غلاف الكتاب
ما الذي تفكر فيه قطتك المدللة عندما تشاهدك وأنت تمارس الجنس؟ حتى لو كنت تقليديًا في ممارستك للجنس، كما هي العادة في الثقافة السائدة، فإن قطتك ستضل تعتقد أنك غريب الأطوار في تلك اللحظة؛ وهي محقة في هذا. فالذي يثير اشمئزازها هو انخراطك في عملية التزاوج في وقت غير وقت الخصوبة الذي تعرفه. ولا تستطيع تخيل ممارستك للتزاوج مع شريك جنسي واحد فقط، خلال فترة تبويض معينة. وستستغرب قطتك أيضًا من ذلك الأمر المتعلق بالخصوصية٬ فالجميع يعلم أنه يجب عليك ممارسة الجنس على الملأ، حيث تشاهدك القطط الأخرى، وتشارك إذا تطلب الأمر. وستتساءل القطة٬ أخيرًا٬ عند ولادة طفل من هذه العلاقة: لماذا يتسكع هذا الرجل هنا كل الوقت؟ ويساعد في جلب الحاجيات للمنزل! ذلك الواهن الضعيف! كم ستتساءل القطة مرة أخرى عن هذا الطفل المثير للشفقة: كيف لم يقدر على الاعتناء بنفسه حتى الآن٬ رغم بلوغه الخامسة من عمره؟
***
أشرت سابقًا – عندما تحدثت عن السلوك البشري المتعلق بتعاطي المخدرات أو تناول الطعام- إلى أننا نحن البشر نشابه جميع الثدييات الأخرى في هذا الجانب. حيث لا تزال استجابتنا للطعام والأدوية ذات التأثير النفسي –في أعماقنا- هي ذاتها الموجودة لدى أقربائنا البعيدين من الثدييات٬ على الرغم من امتلاكنا (قشرة حديثةNeocortex ) أكبر من تلك الموجودة في أدمغة القرود والفئران، مما يمنحنا مزيدًا من القدرة على مجابهة اللاوعي وتحكمًا أكثر في الإدراك . ولا ينطبق هذا الشيء تمامًا عند الحديث عن نظام التزاوج لدى البشر. فالبشر، كما تعلم قطتك، متطرفون قليلًا في هذه النقطة. وتقوم الأنثى، في معظم الثدييات، بالإعلان عن خصوبتها بأشكال عديدة وإشارات واضحة، منها: الإيماءات الجنسية الفريدة، أو إصدار الأصوات، أو الروائح، أو انتفاخ بعض أعضائها وهلم جرا. ولا يقترب الذكور والإناث عادةً من بعضهم البعض لممارسة الجنس خارج أوقات التزاوج المعروفة. أما الإناث من البشر، على النقيض مما سبق، فيمتلكن عملية إباضة مخفية، ولا توجد علامات واضحة تبين دورة الإباضة لديهن. بل الحقيقة هي أن النساء يتدربن بأنفسهن على تحديد وكشف دورة الإباضة في أجسادهن، فلا توجد هناك أي معرفة غريزية تدل على وقت الإباضة عند البشر. ولهذا تعد ممارسة الجنس عند البشر عملية ترويحية من أجل المتعة، وليست محددة بوقت الإباضة. بل تستمر حتى في الحالات التي يستحيل فيها تلقيح الحيوان المنوي لبويضة الأنثى، منها فترة الحمل، أو بعد بلوغ سن اليأس.
أما السبب الآخر الذي ترى القطة أننا منحرفون في سلوكنا الجنسي لأجله هو تلك العلاقة المرتبطة باختيارنا لأزواجنا. حيث تعتبر أكثر من ٩٠٪ من أنواع الثدييات منحلة للغاية، ويرتبط الذكور والإناث منها بعدة بشركاء جنسيين (في نفس اليوم أحيانًا). أما البشر فيميلون إلى الارتباط بشريك واحد فقط، أو على الأقل يرتبطون بشريك واحد خلال فترة معينة. فمعظم النساء -بعبارة أخرى- يرتبطن بشريك جنسي واحد فقط خلال دورة إباضة معينة. ولهذا يمتلك البشر معرفة دقيقة للغاية بنسب الأبوة، على العكس من الثدييات الأخرى. فقد بينت الدراسات الجينية التي تمت على البشر حول العالم أن ٩٠% من الأطفال يكونون أبناءً للزوج، أو للشريك الجنسي للأم على المدى الطويل. ولا تختلف هذه النسبة باختلاف المكان (سواء أكانت الدراسة في بكين، أو في شيكاغو، أو قرية صغيرة في بابوا نيو غينيا) ٬ فالنسبة هي ذاتها دائمًا.
