطيّة، لفرض الأسلمة كنظام للحياة جذريّ وراديكاليّ، فكرا ومسلكا، لا ينتج سوى التطرّف والعنف، بقدر ما يصادر الحريّات ويختم على العقول والأجساد."[4] يخفي كلّ شكل من أشكال الموت خلفيات تمثّل السند النظريّ الذي تقوم عليه. فالإفتاء الذي يمنح الموت شرعيّته ومعناه الخلاصيّ يقوم على معايير المعرفة الدينيّة التي تتطلّب شرعيّة لا تقوم على مجرّد الإلمام بالأسس الدينيّة واتّخاذ منهج تأويلي يغلّب الطابع العنيف للدين على التسامح، وإنّما تقوم على اعتراف جمهور من المؤمنين بذلك الخطاب وإيمانهم به إيمانا راسخا. أمّا خلفيّات الشكل الثاني، فتتمثّل في وجود أفراد لهم قابليّة التفاعل مع الخطاب المشرعن وتحويله من الوجود بالقوّة إلى الوجود بالفعل ضدّ من قضى التأويل بكفرهم. فتتشابك الأسباب الاقتصاديّة والاجتماعيّة مع الأسباب النفسيّة والدّينيّة من أجل منح القائم بالعنف شعورا راسخا بأنّه المفوّض لتطبيق قانون سماويّ مقدّس. وأمّا الشكل الثالث، فيرتدّ فيه العنف على الذّات والآخر في نفس الوقت، إذ تؤول عمليّة العنف إلى وضع دمار يحوّل الموت إلى وسيلة للخلاص وحلم بالجزاء، وهو يعبّر عن انسداد أفق الحياة وفقدان المعنى وانعدام الثقة في الوجود.
لقد أقر "فرويد" بوجود نزوتين في الذات الإنسانيّة لا تنفكان تتصارعان: الأولى نزوة الحياة والثانية نزوة الموت، وإنّه كلّما ضعفت النزوة الأولى التي تتأثّر بالعوامل الاقتصاديّة والاجتماعيّة وُجّه العنف نحو الخارج وذلك بتحويل مركز الشرّ إلى الآخر المختلف دينيّا أو طائفيّا.
ولم تكن التنظيمات الجهاديّة سوى شكل من أشكال ردود أفعال الجماعات الباحثة عن تحقيق توازنات حضاريّة ونفسيّة، تتشابك فيها المصالح الماديّة والرمزيّة. ولهذا تختلط المصالح الاقتصاديّة والسياسيّة مع السجلات الدينيّة في تلك التنظيمات، إذ تمثل تلك السجلات الأرضيّة التشريعيّة لاستيلاء داعش مثلا على الثروات النفطيّة وفرض الضّرائب وكسب المغانم في الحرب، وهي تؤسس لرأسماليّة الدّولة المحاربة التي تمتلك الحقّ الرّيعيّ في منح المنتمين إليها امتيازات شتّى على حساب حقوق البشر الذين لم ينضبطوا لقوانينها. وقد أدّت هذه السّياسة إلى حركة نزوح وهجرة هربا من "مستعمرة العقاب". على حدّ عبارة فالح عبد الجبّار، إذ وقع حلّ القضاء المدني، واستعيد نظام الحسبة وتطبيق الحدود وطُرد "الكفّار الشيعة والحكومة" أو قتل من قاوم منهم وأخذ الأسرى والسبايا من الديانات الأخرى كالمسيحيين والإيزيديين وغيرهم وعرضوا للبيع والاستثمار...[5] وفرضت لاحقا قوانين تضبط زيّ المرأة وشروط خروجها من المنزل وتفرض قوانين منع الاختلاط في المستشفيات والمدارس والجامعات، وتمنع استعمال وسائل الاتّصالات الحديثة. فتحوّلت حياة السكّان إلى ما يشبه العيش في القبور. ولئن أمل كثير من العراقيين في إنهاء المظالم التي تعرّضوا إليها زمن الدكتاتوريّة أو الديمقراطيّة الطائفيّة، فقد وجدوا أنفسهم يعيشون حقبة جديدة من العنف المنفلت والسجون الكبرى التي اتخذت لها مسميات دينيّة وشعارات إسلاميّة. ولعلّ كثيرا منهم وجد في النزوح والهجرة ملاذا للهرب من جحيم داعش، من بعد ما توهّمت فئات منهم أنّه النعيم الدنيوي الذي سيخلّصهم من محنهم السابقة، بينما كانت فئات أخرى واثقة منذ البداية من طبيعة هذه الدولة وسياساتها إذ "تقدّر نسبة السكان المغادرين قبل احتلال المدن وبعدها بنحو 40 في المائة (الموصل)، وأكثر من 60 في المائة (تكريت والفلّوجة والرمادي)، وصارت بلدات أخرى مدن أشباح: الشرقاط وبيجي."[6] وتتضارب الإحصائيّات التي تقدّم أرقاما دقيقة لعدد القتلى والجرحى والمفقودين والأسرى والسّبايا. وقد سجّلت كثير من الحالات التي وقع فيها تطبيق حكم الإعدام نحرا أو رميا بالرّصاص على وجه الخطأ، بشبهات ثبت بعد تنفيذ الحكم زيفها. وكلّما توطّدت أركان دولة "العنف الدّاعشي" ازداد يقين الخاضعين لها أنّهم استجاروا من النّار بالرّمضاء.
الثلاثاء أكتوبر 02, 2018 9:17 am من طرف حياة