من بوتقة الصراع الدامي، انشطرت شظايا اللذّة الممزوجة بالخوف والتوجس، ومن التوحّش المحكوم بالإرهاب والجوع والسمسرة والجهل والقسوة، تفجّرت منسلّة نحو ينابيع الشهوة الفاترة ذاكرة مبتورة، أرّخت لسنين الحرب والخوف والحبّ، وأرّخت لسنين القسوة والقتل والحقد والإرهاب، ومن مخيّلة عبقريّة، استلّت من حرف اللغة أثيره وهي تمتدّ شابكة ذراعيها نحو أوطان جريحة، كتب حيدر حيدر، إحدى روائع الأدب المعاصر، وليمة لأعشاب البحر، رواية تستدرجنا نحو أزمة سوريالية ممزوجة بالدوستوبيا، في مناخات تراجديّة معجونة بالمساءات الخريفية الإفريقية العاصفة، منطلقة من همجيّة الراهن الثوريّ؛ فهمجية الواقع الثوريّ، الملفّع بغير قليل من الأوهام الزائفة، علامة فريدة على خصي الشفافية و الوقوف بها على شفا جرف من المقابر، حيث الزمن هنا، زمن لرقش الدماء و إعلاء من شأن قرف لا ينتهي. فالوطن كل الوطن، مجرّد مستنقع تتناسل فيه بكتيريا الأصوليات المعاصرة – والثورة ظلّت مجرّد انفلات لسنوات الغلّ والنقمة والتشفّي وولع طافح في الانتقام. أمّا الرواية فعالم هذا الحكي، تشرّد جراح الواقع الفوضوي بتشتّته، ولأنّها مصحوبة بوعي الذات الكاتبة فانّها –رغم انسرابها في العماء- ظلّت تشتهي حقول المستقبل، فمن البدء – العماء – الهيولة – الكاووس- نشأت عناصر الحياة، وهنا يكمن الحلم في تغيير العالم كتابيا. (1)
رواية وليمة لأعشاب البحر، انطلقت وهي تمسرح لخراب سرمديّ، رواية تعزف مقطوعة أحلامنا الثوريّة في زمن النقاء الثوريّ والطيش الأيديولوجي على أطلال الوجود، مسرحيّة عربيّة كفيلة بتشخيص أزماتنا المتتالية، وليمة لأعشاب البحر، ليست رواية فقط، هي مسرحيّة يشارك في تمثيلها المخنّثون واللوطيّون وبائعات الهوى والأبطال الأسطوريون ورجال الدين والبوليس، ولما لا؟ مخابرات الله…
ينطلق هذا الأثر، الذي كان خلاصة شقاء تسع سنوات سكب فيها الروائي روحه ودمه من أجل أنّ يخطّ هذه الملحمة، من التذكّر أساسًا، تذكّر حيدر حيدر، وهو الذي كان مدرّسًا في الجزائر وبالتحديد في مدينة عنّابة في إطار ثورة التعريب أو الثورة الثقافية كما يسميها الجزائريون، فيتقاطع الذاتي بالموضوعيّ ليكون هذا الأثر انعكاسًا لتجربة حيدر حيدر في الجزائر، وتجارب غيره، وينهلُ حيدر حيدر من الذاكرة، فكان التذكّر اللبنة الأولى التي يتأسّس عليها راهن هذه الآثار باعتباره رأس مالٍ رمزيّا، والتذكّر في الأجناس الأدبية والفنون مبحث نقديّ مهمّ، يجدّد نفسه باستمرارية سواء في الأدب أو السينما أو المسرح، منذ أن اجترح ذلك أرسطو في كتاب البويطيقا(2)، ومنذ أن استند إلى إلياذة هوميروس، وإلى تراجيديات الإغريق العظام، ليحدد معالم الكوميديا والتراجيديا، ومقوّمات الشعر الغنائي والملحمي، وغيرهما من فنون الأدب في تلك المرحلة المبكرة من عمر المعرفة النقديّة بصفة عامة (3).