تبقى الحديث عن النقطة الأخيرة والأهم ربما، ألا وهي أنه لا توجد رابطة زوجية مستمرة بين الذكر والأنثى بعد فترة التزاوج في جميع أنواع الثدييات تقريبًا، ولهذا لا يمتلك الذكر أي دور في تربية الأولاد. بل يهجر العديد من الذكور القطيع بعد موسم التزاوج في الواقع. وإذا بقي أحد منهم في القطيع، فليس واردًا أن يتمكن من التعرف على ذريته. أما استمرار الرابطة الزوجية عند البشر فهو أمر شائع، حيث يشارك الرجل في تربية أولاده ورعايتهم، حتى وإن لم يشارك في الرعاية المباشرة لهم. وقد حدثت بعض التغييرات في الأعراف الاجتماعية في الآونة الأخيرة، وعبر التطور التكنولوجي، مكنت الأمهات العازبات من أن تكون تجربتهن ممكنة الحدوث. ومع ذلك تبقى ظاهرة الأمهات العازبات نادرة الوجود حول العالم، فعندما ننظر إلى التاريخ التطوري نرى أن ظهور هذه التجارب بدأ منذ عهد قريب جدًا.
ويمتلك البشر مزيجًا فريدًا من السلوكيات الجنسية٬ كما أن هناك سلوكيات يتشاركون فيها مع بعض الكائنات الأخرى. حيث تعرف قرود البونوبو والدلافين، على سبيل المثال، بممارستها للجنس على سبيل الترويح، والذي لا يرتبط بتوقيت معين بدورة الإباضة. كما تمتلك قرود الجيبون، وفئران الحقل، والبطريق القطبي الضخم٬ نظام زواج أحادي، حيث يساعد الذكور منها في توفير الرعاية للصغار. إلا أن الانسان رغم ذلك هو الكائن الوحيد الذي يمتلك جميع سلوكيات التزاوج النادرة هذه.
لماذا انتهى بنا الحال إذًا، نحن البشر، على هذا النحو؟ تقول أقوى النظريات في هذا الجانب أن نظام تزاوج البشر تشكل على هذا النحو بسبب الحقيقة القائلة إننا نمتلك أطول مرحلة طفولة من بين جميع الكائنات، لا يستطيع فيها الصغار الاعتماد على أنفسهم[1]. وحدث هذا بسبب كبر حجم الدماغ البشري عند البالغين حين مقارنته بحجم حوض الأم. حيث يبلغ حجم الدماغ عند البالغين من البشر ١٢٠٠ سنتيمترًا مكعبًا٬ ولن يستطيع هذا الحجم العبور عبر قناة الولادة ببساطة. وكما تعرف النساء أن دماغ حديثي الولادة الذي يبلغ حجمه ٤٠٠ سنتيمتر مكعب – وهو تقريبًا كحجم دماغ قرود الشمبانزي البالغة- بالكاد يمر عبر قناة الولادة، ويظهر ذلك جليًا في ظاهرة وفاة الأمهات عند الولادة، وهي مشكلة فريدة تحدث للإناث من البشر. وتحدث تغيرات كبيرة لاحقًا في نمو دماغ الطفل حديث الولادة (بحجم دماغه الذي يبلغ ٤٠٠ سنتيمتر مكعب) على وتيرة سريعة جدًا حتى عمر الخامسة، ثم يتباطأ نمو الدماغ حتى يبلغ الإنسان العشرين من عمره، وهو العمر الذي يصبح فيه دماغ البشر تام النمو. ويمر الأطفال٬ في هذه الفترة التي ينمو فيها حجم الدماغ بعد الولادة٬ بمراحل عديدة حتى وصولهم إلى تمام النمو السلوكي والمعرفي. وهكذا في الوقت الذي تستطيع فيه قرود الأورانج أوتان (إنسان الغابة) أو إناث الحيتان الرمادية من الاهتمام بصغارهن ورعايتهم دون الحاجة إلى وجود الأب؛ تبقى الأمهات العازبات من البشر في المجتمعات التقليدية في وضع لا يحسدن عليه، بسبب عجز صغارهن عن رعاية أنفسهم لفترة طويلة. وهكذا فإن سبب هذا الأمر هو توفير الرعاية للأطفال من البشر وأدمغتهم التي تنمو ببطء، كما يشرح هذا سبب وجود نظام التزاوج الفريد عند الإنسان٬ مع جميع ملامحه الاستثنائية، من عملية الإباضة المخفية، وممارسة الجنس للترويح والمتعة، والزواج من شريك واحد (خلال دورة إباضة معينة)، ومشاركة الأب في رعاية الصغار.
