- اقتباس :
جاء في “ثيوغونيا” هيزيود، وهي قصائد للشاعر الإغريقي هيزيود، تتحدث عن خلق الكون في الأساطير الإغريقية:
“نشأت الأرض الفسيحة الخصبة، الأساس الدائم لكل موجود، ثم ظهر الحب”
[size=30]بوصلة المتعة: عن الحب – ديفيد ليندن[/size]
[size=30]ترجمة: خالد البدراني[/size]
ما الذي يحدث لأدمغتنا حينما نقع في الحب؟ وما الذي لاحظه العلماء الذين يدرسون وقوع الإنسان في الحب؟ إن هناك شيئًا حول هذا الموضوع يجعل العاطفة وسطوة الأدب تشب داخل علماء الأحياء، وعلماء الأنثروبولوجيا، حيث يقومون باقتباس جميع السطور المستعرة بالعاطفة لشكسبير، وأوفيد، ودانتي، في أوراقهم العلمية. ويسرني في هذه المناسبة أن أقدم لكم قصيدة الحب المفضلة لي على الإطلاق. ففي رأيي، تدخل هذه القصيدة في صلب الموضوع مباشرةً، وتفعل ذلك بلا مقدمات:
لا أرغب في العشيق من أجل ارتباط جسماني
أود فقط ذلك الحبيب الذي ينكح عقلي
إعلان في أل. أي. ويكلي -1979 تقريبًا
لم يكن الحب العاطفي الشديد مجرد فكرة حديثة، بل هو فكرة قديمة جدًا؛ ذكرت في معظم الكتابات الباقية للحضارات القديمة، من الصين، ومصر القديمة، والإغريق، والسومريين. لكن السؤال الحقيقي هو: هل الحب العاطفي حقًا ظاهرة عالمية عابرة للثقافات؟ أم أنه فقط محصور على عدد من الثقافات؟ للإجابة على هذا السؤال، قامت هيلين فيشر، عالمة الأنثروبولوجيا من جامعة روتجرز، بمسح للبيانات التي جمعها علماء الأنثروبولوجيا الثقافية من 166 مجتمعًا مختلفًا حول العالم. ووجدت فيشر دليلًا على وجود الحب الرومانسي في 147 مجتمعًا منها. (أما المجتمعات المتبقية منها، فلم يوجد دليل واضح على وجود الحب من عدمه، بل كان ينقص العلماء حينها التحقيق في وجود الحب في هذه الثقافات). حيث كان وصف الجوانب النفسية والجوانب الفسيولوجية من الحب الرومانسي الشديد متماثلًا جدًا حتى درجة الاستغراب، منها: شعور الاستمتاع الشديد، وفقدان الشهية، وفقدان الحكم الموضوعي على المحبوب (تضخيم الصفات الجيدة، والتغاضي عن الصفات السيئة)، ونظرة العاشقين نحو العالم “نحن متحفظون إزائه منذ الأزل، لا يجب أن يعرف أحد شيئًا عنا”، والهوس بالمحبوب، والرغبة الجنسية المشتعلة. بل عندما ننظر إلى أعين المحبوب، نرى ذاتنا بنفس هذا الشعور الجميل الذي نشعر به. فنحن عندما نقع في الحب، نرى أنفسنا بشكل أفضل. ويتغير مزاجنا بقوة في خضم كل هذه الرومانسية الشديدة؛ فالمزاج الجيد يصل إلى أقصى مستوياته، وإذا ذهب أي أمر فيه إلى الاتجاه الخاطئ (أو كان حبًا بلا مقابل) ينقلب مزاجنا السيء أكثر سوءًا(1).
