الموسيقى والسلام
يناقش المختصون في علوم الأحياء واحدة من أغرب السمات الإنسانية، إنها ثقافات الرقص والغناء أجمع.
” مادامت الموسيقى غذاء الحب، اعزف، أفض علي منها” ولكن ماذا لو أنها ليست كذلك؟ حسنا، ماذا يمكن أن يكون الغرض منها؟ إن الاستثمار في صناعة واستهلاك الموسيقى جزء كبير من الاقتصاد. جاءت الفائدة التجارية الأولى عن طريق الاستطوانات المسجلة، على يد فونوقرافات إديسون، والتي من خلالها دخلت الموسيقى إلى غرف المعيشة وطاولات المتنزهين الذين لم يكن بمقدورهم الدفع لموسيقيين يعزفون بشكل حي من أمامهم. أما اليوم فتجد أن الناس تحفهم موسيقا الآخر أينما كانوا، حتى أنها لم تعد تثير انتباهتهم كشيء زائد، بينما قبل 100 عام من الآن كانت الترانيم في البيوت، التراتيل في الكنيسة، و عازفوا الكمان في الحانات هي أقصى أشكال الموسيقى التي يسمعها أغلب الناس.
مشهيات أخرى، أيضا، ضختها التجارة الحديثة حد التخمة. طعام أبعد بكثير من حاجات المعدة الرئيسة، وجنس (أو على الأقل صور عنه) أكثر بكثير من حاجات الانسان للتناسل، تراشقت على الرجل والمرأة العصريين والذين استهلكاها بنهم في المقابل. بيد أن الفائض من أشياء كهذه اعتمدت على شهية مفهومة. ماذا قد يكون نوع الشهية التي استحثت انتشار الموسيقى لدرجة أن متوسط ما يصرفة المراهق الأمريكي يصل من ساعة ونصف إلى ساعتين ونصف في اليوم- أي ثمن ساعات استيقاظه- وهو يستمع إليها؟
حسنا، هذه الحقيقة- أنه/أنها بعمر المراهقة- تدعم فرضية واحدة عن الغرض من الموسيقى . ما يقارب 40% من أشهر كلمات الأغاني تتحدث عن الحب، عن علاقات الجنس وإيحائاته. نظرية شيكسبير عن أن الموسيقى هي على الأقل نوع من غذاء الحب، تبدو ذريعة قوية أقرب للصواب. كلما كان المغني ذو كلام حلو، وكلما رقت قيثارته، كلما زاد معجبوه اضطرادا.
فكرة أخرى منتشرة على نطاق واسع هي كون الموسيقى باستطاعتها ربط مجموعات من البشر مع بعضهم. هذا التضامن الناتج، الذي يقترحه مؤيدوه، لربما ساعد جماعات سابقة من الناس على ان تزدهر بمقابل أؤلئك الذين كانوا أقل موسيقية منهم.
كلا الفكرتين تزعمان أن القدرة الموسيقية تطورت على وجه التحديد- والتي هي إن شئت، عضو حقيقي مخلوق بدقة لأداء وظيفته تماما كالقلب والطحال. نظرية ثالثة كذلك تقترح أن الموسيقى هي تقاطع بين حادث واختراع. هي حادث لانها نتاج قدرات تطورت لأغراض أخرى. وهي اختراع لأن من أجل خلقها طوع الناس رغبتهم وصنعوا منها شيئا محببا لهم.
إنها تُحبُك
اقتباس شيكسبير الشهير اعتمد بالطبع على ملاحظة اعتيادية. الغناء المؤدى بعذوبة هو بلا شك جذاب. ولكن هل جاذبيته هي فقط الغرض من وجوده؟ هذا ما اعتقده تشارلز داروين. بعد اثنى عشر عاما من نشر كتابه ” أصل الأنواع ” والذي وصف فيه فكرة الانتخاب الطبيعي، أصدر كتاب آخر ازدهرت بسببه المطبعات ” نشأة الإنسان والإنتقاء الجنسي” اقترح فيه أن الحاجة لوجود زوج هي حاجة ملحة، كثير من معطيات سمات الحيوانات بهذا الشأن خلصت لأنها لا تتعلق فقط بمعاونتها على البقاء، ولكن أيضا لحاجتها إلى التودد. ذيل الطاووس أشهر مثال على ذلك. ولكن يقترح داروين أيضا أن سمات الإنسان بهذا الصدد قد تكون نتيجة انتخاب جنسي- وواحدة من هذه السمات التي أضافها كانت الموسيقى .