لقد تحدثنا وركزنا حتى هذه الحظة على الملامح العامة للسلوك الجنسي في الثقافة الإنسانية السائدة، ذلك النوع الذي تميل لصالحه الأديان٬ من الاحتفاظ بشريك واحد، والعلاقة المغايرة للجنس (بين الذكر والأنثى)، وانجاب الصغار. إلا أن هناك أنواعًا شائعة من السلوكيات الجنسية -رغم ذلك- يتشارك البشر فيها مع أنواع أخرى من الكائنات، ولكنها أقل قبولا بطبيعة الحال. فالاستمناء، على سبيل المثال، هو عادة شائعة الممارسة بين عدد من أنواع الثدييات، منها الخيول، والقرود، والدلافين، والكلاب، والماعز، والفيلة[2]. ويمارسها كل من الإناث والذكور، بل استحدثت الحيوانات طرقًا مبتكرة في ممارستها٬ تمامًا كالبشر. حيث تنخرط ذكور العديد من الكائنات، منها الكلاب، والماعز، والقرود، والخنزير الغيني، في عملية امتصاص عضوها الذكري ذاته في أفواهها، أحيانًا حتى تصل إلى قذف السائل المنوي. كما أن هناك بعض الحالات المسجلة عن ظاهرة لعق الإناث من الرئيسيات (من الثدييات) لأعضائهن التناسلية. وقد لوحظت إحدى الإناث من قرود الشمبانزي المحبوسة في أحد الحدائق وهي تقوم بتوجيه الماء المنبعث من خرطوم المياه إلى بظرها. كما لوحظت الإناث من قرود الأورانج أوتان (إنسان الغابة) هي الأخرى وهي تستخدم قضبانًا اصطناعية صنعتها من أوراق الأشجار وأغصانها. وشوهدت٬ في أحد الحالات، أنثى من حيوان النيص (الشيهم) وهي تباعد بين أرجلها لتضع عصا ثم تمشي عليها، مسببة احتكاك تلك العصا بأعضائها التناسلية. أما النوع الأكثر ابتكارًا من أشكال الاستمناء لدى الحيوانات، هو ذلك الذي تمارسه بعض ذكور الدلافين، حيث لوحظت وهي تلف ثعبانًا حيًا ملتويًا من ثعابين البحر حول قضيبها.
ويذكر بروس باقماهل في كتابه: (الوفرة الحيوية: المثلية الجنسية والاختلاف الطبيعي بين الحيوانات Biological Exuberance: Animal Homosexuality and Natural Diversity) -وبروس هو أستاذ في جامعة ولاية ويسكونسن- قائلًا: تم اكتشاف السلوك المثلي الجنسي في أكثر من ٥٠٠ نوع من الكائنات الحية، ومن المرجح أن العدد الفعلي يبلغ أكثر من ذلك بكثير. ويشمل هذا السلوك المثلي الجنسي عند الذكور والإناث على حد سواء٬ على أنه ملاحظ بكثرة لدى الذكور. وتتمثل السلوكيات المثلية عند الحيوانات بجميع الأشكال التي يمكن لعقلك تخيلها، وتلك التي لم تسمع بها من قبل. وهناك العديد من الحالات المسجلة عن الجنس الفموي – بين الذكور مع بعضهم البعض، والإناث مع بعضهن البعض- في العديد من الكائنات الحية، منها: الضباع، وقرود البونبو٬ التي تحك الإناث منها أعضائها التناسلية بين بعضها (الرسمة ٤.١). كما سجلت حالات الجنس الشرجي بين الذكور، فقد لوحظت بين الأغنام، والزرافات، والثور الأمريكي٬ وذكور الدلافين التي تخترق فتحاتها التناسلية بين بعضها. وشوهدت ذكور دلافين نهر الأمازون – في حالة نادرة- وهي تقوم بإدخال أعضائها الذكرية في فتحات التنفس الموجودة في أعلى أجسام الدلافين الأخرى٬ وهذا مثال وحيد من نوعه على ما يعرف بالجنس الأنفي[3].