لتصبح الرواية في ذلك، كأسطورة كنعانية على حجر لازورديّ، وهي تخطّ أحادث مأساة عربيّة، بفصول الطبيعة، ولا عجب أن يكون الفصل الأوّل في هذه المأساة هو الخريف، خريف مرير تساقطت معه أحلام الثوريين، لتمتدّ الرواية في فصول متتالية تتقاطع وتتشابك فيما بينها كمدية حادّة، مستمدّة من أحداث الرواية أسماء فصولها، حمل الفصل الأوّل اسم موسم الخريف، أمّا الفصل الثاني فكان الشتاء، والثالث كان فصل الربيع، وانشرخ الزمن بين الربيع والصيف لتتقاطع فيه فصول أخرى، كانت كالآتي؛ الأهوار، الحبّ، نشيد الموت، ظهور اللويثان، ليمتدّ مجتاحًا الفصل الأخير من الرواية وهو الصيف.
هذه التقسيمات، تحيلنا إلى أسئلة عبثيّة لا تقل عبثًا عن الرواية، كأننّا إزاء أرشفة للسنين الخوالي، سنين المدّ الثوري وتفكيك البنى الاجتماعية والتأميم، سنين الطوفان والأشواك، كأنّ فصول الرواية وعاء زمني يوازي بين الفصول وما ينتج عنها من أحداث روائية، وعلى هذا النحو، كانت الرواية رحمًا لمخاض عسير، مخاض ولادة الفلسفات الماديّة والأيديولوجيا الثوريّة، في مشرق العرب في العراق، ومغرب العرب في الجزائر، الأولى كان فيها الحزب الشيوعي العراقي، بخطّه الراديكالي متمثّلًا في جناحه الثوري القيادة المركزيّة، والثانية شهدت أمّ الملاحم في جبهة التحرير الجزائرية، بين بعد زمني متمثّل في فصول الطبيعة الأربعة، وإطار مكانيّ ملقّح بالثورة والعصيان، كان الجدل المكاني/ الزماني في الرواية يصوغ ملحمة أخرى، منطلقة من بعدها الأنطولوجي نحو آفاق رحبة، فحيدر حيدر يعبّر في كلّ ما يكتب عن عالم روائيّ خاص يختلقه من الواقع المحيط به ومن معارفه وتراثه، وهو عالم روائيّ محدّد، قائم على عُمد ثابتة أساسية رغم أنّ رموزها وطرق تجلّيها قد تتعدّد وتتخالف. وهي أفكار متسلّطة وتصوّر للحياة وللأشياء وللأشخاص وللعلاقات..
ومن العناصر الأساسية في الدلالة على هذا العالم الرّوائي : المكان. وتشكّل، والقوانين التي تضبط هذا التشكّل ضمن الرؤية الشاملة (4)
فيتوزّع المكان، بين جزائر الثورة، وعراق التمرّد، جزائر الأحمر بن بلّة وشتم العسكري بوخرّوبه (هواري بومدين) حيث كوّنها ذلك العراقي مهدي جواد ممّا كان يسمعه ليلًا، وعراق الفدائيين والثوريين الذين انتهى انتصارهم بتصفية بعضهم البعض، بين مكانين يختلفان في العادات والتقاليد ويشتركان في البؤس والشقاء، بين مكانين يختلفان في الجغرافيا ويشتركان في الرؤية المستقبليّة للمشروع الحضاريّ، مشروع الحريّة والعدالة الإجتماعية، من أجل تصوّر نبيل نحو تقويض وضع رديء، مكانين اثنين واضحين يدخلان تحت قانون التناقض الضدّي وهو يخضع للمبدإ العّام المتعلّق بالأحاسيس الصّادرة عن الشخصيّات، فيتمحور المكان حول المدينة ’’مدينة جميلة، مطوّقة بالبحر والغابات. لكنّها كأيّ مدينة عربية كانت موحشة، محكومة بالإرهاب والجوع والسمسرة والدين والحقد والجهل والقسوة والقتل. مدينة تكره الغرباء، ورغم جوارها للبحر والغابات فهي تبدو حزينة.،، (ص11) ويتمحور جزء آخر حول الغير مدينة ’’وكان صباحاً مضيئاً. في سماء صاحية ، النوارس و هي تخفق بدت كأنما تعلن عن غبطتها بذلك الطيران الابيض الواهن. و فوق الأعشاب و أوراق الدغل ، كان الندى يتلألأ تحت شمس خريفية،، (ص9)