كيف يمكن إذًا لشمائل الحب العاطفي الشديد هذه أن تتوائم مع وظائف الدماغ؟ قامت لوسي براون –عالمة الأعصاب في كلية إلبيرت أينشتاين للطب- وزملائها بالبحث عن إجابة لهذا السؤال، حيث تمت الدراسة على عدد من الرجال والنساء الذين يعيشون في فترة مبكرة من علاقتهم العاطفية (بمتوسط بلغ سبعة أشهر)، والذين أفادوا أنهم “واقعون في الحب بلهفة، وبعمق، وبجنون”(2). تم بعد ذلك تصوير أدمغتهم بأجهزة الرنين المغناطيسي الوظيفي وهم ينظرون إلى صور محبوبيهم. وقام الباحثون بإلهاء العينة الذين تمت عليهم الدراسة من الرجال والنساء كوسيلة للقياس، وذلك لتبرد عاطفتهم الجياشة. حيث عُرضت عليهم صور لأوجه غير مألوفة –متطابقة مع جنس وعمر المحبوب-، والسبب خلف هذا الشيء هو أن مناطق الدماغ التي تم تحفيزها (أو تثبيطها) عبر الاختبار السابق لن تظهر في اختبار القياس هذا، ويمثل هذا الاختبار العنصر العصبي للحب الرومانسي، يقابله التعرف البسيط على الأوجه المألوفة. وهذا النوع من الدراسات، بطبيعة الحال، يحتوي على مجرد الارتباط؛ فهو لا يثبت أن هذه المناطق التي تم تنشيطها (أو تثبيطها) يكمن خلفها شعور الوقوع في الحب. كما يحق لنا التساؤل إلى أي حد يمكن اعتبار هذه النتائج مرتبطة بمشاهدة المحبوب فقط؟ ما الذي سيحدث داخل الدماغ عندما يسمع المرء صوت محبوبه؟ أو يشتم رائحته؟ ويبقى نمط التغييرات داخل الدماغ عند النظر إلى أوجه المحبوبين متسقًا بشكل واضح مع الشعور الذي يتحدث به المحبون عن أنفسهم، على الرغم من جميع تساؤلاتنا السابقة.
ما هي إذًا تلك المتعة الشديدة المبهجة التي تأتي ساعة الوقوع في الحب؟ وهو المحفز القوي لدائرة المتعة في الدماغ ولإفراز الدوبامين في (المنطقة السقيفية الجوفية والمناطق المرتبطة بها، مثل النواة الذنبية). وكما ناقشنا سابقًا أن هذا النمط من التحفيز الدماغي يشابه تمامًا ذلك الأثر الذي يسببه الكوكايين أو الهيروين(3). ما الذي يسبب تعطل الملكات النقدية للمرء عندما يتعلق الأمر بمحبوبه؟ قد يكون هذا نتيجة لتعطيل (قشرة الفص المقدم الجبهي)، حيث مركز الحكم على الأشياء، وكذلك تعطيل الأقطاب الصدغية –المنطقة في مقدمة الفص الصدغي- والمُوصّل الجداري الصدغي، وهي تلك المناطق القشرية الدماغية التي تشكل جزءًا من مناطق الإدراك الاجتماعي. كما ينخرط كذلك تعطيل مناطق معينة في (قشرة الفص المقدم الجبهي) في اضطراب الوسواس القهري، وهو الذي يتشارك في بعض جوانبه مع ساعة العثور على حب جديد. وفي الحين الذي كانت به العينة المدروسة في هذا البحث صغيرة جدًا، لم يكن هناك أية فروق ذات دلالة إحصائية بين الرجال والنساء في هذا البحث، كما لم يحدد الميول الجنسي للعينة المدروسة (قد يكون من المثير في المستقبل لو تمت مقارنة الدراسة بين الرجال والنساء، والمثليين، والغيريين جنسيًأ، وثنائيي الميول الجنسي). ووسع فريق براون البحثي هذه النتائج في الآونة الأخيرة بطرق مثيرة للاهتمام. وكخطوة أولى لبحث ما إذا كان هذا الشعور عابرًا للثقافات، تمت دراسة عينة مماثلة لذات العدد من الرجال والنساء الشبان في العاصمة الصينية بكين؛ حيث كانت النتائج متطابقة تمامًا.
أما علماء النفس الاجتماعيين فقد قاموا بمقابلة العديد من الأزواج المنخرطين في علاقة عاطفية طويلة الأمد؛ الذين امتدت علاقتهم عبر السنين، حيث وجدوا أن المرحلة الأولى من الحب الشديد تستمر عادة من تسعة أشهر حتى سنتين، ليحل محلها بعد ذلك –في معظم الأزواج- شكل أقل كثافة من محبة الرفقة والألفة. وبالنظر إلى ما نعرفه من انحراف الأفكار، وتشوه الصورة الذاتية للمرء، والهوس الجنسي العارم الذي يصاحب مراحل الحب الأولى، ربما يتوجب على المرء أن يتساءل عن قوانيننا. فمعظم الولايات في الولايات المتحدة تتطلب مدة تتراوح من ستة أشهر حتى سنتين قبل السماح للزوجين بالطلاق بصفة رسمية، الأمر الغريب هو أنه بالإمكان لأي شخص أن يتزوج ويرتبط على الفور. إن التأخير الإلزامي لبداية العلاقة الرومانسية يمكن أن يكون حافزًا للمرء على الارتباط الناجح والزواج الممتد.