في هذه الحال، وبعكس الانتخاب الطبيعي، أفكار داروين لم تنر العالم. ولكن عاد وأحياها مؤخرا جيفري ميللير، عالم الأحياء التطوري الذي يعمل في جامعة نيو مكسيكو. يبدأ دكتور ميللير بمعاينة الموسيقى على أساس أنها فعل إنساني عالمي، وأنها مكلفة على صعيدي الوقت والطاقة، وأنها، على الأقل بطريقة ما، خاضعة لأحكام الجينات. ما يقارب 4% من البشر لديهم ما يسمى بـ ” عمه الموسيقى ” بشكل أو بآخر، وعلى الأقل بعض أنواع هذا العمه عرف على أنه وراثي. هذا التأثير العالمي، المادي، والوراثي دلالة على أن للموسيقا وظيفة ظاهرة في عملية البقاء والتناسل، ويركز دكتور ميللير على الثانية.
واحد من الأسباب التي تعزز قول كهذا أن الإنتاجية الموسيقية – على الأقل بين الفنانين الذين قاموا بتسجيل موسيقاهام واستثمروا في الفونوقرافات وحتى أؤلئك الذين خلفوهم فيما يقارب المئة سنة الماضية – تبدو أنها تتوائم مع دورة حياة الفرد. سلط دكتور ميللير ضوء دراسته على موسيقيي الجاز. ووجد أن انتاجيتهم تزيد بسرعة بعد سن البلوغ، وتصل إلى ذروتها في سن الشباب، ومن ثم تعود لتضمحل بمرور الوقت ومتطلبات الأبوة.
وكما هو غالبا مع هذا النوع من الملاحظات، مهما بدت عادية، بديهية، وسهلة، إلا أن أنشطة البشر مترابطة مع بعضها بشكل فريد يعزز بقائها – الطهو، مثلا- لا يشف عن هذا النمط. فالناس استمرت في فعل الطهي على ذات المعدل الذي اتقنوه فيه حتى باغتهم الموت أو أعجزهم الكبر. كذلك الأدلة المروية القوية التي تربط الموسيقى بالتحريض على الأداء الجنسي. غالبا ما يستشهد بمثال جيمي هيندريكس، الذي عاشر مئات من معجبيه خلال حياته القصيرة، وعلى الرغم من كونه لم يتزوج بشكل قانوني قط، إلا أنه حافظ على علاقتين جنسيتين طويلتي الأمد. كلمات روبرت بلانت، المغني الرئيسي في Led Zippelin كانت أيضا مشابهة: ” لطالما كنت في طريقي إلى الحب. دائما. مهما كان الطريق الذي أعبره، كانت السيارة تقودني لواحدة من تلك العلاقات الجنسية الرائعة التي من الممكن أن أخوضها”، سبب آخر مضافا لتصديق نظرية -غذاء الحب- أن الموسيقى تحقق معيارا رئيسيا فيما يخص انتقائية السمات الجنسية: هو إشارة واضحة على ملائمة كامنة. مثلما أن الطواويس الغير ملائمة ليس بمقدورها أن تطيل ذيولها الرائعة، كذلك البشرالذين يفتقرون لسمة ما لايستطيعون الغناء بشكل جيد، الرقص ( على اعتبار أن الغناء والرقص رفيقين، كما ترافق العربات الخيول) أو حتى العزف بمهارة. كل هذه الأنشطة تحتاج ملائمة جسدية وبراعة. كما أن التأليف الموسيقي يتطلب إبداع ورشاقة ذهنية. ضع كل هذه الأشياء مع بعضها فيك وستجد زوجا مرغوبا.