فالتنافس الضدّي بين هذين الطّرفين مكثّف جدًا حتّى أنّ التعرّض لأحدهما تحليلًا وتوضيحًا يؤدّي إلى دلالة الطرف النقيض (5)
ولأنّ العنوان هو ((أوّل لقاء مادّي (فيزيقيّ) محسوس بين القارئ والكتاب سيكون حريًّا بنا، النظر أوّلا إلى عنوان كتاب (وليمة لأعشاب البحر –نشيد الموت)، بوصفه المدخل الأساس إلى متونه (6) فالعنوان يثير فينا ضروب شتى من الحيرة، واسقاطًا معرفيًا نحو التأويل، تأويل ما للوليمة من أبعاد بما هي ضربٌ من اللذّة الحسيّة المؤديّة الى الأكل والطعام، وما إلى الموت بما هو ضربٌ من الانتفاء الحيويّ، إنّ هذا الإدراك المتعالي للعنوان قد يكون أوّل دعوة للقارئ نحو التخلّي عن العاطفة وشذب الوعي وتفكيك نزاع دوائر العنوان، دعوة صريحة بأنّ هذه الرواية لا تقرأ، لا تُتخيّل، وإنّما تُعاش. فقد مثّل العنوان أحجية أو عقدة غورديّة (7)، بإزاحة لبسها تصبح الرواية أكثر يُسراً، فكلّ تصوّر خاطئ قد ينفلت بالقارئ إلى مناخات أخرى من الرواية. وبين هذا وذاك، يتموقع البحر باعتباره الرحم الذي سيقذف المهمّات السيزفية وأطنان الخسارات والهزائم على شواطئ بونة أو حتى جنوب الأهوار، البحر الذي سيشكّل خيطاً ناظماً للرواية، يطغى في كل سرد أو وصف، نثرا كان أو شعرا، فمنذ مصافحة الرواية، يؤثّثها حيدر حيدر في صفحتها الأولى بتصدير شعري، للأديب الأمريكي هرمان ملفيل المعروف بتصوّره الخيالي والفلسفي في أعماله.
’’وأنا الصيّاد الّذي لا يرتاح أبداً.
الصياد الّذي لا وطن له.
والتي أقصدها ماتزال تطير أمامي؛
وأنا سأتبعها،
مع أنّها قادتني إلى ما وراء الجبال،
عبر بحار بلا شموس،
داخل الليل والموت. ،،
هذا التصدير، ينمّ عن ترحال، عن هجرة وسفر، عن التعب والشقاء، والمنفى واللاوطن، نحو رحم الغياب والمجهول، حيث البحار بلا شموس، لإدراك الليل والموت.. ممّا يهيئ للقارئ أنّه أمام رواية تنفلت منها الصراعات نحو جوّ من التأزّم والتصدّع والعصيان والتخريب والعدميّة والاغتراب…
لتنطلق أحداث الرواية ممزوجة بسياقها الزمني وفق تقسيم الفصول فيه، فالسياق الزمني في أعمال حيدر حيدر، هو زمن مختلف يتطابق أحيانا وتتداخل أخرى، كما أنّها قد تتعارض في اتجاهها وأبعادها وتواسعها، فالخرافة في هذا الاثر أحداث متتابعة ودراسة البناء الزمني – على اختلاف طرق تناوله – قد يعود في نهاية الامر إلى مقارنة نظام الأحداث أو المقاطع الزمنية في الخطاب الروائي بنظام هذه الأحداث أو المقاطع الزمنية في الخرافة (8) وعلاقة النظامين أساسية للنص الروائي، وهما متحدان متطابقان في الرواية الكلاسيكية حيث يواكب السرد الخرافة ويصاحب تطوّرها؛ إلّا أن القصّة والرواية قد شهدتا منذ القرن الماضي تفكّكّا في الترابط وتشّعبا فيه فتكسّر خطّ الزّمان وتداخلت الاحداث ووجود هذين النّظامين يفترض الدّرجة الصّفر لهما معًا. وهذه الدّرجة في جانب الحكاية هي الحاضر الذي تبدأ فيه قراءة النص يعقبه استرسال وتتابع لأن طبيعة الحكاية هي نتاج لغويّ لا يمكن أن يخرج عن قانون السّياق الخطي المطرد (9) وبقراءة خاطفة للأثر، نجدها رواية سياسية بالمعنى الواسع للكلمة، حيث أنّها تتمرّد على الثابت والمألوف، آخذة منحى جديد على ما تعوّدناه في الرواية العربيّة، فهي تنطلق من تخوم أزمنة مأساويّة حزينة، غارقة في أعماق المجتمع، مستمّدة من انكساراته شرعيّة للبحث عن الجديد واللامألوف.
