فرناندو بيسوا
في تلك الساعة من الزمن السماوي الهادئ، لم تَدُل أعراضهُ على وجود حُمَّىَ في جسمه النحيل . وجدناه على ظهر مركبه البخاري،وهو يحاول الانطلاق نحو أمكنة لم نعرف عنها في الكتب ولا في الأساطير شيئاً من قبل.وعندما بادرناه بالسؤال عن اتجاه رحلته،ابتسمَ وقال:
سنغادر هذه النقطة إلى منطقة إطلاق النيازك والمذنبات.
أصبنا بالذهول من فكرة الرحلة،إلا إن المامُوث الذي كان مضطجعاً على متن المركب،سرعان ما تحرك غاضباً من أسباب تأخير المدّ المائي.لكن الأمور لم تستمر على ذلك المنوال. فقد تحسنت في نهاية المطاف،عندما ضغط الشاعر فرناندو بيسوا على الزر،لينطلق المحركُ ،شاقاً تلك المياه الدافئة،فيما كانت الأفواه ممتلئة بأغانٍ مُلتهبة بالغربة والاغتراب والحنين إلى الأم القديمة: الأرض.
■ كيف يمكن لمؤلف مختنق بالهواء الأعمى،أن يفكر بإنقاذ كلماته من الهلاك بغاز أو بدخان أو بانبعاث الثاليوم إلى اللغة التي هي على قيده؟
ـــ في مسائل الموت وما يخص الهلاك،لم أُجر تحقيقات بذلك الشأن.لقد كان الموت عندي الفعلُ المُضارع الاستمراري.
■ربطتهُ مع الكتابة ببراغي العدم؟!!
ـــ أجل.استغنيتُ عن كَيّ ملابس اللغة بذلك القدر من الحرارة والبخار،وأجهزتُ عليها بمخلفات حرائقي النفسية على مراحل.وكما قلت سابقاً فأنا ((أحسدُ الناس جميعا لكونهم ليسوا أنا.)).
■هل كان سببُ أمراضك المتراكمة، هو الفشل العاطفي أم الانحراف الغامض في الحواس أو العقل على سبيل المثال؟
ـــ لا أعرفُ لمَ تُسمي الماكينات العاملة بباطني بأمراض وانحرافات وشذوذ عقلي و الخ..أنا أرى الإنسانَ غير المحموم بمنتجات داخله ، ليس غير حبلٍ مربوطٍ بيد منقذ ينتظرهُ في أعلى البئر. وثقافتي السوداء ،تمنعني من أن أكون منتظراً ،أو متلهفاً لظهور فرقة إنقاذ ،تقوم بانتشالي من غرق أو تحطم أو خطر عارض لي وللغة التي انتمي إليها.
■ تعني أن النساءَ جزءٌ من تلك المخاطر التي تحطم بيسووا من أجلها ؟
ـــ لم أكن كسير قلب في يوم من الأيام.لأنني لم أملك تحت أضلعي غير بالون ملئ بالأسمنت. النساءُ لا يتحمل شخصاً بهذا القدر من الأنانية التي جعلتني مندمجاً بالكتابة إلى حدود نسيان عالم الآخرين .
■ وقولك :”إن أفضل صديقاتي فتاة حلوة، أنا اخترعتها.”هل كنت تعني الفتاة (أوفيليا كيروس) على وجه الخصوص؟
ـــ أوفيليا كيروس حاملة السلالّم بالعرض وبالطول.أوفيليا كيروس ملخص العواطف الجبارة والضائعة. أوفيليا كيروس لا تقَنطُ بسلاسة النهر أو سرعة البرق. كانت خليلةً رائعة.فبعد أن اخترعتُ لها العديد من المسرحيات لصيدها،ونجحتُ،أفسدتُ تلك العلاقة بفكرة الزواج .أرادتْ أن تصبح رحماً لإنجاب الأطفال. آنذاك فشل المشروع
■ ولكن في كتاب «رسائل حبّ فرناندو بيسُّووا» للباحثة البرتغالية «مَانوِيلا باريرَا دَاسِيلبَا»،ثمة تعلق ميلودرامي بتلك الفتاة ينتهي بنفورها منكَ،ومن بعد ذلك تحدث القطيعة يا بيسووا.