طور غناءك
سبب ثالث مدعاة للتصديق أن الموسيقى ، أو شيء ما آخر يشبهها، تطور في فصائل أخرى، ويظهر أن له واحدة من سمات الإنتقائية الجنسية في هذه الفصائل كذلك. كما في التطور الموازي للفأر- في أشكال من الجرابيات والثديات المشيمية يتحدث عن طرق مشابهة للحياة، يجيء أيضا تطور موازي للغناء عند الطيور، الحيتان، والقرود، تماما كما هو عند البشر، ما يدلل على وظيفة أساسية. وإناث هذه الحيوانات ربما تكون ذات ذوق صعب الإرضاء حتى. على سبيل المثال، معلوم أنه في عديد من فصائل الطيور تفضل الإناث تغريد الذكور الأكثر تعقيدا حال المفاضلة بينهم، معرضين هؤلاء الذكور لضغط يحفز جهازهم العصبي على التأليف والتغريد من أجلهم.
ولكن مهلا، بالرغم من أن حجج الدكتور ميللير تبدو مقنعة، لكنها تكاد لا تنسجم سوية. ليس على الرجل أن يكون مثليّا حتى يستمتع بأداء أوركيسترا جميع عازفوها من الرجال، وحتى لو أعجب خصوصا بالسوبرانو التي تغني المعزوفات المفردة. المرأة، في ذات الكفة، بامكانها هي الأخرى أن تستمتع بغناء السوبرانو وتعجب أيضا بأداء عازفيّ الأوركيسترا. يبدو أن هناك شيء آخر بجانب الجنس ينضم إلينا هنا.
النظرية الثانية في سبب ظهور الموسيقى كونها لا تلعب دورا فقط في تعزيز نزعة البشر للبحث عن زوج، ولكن أيضا في بناء مجموعات مترابطة من البشر في مسعاها القديم للتطور. بالتأكيد، هي تلعب دور كهذا في هذه الأيام. مع أنه لا يبدو رائجا أن يقف البريطاني اليوم ليؤدي نشيده الوطني، ولكن بعد دقيقتي من مشاهدة The Last Night of the Proms، المهرجان الغنائي السنوي على التلفاز ستنسف لديك كل الشكوك حول قدرة أنواع معينة من الموسيقى على غرس غرض جمعي في مجموعة من الأفراد. في هذه الحال تكلفة الوقت والطاقة يفترض أنها ستكون سريعة بطريقة ما كنتيجة لكونها جزء من مجموعة ناجحة.
المشكلة في نظرية كهذه، أنها تعول على أن الناس لن يغشوا أو يستفيدوا من دون دفع التكاليف. طريقة واحدة للخروج من هذه المعضلة هي بالاستناد على ظاهرة معروفة لدى علماء الأحياء بالانتخاب الجمعي. حيويا، هي فكرة راديكالية. تتطلب اسهام هذه المنافع بشكل عظيم ما يجعل الجماعات التي تفتقر إليه غالبا ما تفنى بالمجمل. على الرغم من أنها ممكنة نظريا، إلا أنها تطبيقيا تبدو نادرة. مع ذلك، يقترح بعض الباحثون أن اختراع أسلحة مثل الرماح والأقواس والسهام جعل من الحروب القبائل البداية فتاكة ما سمح للانتخاب الطبيعي أن يأخذ مكانه. هذا ما إعتُمد عليه، مثلا، لتوضيح الحقائق المتناقضة لأخلاقيات المعركة : لينك تجاه جماعتك وبطشك بأعداءك. في هذا السياق قد يكون للموسيقا ذات الصبغة الحربية ما يبرر أثرها.
روبن دنبار من جامعة أوكسفورد، لا يسترسل بعيدا في هذا الصدد، ولكنه بعكس الدكتور ميللير يعتقد بأن جذور الموسيقى يجب أن تكون مرغوبة لفوائدها الاجتماعية في حياة جماعة من البشر أكثر من فوائدها في تعزيز الرغبة الجنسية.