الخريف؛ الدّمار حين يخرج عن طوره:
بمصافحتنا للأثر، يتقدّم الفصل الأوّل مجتاحًا الرواية، ليكون العتبة الأولى التي نطؤها لتفكيك هذا الأثر، فكان فصله الأول هو الخريف، والخريف هنا ليس مصادفة، أو الانطلاقة الزمنيّة للرواية، ولكنّه خريف يحاكي أفول النزعات الثورية الما بعد كولنيالية في الدول العالمثالثية، وضياع البوصلة، خريف التصدّع الجغرافي والسجن والمنفى والموت، خريف الفاشيست وحملة بنادق الناتو، خريف تتمزق فيه مسامّ الأرض لتتفجّر بالدم الأسود، ورغم الهدوء النسبي الذي بدأت بهِ الرواية؛ وكان صباحا مضيئا.. في سماء صافية، النوارس وهي تخفق بدت كأنما تعلن عن غبطتها بذلك الطيران الأبيض، وفوق الأعشاب وأوراق الدغل كان الندى يتلألأ تحت شمس خريفية (ص9) فقد تم تقويض هذا الصباح المضيء بتوجّس مهدي جواد وتأهبه الدائم وخوفه الساري في جسده المرتعش، الهارب ليلاً من العراق نحو جزائر الثورة والاشتراكية، يحسّ الرجل أنّه مطارد، وأن شخصاً ما يتعقبه. رجل لا يعرف ملامحه بدقّة. كان ينتظر المفاجأة في المنعطف القادم. وكانت هنالك منعطفات كثيرة في هذه المدينة المتوحشة التي فقدت أمانها. (10ص) ليسقط الروائي على القارئ فعل التوجّس والاستعداد الدائم، الاستعداد لمنعرجات هامّة في رواية، لمفاجأة دامية، فهذه المدينة مثل جميع المدن العربيّة؛ كانت مدينة جميلة، مطوقة بالبحر والغابات، لكنها كأي مدينة عربية، كانت متوحشة، محكومة بالإرهاب والجوع والسمسرة، والدين والحقد والجهل، والقسوة والقتل. مدينة تكره الغرباء… تلك هـي بونه، المضيئة، مدينة الحزن والخوف والحبّ والذاكرة (ص11) ومن هنا يهيء حيدر حيدر طبيعة هذه المدينة، كأننّا أمام عرض فرجويّ يفصّل المدن العربيّة، كل مدينة مشابهة لأختها في الخراب والحقد، وحيث تكره الغرباء، فيقيم حيدر حيدر المراوحة بين الجمال الذي يطوّقه البحر والغرباء، والقسوة والقتل، ومفارقة بين الذهول والحزن، فبين بونة التي كان الذهول فيها حالما وصل؛ الوصول إلى المدينة في الأيام الأولى كان ذهولًا. بدت الاشياء كأنها تتفتح في غابة عذراء. كل شيء ظهر غريبًا، وغامضاً وساحراً. (ص15) والعراق الذي يتحدّث عنه (عندما خرج من العراق لم يكن حزينًا. فقط أحسّ بانقباض غامض وهو يغادر.). (ص15) ليشير بعدها إلى المرّة الأولى التي نفصل فيها مهدي جواد عن بيت القبيلة. فهو وداع طقوسيّ للطفل الذي يقطع حبل السرّة ويغادر الرحم في تلك الليلة، حفل تراجيديّ موغلٌ في الرهبة وغامرٌ بالجنون والحب، ورغبة منه في شبك العقدة الدرامية، تتكاثف الأحداث نفسيًا في السياق المكاني يلجأ الكاتب إلى توظـيف الفولكلور الديني ـ كمقدس ـ تؤمن به العشيرة، التي انفلت منها هذا الجنين المشاكس” أخته ـ ترفع القرآن بيد وباليد الأخرى صحنا من الطحين، على الكتاب المطهر يضع راحة كفه ثم يعبر بخشية وجلال، منحنيا بقامته ورأسه تحت قوس الطحين، تمتمات وأدعية تنطلق من أعماق السلالة التي تودع طفلها. أقسم بهذا المقدس وبهذه النعمة أن أكون وفيا، وألا أنسى في الغربة البعيدة رائحة البيت والأرض والخبز وصلوات الأجداد. والحليب والدم وصرخة الحسين وهو يذبح بسيف الشمر” (ص16).