وأشار عدد قليل من الناس إلى أن مشاعرهم تجاه محبوبيهم بقيت شديدة وملتهبة وكثيفة لمدة بلغت عشرة أو عشرين عامًا، كانوا يشعرون بنفس الشعور الذي بدأ منذ أول لقاء. ومعظم هؤلاء الأزواج يبدون كما لو كانوا يقولون الحقيقة عن عمق مشاعرهم. ووجدت مجموعة براون البحثية نتائجًا مثيرة جدًا حين قاموا بعمل نفس الدراسة (تجربة التصوير الدماغي حال النظر إلى صورة المحبوب) على هذه العينة من الأشخاص الذين استمرت علاقة حبهم لمدة عشر سنوات أو أكثر. فلم يكن لدى معظم هؤلاء العشاق أي أثر قوي على تحفيز مركز الدوبامين في (المنطقة السقيفية الجوفية)، كما كانت معظم التغيرات والنشاطات في المناطق الأخرى من الدماغ ثابتة؛ لم تكن دائرة المتعة داخل الدماغ تحصل على تلك الهزة التي تشابه هزة تناول الكوكايين. أما في المجموعة الصغيرة التي قالت أنها لا تزال تشعر بذلك الشعور العميق للحب مستمرًا منذ اللحظة الأولى، بقيت دائرة المتعة في (المنطقة السقيفية الجوفية) نشطة ومحفزة بقوة في (تجربة النظر إلى صورة المحبوب تحت جهاز التصوير الدماغي). وكانت تلك النتيجة المثيرة للاهتمام تؤيد تلك الفكرة القائلة بأن الأقلية من العشاق يمكنهم إبقاء وهج الحب متجددًا لا ينضب، كما لو كان بقاءً دائمًا لمرحلة فتنته الأولى. ويبقى السبب غير واضح هنا، على الرغم مما سبق. فهل يوجد بالفعل أولئك البشر الذين بمقدرتهم الحفاظ على نفس قوة الحب الشديد والمتوهج في علاقتهم لأنهم مولودون على هذا النحو؟ أم أن هناك شيئًا خاصًا بالأزواج المتوائمين يجعل جذوة الدوبامين مضاءة لا تنطفئ؟ (4).
الهوامش:
1- إن وجود فكرة الحب العاطفي في مجتمع ما لا يعني بالطبع أنه المحرك الرئيس في عملية اختيار الشريك. فهناك العديد من الثقافات التي تكون فكرة الحب العاطفي فيها ممكنة، لكن نادرًا ما يسمح لها بالازدهار، لأن شيئًا كهذا يحطم الهيمنة الذكورية التي يسمح بها الدين والسلطة الاجتماعية القائمة في تلك الثقافات.
3- لا يشبه أثر الوقوع في الحب من وجهة نظر (جهاز التصوير الدماغي) الأثر الذي يظهره الهيروين، والكوكايين، والأمفيتامينز. حيث تنشط تجربة (النظر إلى وجه المحبوب) دائرة المتعة في الجانب الأيمن من الدماغ، في الحين الذي تنشط فيه المخدرات المبهجة دائرة المتعة في كلا الجانبين. وكانت أحد المناطق غير المتوقعة التي يكون الحب محفزًا رئيسيًا لها هي (النُّوى المخيخية الغائرة)، التي نتخرط غالبًا في عمليات السيطرة على الحركة، والتعلم الحركي. وتم نشر عمل براون وزملائها في: A. Aron, H. Fisher, D. J. Mashek, G. Strong, H. Li, and L. L. Brown, “Reward, motivation, and emotion systems associated with early-stage intense romantic love,” Journal of Neurophysiology 94 (2005): 327–37. وبنيت الدراسة على عمل بحثي سابق لها هو: A. Bartels and S. Zeki, “The neural basis of romantic love,” Neuroreport 11 (2000): 3829–34. قمت هنا بدمج نتائج الدراستين، المتفقتان في أغلب النتائج.
4- لم تكن هذه النتائج قد نشرت بعد في الوقت الذي كنت أكتب فيه هذا الكتاب، فقط حصلت عليها من مقابلة جرت مع الدكتور براون في موقع “جمعية علم النفس الأمريكية”.