هو لا ينكر أن الموسيقى نحت منحى يخولها لأن تكون ذات سمات جنسية منتخبة ( بالتأكيد واحد من تلاميذه، كونستانتينوس كاسكاتيس، بين أن ملاحظات الدكتور ميللير بخصوص عازفي موسيقا الجاز تنطبق أيضا على مؤلفين القرن التاسع عسر الكلاسيكيين وحتى مغنين موسيقى البوب المعاصرين) ولكنه لا يعتقد أنها بدأت لتكون كذلك.
…… وزينتك
كثير من دراسة الدكتور دنبار كانت مكرسة لتوضح تطور السلوك الجمعي عند الثديات. ويعتقد بأن واحدة من الأشياء التي تربط جماعة قرود من فصيلتين مختلفتين هي المغازلة. ظاهريا، مغازلة حيوان آخر هو فعل ذو فائدة. فهي تنظفه وتزيل عنه الطفيليات. ولكن في النهاية ماهو إلا استثمار في صحة الآخر. وليست صحتك. بالاضافة إلى ذلك، يبدو أن الحيوانات تميل إلى مغازلة الطرف الثاني أكثر مما يلزم للمحافضة على نظافة فراءها. من حيث المبدأ، هذا الوقت المهدر بالامكان استغلاله في شيء آخر. إذن التودد بين الجماعات، وبعكس الانتقاء الجنسي، هو مؤشر مكلف (وصادق). في هذه الحالة، علامة كهذه ماهي إلا التزام للجماعة أكثر من كونها براعة في طرق التناسل.
يعتقد الدكتور دنبار أن اللغة نشأة لتحل محل التودد ذلك أن جماعات البشر تكاثرت بشكل أوسع بكثير من أن يسعها التودد لبعضهم البعض بالكلية. وهي نظرية جدلية، ولكنها حتما منطقية. تقترح الأدلة، علاوة على ذلك، أن الحاجة إلى هذا الـ ” التودد عن بعد” سيظهر عندما يزيد عدد المجموعة على 80 فردا، بينما اللغة لدى البشر تتنامى اضطرادا عندما يزيد عدد المجموعة حتى يصل إلى 140. ومن أفكاره المتأخرة أن هذه الفجوة يمكن طمرها بالموسيقى ، والذي نتيجة لذلك ينظر إليه كتمهيد لظهور اللغة.
تكلفة الموسيقى – والرقص المرتبط ارتاطا وثيقا به – ليست مكان للشك، فالفكرة لها ما يزكيها. علاوة على ذلك فكرة كون اللغة ظهرت تباعا لابتداع الترانيم الخالية من الكلمات هي فكرة ليست بالحديثة. حتما إذن، فالغناء والرقص يميلان لكونهما نشاطين جمعيين. وما لا يمنع بالطبع حقيقة أن الاثنين لهما مغزى جنسي. بالتأكيد، التباهي أمام الجنس الآخر في الجماعات هو استراتيجية تستخدمها كثير من الحيوانات ( فيما يعرف أماكن التزاوج). ولكن قد يكون لها بالاضافة إلى ذلك وظيفة استخدام مصادر فيسولوجية حقيقية في برهنة للتضامن الاجتماعي.
باغفال تفسيرات الابادة الجماعية وراء نظرية الانتخاب الجمعي الكلاسيكية، يعتقد الدكتور دنبار أنه توصل لتفسير قيمة خصائص الموسيقى ذات البعد الاجتماعي من دون استطالة حدود نظرية التطور. حتى لو خاضت عمليات التدقيق الحسابية التي تحتاج بقايا حروب الابادة الجماعية لتظهر. ولكن مادامت الموسيقى ضرورية، قد يكون الانتخاب الجنسي والجمعي تكاتفا سوية.