تعويذات إيمانية فطر عليها الناس، شكلت ثوابت عقائدية في معتقداتهم الدينية، وهذه التميمة الفولكلورية “لا يفهم كنهها ومدلولها إلا من عاش في وسط تلك الأرياف الجنوبية من العراق، فهذه التميمة” هي أقوى قَسَمٍ يجترح عليه الماديون والمثاليون من أهل العراق، كي لا ينسوا تربـة هذا الوطن الذي سلب منهم بالقوة والتواطئ والمكر. وهناك ثمة دلالة جاءت في ختام هذه التميمة هي: “عدم نسيان صرخة الحسين بن علي بن أبى طالب وهو يذبح بسيف الشمر” حيث أن هذا الإسقاط الديني الثوري ذا الجذور الشيعية، أراد الإبقاء على حالة المقاومة المستمرة ضد سيف الإرهاب السلطوي، وإن وصل الأمر إلى حالة الاستشهاد كما فعل الحسين ابن علي..(11)
وفي بونه المنفى، بونه الغربة، يلتقي مهدي جواد الهارب من براثن النظام العراقي، برفيق دربه، مهيار الباهلي المثقّف المسحور ببلانكي وكومونة باريس، المشرقيّ المبهور بوهج الثورة الجزائرية، جزائر الثورة منارة مشعة فـي ليل هذا الذل العربي(ص19) ليصبح الحلم من جديد، حلما مطعّما بالأمجاد الغابرة، مشحونًا بالثورة والحبّ والنبيذ، ذلك الحلم الذي يكمنُ سحرُه في قدرته على تحويل شتات العالم إلى وحدة متناسقة، في توجيه الأشياء العبثية الجوهر نحو غاية معنوية وهميّة، لذلك يصرّ البشر على خلق الآلهة والمُثُل الكُبرى والعشق اللامتناهي والعناق والقبل والجنس في برْزخ اللاّوعي. الحلم هو الغِرَاءُ الذي وضعه مهدي جواد لمرايا العالمِ المكسورة في محاولة يائسة لترميمها، وكان مهيار الباهلي إحدى ركائز حلمه، ها قد التقينا أخيرا، لنطعم المغرب بلوثة الماركسية. أنتم في الأديولوجيا والفلسفة ونحن في اللغة (ص19)
ومن مشرقيّة مهيار الباهلي إلى جزائرية آسيا لخضر، ومن الأحلام ثوريّة، إلى الدروس التمهيديّة، ذلك البيت المسرح لكل أحداث بونه وتجليات الزمن المضاء والمعتم، ومن آسية لخضر إلى والدها سي العربي لخضر، البطل وأحد شهداء الثورة الجزائرية، ومن دروس اللغة الى لغة الدرس، ومن الدرس يصبح الفضاء أرحب نحو شبق ولذّة، لقاء بين شرق وغرب، بلوره حيدر حيدر في لقاء مهدي جواد بآسيا لخضر، هذه الثنائية التي التقت في بونه، ستنتعش فيما بعد لتصبح قصّة حبّ… ومن الحديث عن الاستعمار الأجنبي إلى الاستبداد العربي، تحت سلطة الأنظمة العربية الواعية بقمعها التاريخي، ومن أزمنة الطيش الثوري، إلى زمن ابن ابي ضبيعة الكلبي سليل هرمونات القتل والتناسل والبكتيريا القوميّة، ومن الانبهار بالثورة الجزائرية إلى إدانة الحزب الشيوعي العراقي وكوادره، حيث كان الحزب متصدّعا، لينبثق من هذا التصدّع تيّاران، واحدٌ يريد رفع السلاح وإسقاط السلطة – ومهيار الباهلي – أحد رموزه، والخطّ الثاني المهادن للنظام والمتصالح معه، وهو خطّ آب اليميني، وفي ذلك الزمن لم يكن الرهان على إدارة بوصلة الوقت، إنما كان رهانا على إنقاذ ما يمكن إنقاذه في برهة انفلات المبادرة ودخول شمس العراق تحت الخسوف الرمادي، حيث لن يعرف لا الحزب ولا الربّ متى ستشرق الشمس من جديد (ص24).