ـــ لم تتم القطيعة الكاملة.كنا نعوضها بالرسائل السخيفة التي ندمتُ على كتابة كل حرف من حروفها.ليس من اللائق أن يكتب شاعرٌ شيئاً لامرأة هاربة منه.بل عليه أن يدفع لها بالبريد الوردَ المشتعلَ ،لعل الحرائق تلعبُ بالحب.
■كأن الفتاة أوفيليا كيروس ليست سوى لحم على مائدة شاعر اسمه فرناندو بيسّووا فقط؟!!
ـــالمهم أنها قطعةُ لحم مُشبّعة بحشيشة الملاك. تركتني وحصلتْ على الميدالية ،تخليداً لجنازة العاشق المرمية على الطريق ،هدية للفئران والكلاب الضالّة والذباب الأزرق.
■ولم تجد حباً بعد أوفيليا ؟
ـــ بل وجدت:البراندي .
■وجدت أنتَ البراندي من أجل تفعيل مخيّلة الحبّ ،كما يمكن أن يُفهم من وراء ذلك القصد الذي أشرتَ إليه؟
ـــأجل يا صديقي.فعندما يواجه الحبُ تهديداً من هذا النوع أو ذاك، عليه مجابهتهِ بالمَوْكِب التاريخيّ للكحول.وهجر أوفيليا لي كان عنواناً لكتابٍ عدمي، أول ما ظفرّ بدمي ،ليجفّ وأنتهي على طاولة الوجود ،كشخصٍ بمجموعة خردوات يملؤها الصدأ .
■ وهل كان مشروب البراندي ،يؤلفُ تحت سقف رأسكَ غيوماً حمراء على سبيل المثال؟
ـــ أنا ،ومثلما جعلت من البراندي في كتاباتي شخصاً طويلاً ونحيلاً يعيش فوق طاولة النصوص ، مثلما كنت أتعايش مع طاقة الكحول ،وهي تحوّل عويل اللغة ومراثيها إلى مخلوقات لا يمكنها التعايش مع طقوس الأكواريوم .هكذا حدثت القطيعة التامة مع أوفيليا في أواخر عام 1929.
■ هل ثمة سباق ما بين الكحول والشعر؟
ـــ أجل.فكلاهما في المضمار المؤدي إلى التيه ،على حدّ التعبير الفلسفي الدارّج تحت قبة أحلام الشعراء الذين يحاولون إعادة إنتاج العالم ،والتعبير عنه من خلال النفس برموزها وطقوسها وملاعبها وتشظياتها في الشعورية ونقيضها.
الآن.. دعني أرتدي معطفي وأولي هارباً إلى غرفتي الصغيرة في أطراف المدينة التي يحتلني ظلام كآبته.هل تعرف بأنني لم أنم منذ يومين.كنت أبحث عن مومس سبق وأن تعلقت بها،وسرعان ما فقدت أثرها .أجل.فقد سبق لي وأن وجدت في تلك المرأة غطاء محترماً لمجمل أفكاري.كنت أنام في حضنها وأقرأ لها قصائد لم تثر فيها غير الشفقة على حياتي البائسة.وذلك ما كان ينقصني بالضبط.
والأغرب والأكثر مرارةً من غياب تلك المومس،كان حضور دائن قديم له بذمتي الكثير من الأموال.أجل فقد صادفني ذات ليلة في الشارع العام .
تصور أن يوقفك رجل في منتصف الشارع ويسألك غاضباً:هل تعرفني ؟!
حاولت التدقيق بوجهه مليّاً،وأدركتُ أنه كان شخصاً يعمل في مستودع لتجارة الألبسة المستعملة ((الباله)) منذ أكثر من عشرين عاماً.
أرجو أن لا تكون قد نسيت وجهي يا فرناندو بيسوا مع الدين الذي كان بذمتك أيضاً ؟
لم يكن أمامي إلا معانقة التاجر أو الصديق القديم للالتفاف على غضبه .فهو ما يزال يحتفظ بعضلات ذراعيه وصدره الضخم .إلا أنه سرعان ما دفعني إلى نحو متر إلى الخلف،قائلاً: أريد معانقة فلوسي أولاً أيها الهارب،وإلا ستكون كيساً ستحتفلُ بكَ هذه القبضة احتفالاً يليقُ بك.
قلت له ضاحكاً:لا أملك الآن مالاً.