النظرية الثالثة، على الرغم من ذلك، تزعم أن الموسيقى ليست ذات وظيفة حقيقية، وأن الدكتور دنبار أيضا قد نحى من الامور منحى عكسي. الموسيقى لم تمهد لظهور اللغة، بل اللغة مهدت للموسيقا ما تحول ليكون حادثا مجيدا – ما يسميه ستفن جاي قولد، العروة، الناتجة عن تناظر المساحات المهمشة بين أقواس الكاتدرائيات والتي يملئها الفنانون باللوحات. هذا ما يعتقده ستيفن بينكر، منظر اللغات في هارفارد. وقد وصف مرة الموسيقى بأنها كعكة جبن ولكن بطريقة سمعية، واقترح أنها لو ما اختفت من الوجود شيء ما كان سيتغير.
وجهة نظر الدكتور بينكر، مثل كعكة جبن حقيقية، تغمر الموسيقى الحواس بطريقة تعجز عنها الطبيعة. تطورت شهية البشر تجاه الطعام في الوقت الذي تمازج فيه بشكل غريب السكر مع الدسم كمكونين رئيسيين في كعكة الجبن. في الماضي، لم يكن بالامكان أن يجد أحدهم ما يكفي من من نوع الغذاء الغني بالطاقة هذا ما يجعله بدينا، وتطورت رغبة شرهة تجاهه من ثم، جنبا إلى جنب مع حد صغير في طرف المعدة الممتلئة مانعا إياها من الإفراط في الطعام. وهو كذلك مع الموسيقى . عكف العقل على تحويل الأصوات إلى معاني مدفوعا بفرط ما يحيطه من النغمات والألحان والايقاع. إن الغناء هو اشباع سمعي لفائض من رغبة ملحة كهذه. وعزف الآلات الموسيقية هي محفز سمعي يستثير مكامن هذه الرغبة. وصولا إلى هذه المرحلة إذن صار في الموسيقى والجنس اشباع يزيد عن الحاجة الحيوية التي وجدا من أجلها.
بالطبع الموضوع أكثر تعقيدا من ذلك. فالناس لا ينبغي لهم أن يتعلموا تفضيل كعك الجبن أو الصور ذات الايحاءات الجنسية ( والتي ضمنّاها سابقا بمثال “كعك الجبن”). بالمقابل، عليهم تعلم الموسيقى بطريقة لا ترغمهم على تعلم اللغة.
الكلمات والموسيقى
أنريده باتل، من معهد علوم الأعصاب في سان دييقو، يقارن بين الموسيقى والكتابة، والتي هي ظاهرة أخرى اجتماعية واسعة الانتشار مرتبطة ارتباطا وثيقا باللغة. اللغة الحقيقية –المتحدث منها والمستخدمة بين غالب البشر ولغات الاشارة المستخدمة بين الصم- لا تحتاج لأن تلقن في صفوف خاصة. عالم طفل صغير هو صفها الأولي. لا شك أن الأباء يبذلون مجهودا خاص للتخاطب مع صغارهم، ولكنها غريزة قريبة من قدرات طفل (الذي هو تائه في بداية حياته) على استيعاب مادة اللغة واستعمالاتها من دون أن يكون فعلا قد أعطي دروسا خاصة بشأنها.
على العكس من ذلك، تعلم الكتابة هو صراع طويل عاصف فشل الكثير في اجادته حتى بعد تلقيه فرصة تعلمها. اضطراب القراءة وصعوبات التعلم، بكلمات أخرى، هو شيء شائع. زد عليه أن القراءة والكتابة تستلزم التعليم، وعادة عن طريق مختصين، ودلالة على مرحلة حرجة من مراحل الشبوبية. كلاهما، بالرغم من ذلك، يحولان ادراك فرد ما للعالم من حوله، ولهذا السبب الدكتور بيتل يعود إليها بالوصف ” التقنيات المتحولة”.
في صعوبات التعلم، تقبع الموسيقى في مكان ما في المسافة بين الكلام والكتابة. كثير من الناس لديهم من القدرات الموسيقية، ولكنها تتنوع أكثر من قدرتهم على الكلام. الدكتور بيتل يرى أن في ذلك دليل يدعم فكرته في كون الموسيقى ليست مكتسبة بذات الطريقة التي تكتسب بها اللغة. ولكنها، في المقابل، تقنية متحولة. كذلك هذه الملاحظة تدعم فكرة أن الانتخاب الجنسي معني أيضا، طالما أن كل القضية تتمحور حول فكرة أنه ليس بمقدور الجميع الأداء بذات البراعة، أو حتى تعلم الطريقة.