ومن آسيا لخضر، إلى فلّة بولعناب، المناضلة في جبهة التحرير الجزائرية والتي تحوّلت إلى مومس، وهي شاهدٌ على فسق القيادات كما عبّر مهيار الباهلي، لم تجن من النضال سوى الشقاء والتعب، وبيت تسكن فيه، وقليل من ذكريات الثورة وكثير من دنس عطن، قدّمت جسدها لرفاق الثورة هديّةً لمجد الثورة ولم يتزوّجها أحدٌ، رأسها يدوي بأصداء الثورة والانتقام، وحالة فلّة بولعناب، هي حالة ملايين العرب الذين يسبحون في مستنقعات الخراب، يختبئون من أوحال الدمار، هي تنزيل للقمع العربي في مكان آخر، عنف سرمدي يتم توارثه جيلا بعد جيل، جينات يقع توارثها، وأبناء يقع تناسلهم.
كانت تلك بونه، بونه الجميلة، بونه المرهوبة، بونه القاسية؛ وكانت بلادا جميلة.
إنها لتتألق أبدا بالبحار والغابات والسموات الزرقاء كما تتألق بنساء جميلات وشهيات كالكرز.
البلاد العذراء التي تختزن المعادن والحبوب والبترول والغاز والمستقبل الغامض، وهذا الذي يسبّح ليلا ونهارا باسم الله مجراه ومرساه.
لكنّها كانت تلوح بلادا جارحة كحدّ المدية. فكما تختزن الجمال وعذوبة الطبيعة والمواد الخام، كانت تختزن الزلازل والأعاصير ونذر الحرب و مقاصل الإعدام.
وفيما مضى في عصور سحيقة في القدم، يوم كانت قارة من الصحراء المموجة تحمل على ظهرها النوق والخيل والخيام الراحلة. كانوا يسمونها: مهابط الوحي وأرض الأنبياء.
غير أنها مع تقدم الأزمنة، عندما ستمزق مسامها لتتفجر بالدم الأسود، ستسمى مهبط فرق الكوماندوس ومرقاها، وحملة بنادق الناتو، والبحارة اليانكيين، ومخبرا لصنوف تجارب التعذيب
الشّتاء؛ خسوف دائم لشمسنا:
ينتهي الفصل الأول ,,الخريف، ليحلّ الكاتب رحال الفصل الثاني ,,الشتاء، حيث يقوم حيدر حيدر في بداية الفصل بتشكيل صورة ليزيد ولد الحاج، الزوج الثاني للّا فضيلة (أرملة سي العربي، ووالدة اسيا لخضر) يزيد ولد الحاج، الرجل المتزمّت، المتعصّب، الكاره لنظام بومدين لأنّه اشتراكي وكافر، نموذج عن الرجل التقليدي المحافظ، والّذي يمتلك من الثروة ما يكفي كي يمارس ساديّته على الأخرين، والحانق على مهدي جواد لتدريسه لآسيا، يزيد الذي “جمـع تجارته من السوق السوداء ابان الحرب، ولم يكن يدفع دينارا واحدا للثوار ـ كان يقول ـ هذه الاشتراكية كفر وكولون جديد، إنها تسرق أموالنا واراضينا. وقفنا ضد بن بيلا لأنه أراد أن يعمل من الجزائر شيوعية” (ص65). ومن هنا ينطلق الاختلاف، بين يزيد البرجوازي المرابي الّذي يجمع زوجتين في آن، ومهدي جواد الشيوعي الحالم بالعدالة والحريّة والمساواة، وتنطلق مفارقة بين سي لعربي زوج للّا فضيلة الراحل، المناضل والمقاوم والملتزم البسيط والثائر الذي يفتدي وطن الحرية والخبز القادم، وبين سي العربي الوصولي والمتملّق والمتسلّق، ومن هذا النسيج الضوئي، تنطلق شرارة الغدر على شاشة مهدي جواد، في تلك الذّكرى بتفاصيلها المُوغلة في الكثافة غداة أحداث 1963، لتنكبّ الذكريات المؤلمة والموجعة، ذكريات خيانة الثورة من قبل الفاشيين، حين وقع الحزب تحت السكين. خزين