ويمكن وصف معظم -وليس كل- السلوكيات الجنسية المثلية الملاحظة بين الحيوانات على أنها: ثنائية الجنس (تميل نحو الاتصال بكلا الجنسين). ويحدث الاتصال المغاير للجنس (مع الجنس الآخر) عند العديد من الكائنات الحية خلال مرحلة خصوبة الأنثى فقط، أما السلوكيات المثلية الجنسية فهي شائعة في الأوقات الأخرى. ويبدو أن السلوك المثلي لدى بعض الحيوانات، مثل قرود البونبو (بالإضافة إلى المتعة الجنسية)٬ يجعلها تتم مهامها الاجتماعية في القطيع، عبر التخفيف من حدة التوتر وتعزيز الرابطة بين أفراد القطيع، على حساب تثبيت سلوكها العدواني. وهناك بعض الأمثلة القليلة في الوقت الحالي على السلوك المثلي الجنسي التام بين الحيوانات٬ الممتد طوال فترة حياتها٬ ويحدث هذا السلوك غالبًا بين الذكور المحبوسة مع بعضها. كما لوحظ أيضًا، في العديد من حدائق الحيوان حول العالم، أن الذكور من أنواع متعددة من البطاريق تشكل رابطة مثلية دائمة مع شريك واحد فقط. حيث يقوم الذكران في بناء الأعشاش مع بعضهما، ويستخدمان الصخور كبديل لوجود البيض. وكانت أحد الحالات المسجلة التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة عن زوج من ذكور البطاريق شريطية الدقن، في حديقة حيوان سنترال بارك في نيويورك٬ اللذان قدمت إليهما بيضة مخصبة وقاما بتفقيسها بنجاح[4]. وهناك بالمثل بعض الذكور من الأكباش المدجنة التي تتودد وتمتطي الذكور الأخرى حصرًا، رغم وجود الإناث القابلة للإخصاب في القطيع.
ولا يمكننا انهاء الحديث عن السلوك الجنسي لدى الحيوانات دون ذكر بعض الظواهر الغريبة جدًا. منها ممارسة الجنس التي تحدث بين نوعين مختلفين من الكائنات الواقعة في الحبس، مع أمثلة قليلة من هذا السلوك تمت مشاهدتها بين الحيوانات في البرية. حيث لوحظت الذكور من أيل الموظ٬ على سبيل المثال، وهي تمارس التزاوج مع إناث الخيول. كما تزاوج نوعان من الأسود والنمور في أحد حدائق الحيوان في سيبيريا، لكن هذا التزاوج أنتج نسلًا عقيمًا. كما استخدم التحليل الجيني لتحديد نسل الأنواع الهجينة من الكائنات في البرية، حيث وجدت أدلة على تزاوج حدث بين الدببة الرمادية والدببة القطبية.
***
يمتلك المتحف الطبيعي في نوتردام في هولندا واجهة زجاجية كالمرآة تغطي كامل المبنى، تصطدم فيها الطيور بين الحين والآخر. شاهد الأستاذ كيس مولكر أحد هذه الاصطدامات المميتة في نافذة مكتبه، ذات يوم من أيام يونيو عام 1995م٬ حين اصطدم أحد ذكور البط البري (بط البركة) بالزجاج ومات على الفور. وحينما أقترب مولكر من النافذة ليتفحص الأمر، وجد أن ذكرًا آخر من البط البري قد وصل إلى الذكر الميت، وشرع باغتصاب جيفته بشكل مستمر لمدة بلغت ٧٥ دقيقة. وعندما بدأ مولكر بكتابة ما شاهده لإرساله إلى أحد المجلات العلمية، وجد أن هذا السلوك الغريب (مجامعة البط البري الميت) قد تم اكتشافه من قبل، ولوحظت ممارسته على جيف الذكور والإناث منه على حد سواء[5].
كيف ينبغي لنا التفكير في هذا السلوك المحير؟ يقول التفسير الأضعف والأضيق أفقًا لهذه الظاهرة أن العديد من ذكور الحيوانات انتهازيين جنسيًا، وسوف يحاولون الاتصال جنسيًا مع أي نوع من الكائنات، حية كانت أم ميتة. من الممكن حدوث هذا، كبعض البشر الحيوانات الذين يستأثرون بممارسة الجنس مع الجثث ومع الكائنات الأخرى٬ إلا أنه لا توجد أي أدلة تدعم هذا التفسير.
أما استنتاجنا في ضوء جميع ما سبق من النتائج سيكون غير متوقع قليلًا. فليست هذه السلوكيات المحرمة والغريبة هي التي تجعل البشر متفردين جنسيًا، فهذه الأشياء بطبيعة الحال موجودة بشكل واضح لدى الثدييات الأخرى. بل سلوكنا التزاوجي الأكثر اعتياديةً، والمتعارف عليه اجتماعيًا، هو الذي يعتبر شاذًا حين مقارنته بالكائنات الأخرى.
الخميس سبتمبر 27, 2018 2:10 pm من طرف حياة