هل يعرفون أنه العيد؟
ما تجمع عليه كل هذه النظريات هو قدرة الموسيقى على تحريك المشاعر، وهذا هو الجزء الأكثر غموضا. كيف أن بعض الأصوات قد تصيبك بالحزن، وأخرى بالفرح هو جوهر هذه الثلاث النظريات. المغني الواقع بالحب لا يغني فقط كي يعبر عن حبه؛ هو أيضا يحاول أن يستميل مشاعر محبوبه. جزئيا، يفعل ذلك باستخدام كلمات الأغنية، ولكن اللحن في أصله بمقدوره أيضا أن يؤدي ذات الغرض ويشغف القلب. وصلات الموسيقى العسكرية أيضا تثير مشاعر أخرى. صلاة مونتيفيردي فيسبرز
أو كونشيرتو فيفالدي في كتدرائية سانت مارك في فينيسيا، المبنى الذي ألهم قولد كي يفكر في دور الفراغات بين أقواس الكتدرائيات، خالقا نوع من الشعور الشفيف والرقيق، منفصل عن لهاث البشر.
هذه منطقة بدائية للتمحيص. من ضمن المساهمين باتريك جوسلين، من جامعة أبسالا، ودانيال فاستفاجال، من جامعة غوثينبيرغ، وكلاهما في السويد. يزعمان أنهما توصلا لستة طرق تؤثر فيها الموسيقى على المشاعر، من إثارة انعكاسات في جذع الدماغ، إلى خلق صور بصرية في القشرة الدماغية.
هذا التنوع في التأثير يقترح أن الموسيقى هي ملكة ناشئة في الدماغ، نتجت عن تراصف بقاع مختلفة موجودة مسبقا فيه وصقلت من ثم. لذلك، وياللسخرية، كل واحد من هؤلاء قد يكون على صواب –أو، على الأقل صائب جزئيا. قد يكون دكتور بينك صائبا من ناحية أن الموسيقى نتجت جراء حادث ودكتور بيتل قد يكون أيضا على صواب في أن الموسيقى تترجم إدراك الناس للعالم من حولهم من دون أن تكون هي بالضرورة ظاهرة حيوية. ولكن الدكتور ميللير والدكتور دنبار قد يكونان أيضا على صواب في أنه حتى لو كانت الموسيقى نتيجة حادث، فإنه تم استغلالها لتحدث في عملية التطور بل وجعلها ذات جدوى.
جزء من هذا الحادث هو حقيقة أن كثير من أصوات الطبيعة تستثير المشاعر لأسباب وجيهة تماما ( الخوف في عواء الذئب، ومتعة ترقرق الماء، واهتياج عاطفة الأمومة لدى الأم حين تسمع بكاء صغيرها) السمات الجنسية المنتخبة تعتمد غالبا على مستقبلات ادراكية موجودة مسبقا. قد لا تكون مصادفة، مثلا، أن ذيل طاووس فيه بقع شبيعة بالعيون؛ فعقول الحيوانات جيدة في إدراك العيون لأنها موجودة فقط في الحيوانات الأخرى. ربما هو تكهن بسيط، ولكن الموسيقى قد تنشأ بسبب مشاعر موجودة أساسا تستجيب لأصوات مهمة في الطبيعة، ولكنها أزهرت مئة ضعف من الأغراض الأخرى.
الحقيقة، بالطبع، أنه لا أحد حتى الآن يعرف لماذا يطرب الناس للموسيقا. ولكن عندما يشدو المغنين، سواء كان الشعور الذي تستثيره هذه المعزوفة هو الفرح أو الحزن، كن متأكدا أن العلماء مازالوا يحاولون فك شفرته.