الذاكرة ينفجر بأسئلة يجلد بها مهدي جواد ذاته، حيث تعبق ذاكرته بأيام الاستجواب والتعذيب ورائحة الدم العطنة وسراب دابق والجنون، كيف سقطت القيادة ذات لحظة كالفئران، وعن الصدام والتمزّق والشتات، كيف أصبح اليسار يهود التاريخ الحديث؛ “في المدن والأرياف والشوارع والساحات والمقاهي والجامعات كانت الحوارات تحتدم… كانوا جميعا يترنحون كسفينة باغتها إعصار، تحت الضربة التي شلت مبادرة الحزب، فراحت تشطره يمينا ويسارا، أفقيا وعموديا… ولكن أين توارت تلك الجحافل التي كانت تفيض كالسيل لحظة كانت صرخة الحزب تعلو في الفضاء!؟ هكذا انشطر العالم. اللجنة المركزية على ضفة المراوغة وشاطئ النضال السلمي الديمقراطي والبرجوازية الوطنيّة… كان الزلزال يرجّ أرض العراق … وفي المعتقلات أمام فوهات البنادق وشفرات الحراب سقط المتخاذلون كالطيور في الأشراك، لقد أعدم سلام عادل وجمـال الحيدري عضوا القيادة الثوريّة، وفي معسكر الوشاش والرشيد خرق الرصاص أجساد الجنود والضباط، بينما كانت فرق الاغتيال القومي ـ الحرس القومي ـ تقوم بمهام صيدها في شوارع وأحياء بغداد والموصل والحلة والديوانية (ص89)
بعين ثاقبة في التاريخ، يضيء حيدر حيدر سرمديّة التاريخ المعجون بالدم القاني، من ملحمة المغول في العصر العبّاسي إلى إبادة اليساريين في الأهوار، كيف خذلتهم القيادة التي كان كلّ همّها السلطة والمجد، دون الالتفات إلى هموم شعبها، ليدين حيدر حيدر سفالة القيادة وانحطاطها وتواطؤها السياسي والأخلاقي.
الرّبيع؛ تفتّح تويجات الروح:
الرّبيع، ربيع الولادة، ربيع الانبعاث وعودة الحياة، تخضرّ الحياة وتتفتح الزّهور، ومنه يتأهب الشّتاء للرحيل، وحيث أشعة هذا الشهر الّتي تكسر حدود المدينة تتدفق كالشلالات، ضامة تحت أجنحتها وطيوفها العشاق والطيور وحشرات الارض الدابة بين الأعشاب وتلال البراري (ص93)، ولأنّ حيدر حيدر عوّدنا على أنّه لا مجال لهدوء دائم، ينكسر هذا التأمّل الشفاف في شاعرية هذا الربيع بسؤال كان صدى للهاجس الداخلي، اختلط عليه الصوت والسؤال تحت هذا الأصيل الشفاف، الجارح للقلب؛ بسؤال يطرحه مهدي لنفسه، ما الذي أتيت من أجله إلى هنا؟
إيحاءات، بأنّ الهروب والغربة هي لا شيء، محاولة للفرار من الهاجس الوحشي الّذي يسيطر عليه، غوص في أبحار من الرموز والهوامش، كلّها تطلق العنان لنفسها، تاركتاً مهدي جواد يتخبّط في أمواج من التساؤلات الجروح الموغلة في الأعماق، والذكريات السحيقة في الأزمنة القديمة، لتنطلق تلك الذكريات الّتي طالما حاول دفنها، وحين تنطلق لا تعود، ذكريات الجمر والتعذيب، وحالة من التأنيب الذاتي
ـ مهدي جواد، يسجل في يومياته: “في المنفى المرأة وحدها العزاء، مخدر ناعم، يشف كالطيف في أمسيات الحزن وافتقاد البيت، موجة بحر ينغمر فيها وتوغل بين الطحالب الملساء والقواقع وفجوات الصخرة بعيدا ـ بعيدا تحت السطوة الجسدية وهذا الدمار الجميل للروح وهي في قبضة الشيطان وقد تقمص جسد إله ارضي أو إمرأة أو بحر أو غابة: آسيا” (ص98).
ومن جهة أخرى كانت تلوح فلّة بولعناب، بذكرياتها الحادّة كنصل المدية، وهي تعرّي زيف النقاء الثوري، فلة بولعناب وهي تبحث عن شبق الجسد، بعدما طحنتها السنون وذوت نضارتها، وخانها الرجال، ‘‘لم يبق من بريقها غير حطام خافت، وهذا الشوق الهاجع في قرارة النفس، (ص99) وفلّة هذه سيرة لعديد من المناضلات، مناضلة تحوّلت إلى مومس، ايّ مفارقة يقيمها الكاتب هنا، كأن يمزج بين الفضيلة والرذيلة في شخصيّة، عن انبثاق الذات في لحظة تأمل، والخروج من المعنى نحو المجاز، وكنبتة شيطانية تخرج من تلافيف الذّاكرة، كتب حيدر حيدر عن زيف النقاء الثوري، منذ قطع حبل الصرّة إلى تلوّث عقلها بالإيديولوجيا، هذا النص هو لحظة بين شفا حفرة من نار والخطيئة وعلو الغفران الذي يسمع نشيد الحب الآتي من بعيد فيؤمن بأن في أعمق أعماق الإنسان ميلاً لا ينزع إلى المقاومة ويتجلى هذا في حواره الذاتي الذي تسائل فيه ذاتها؛ ,, في حمى هذه الصراعات المجنونة كنت أتساءل: أنت يافلة بوعناب، أيتها البقة الصغيرة ماذا تستطيعين أن تفعلي في هرجة هذا الكرنفال؟!
الثورة الوطنية انتهت، والرجال صاروا في موقع السلطة والمسؤولية، وها نحن اللواتي قاتلن في الجبال والمدن نتحول الى الحدمات المنزلية. جميله بوحيرد تزوجت من محاميها وهاجرت معه. جميلة بوعزة دخلت في النّسيان، أنا مع آلاف النساء صرن الى ما يشبه المومسات أو الزوجات الصّامتات المطيعات للرّجال. انتهى دورنا الاستثنائي فاستدرنا إلى وظيفتنا الأساسية” وتضيف وهي توجه كلامها الى “مهدي جواد ـ : “كلانا شجرة مجتثّة من جذورها ومرميّة على سطح الأرض، نحن مهزومان في موقع واحد جغرافيته متباعدة” (ص102). حوار عميق، مخيف، متوجّس من المستقبل القادم والرجل الآتي، تختلف الشخوص لكنّ المآسي وحدها، مآسي مهيار الباهلي ومهدي جواد وفلة بولعناب وآسيا لخضر.
في سؤالٌ توجّهنا بهِ نحو الكاتب؛ لمذا لم تمت فلّة بولعناب، فهي تمثّل إدانة للخيانة المضمرة ولا أخلاقية القيادات، أجاب الكاتب ببساطة؛ لماذا يموت الشاهد على اغتيال الثورة (12)
ورغم أنّ هذا الفصل كان فصل الربيع، فإنّ الرّبيع كان مريراً، فصل الأرق والتشاؤم والسوداويّة، مهيار الباهلي فيه مشحونٌ بالثورة الّتي تقلب الدنيا أسفلها على عاليها، مهدي جواد في أحضان الألم بدل أحضان آسيا لخضر، وفي قلبه تلمع أعشاب البحر برائحة عبقة للوطن وهي مقبلة من المدى الشرقي. فلّة بولعناب تقضّي وقتها في تصفية حسابها مع الأيّام، وآسيا لخضر تنساب في صراع مع ولد الحاج، ربيع أليم عصف بشخوص الرواية.