فضحك وهو يستجرني من ياقة سترتي وجسمه يبدأ بأولى فورات الغضب قائلاً :ستدفع يعني ستدفع.وإذا كان ينقصك المال، فستشتغل أجيراً عند صديقي في مرفأ السفن. تعال لأعرفك على الشخص،ليرتب لك عملاً بتنزيل حمولات البضائع .لا تخف .لن أخذ منك إلا ثلاثة أرباع الأجر،وأترك لك الباقي من الراتب،حتى تنتهي من سداد الدين .
ذلك ما حدث لي فعلاً.أوقفني التاجر القديم (بدلو فريد) في الشارع ،ثم حاكمني على تهربي من الدفع،بل ولم يتوان عن جرّ جسمي إلى الميناء،ليقوم بتسليمي لصاحبه الذي قام بتسليمي ملابس العمل ورقماً يمثل اسمس الشخصي على الفور،وقادني إلى العنابر التي يقوم بها العمال بترتيب الحمولات من البضائع.
اية كارثة حلّت بك يا بيسوا ؟!!
هكذا سألت نفسي وأنا أحمل دموعي على ظهري قبل أن أرفع عليه أول وجبة من صناديق الأعتدة العسكرية التي كانت تأتي بها بواخر من بلاد البلغار والأمريكان وبولونيا وأوكرانيا.
اعتبرت نفسي أنني وقعت بكمين قذر،بعد أن نجح التاجر الذي أخبرني عن صداقته لي منذ قديم الزمان.
بعد مضي أسبوع على الأشغال الشاقة التي تعرضت لها في المرفأ، أطلقت ذات ليلة صرخة مدوّية: تقرصنت !!
هكذا صحتُ بالفعل.فيما تجمهر من حولي العمالُ فاغري الأفواه من الصدمة،في مكان كان ممتلئاً بالأسلحة والأعتدة ،حيث لا بد من الفرار من رائحة الموت.
هكذا وجدت نفسي تتقمص شخصية سبارتاكوس لتحرير العبيد. صرختي تلك سرعان ما استدعت الكثير من عمال المرفأ،ليأخذوا بزمام المبادرة ،فيقوموا بالاستيلاء على أكبر بواخر ،وإجبار القبطان بالتوجه بها في عرض البحر.
آنذاك ..وما أن تمت عملية اختطاف ذلك الحيوان الحديدي الضخم ،حتى خرجتُ من عنبر الباخرة إلى السطح. أخذتُ كرسياً من القش ،وبدأت بتدخين الغليون واحتساء البيرة ،ثم التوجه إلى كتابة قصيدة إلى رئيس دائرة البوليس ،نخبرهُ ببدء مراحل العصيان، ولم يكن في أذهاننا غير تلك الرغبة بتدمير بقية السفن التي كانت تحمل الأسلحة من عرض البحر إلى مستنقعات الدم البشري.
آنذاك ،وقبل أن يجري الخمر في دم بيسوا سريعاً فيثمل وتضيع الطاسة ،قلت له سنذهب في رحلة إلى الخليج العربي.نزور البحرين .
عندما سمع بيسوا كلماتي نهض مقهقهاً وهو يقول:وماذا نفعل هناك يا صديقي؟
قلت له:أريد أن أطلعك على جريمة قام بها أسلافك بحق جدي الملك الشهيد مقرن بن زامل.ألا تعرف قصته بحق ؟
أجاب بيسوا مبتسماً وهو يدلق كاس البيرة في جوفه:هل تريد أن تأخذ ثأرك يا أسعد من قتلة جدك السابع عشر؟ ثم ما علاقتي أنا بالأسطول البرتغالي الذي قتلك جدك الملك في القرن الخامس عشر من قديم الزمان ؟
أسمعني جيداً وكن منصفاً بالحكم على القصة كاملةً يا فرنالدو بيسوا :
مقرن بن زامل (ت. 2 أغسطس 1521) هو حاكم شرق جزيرة العرب, بما فيها الحسا والقطيف والبحرين وآخر حاكم الجبور للبحرين. وقد هـُزم في معركة، في 27 يوليو 1521، أمام البرتغاليين الغزاة الذين أخضعوا جزر البحرين في 1521. ولما كان قد اُسـِر في المعركة, فقد مات ربما متأثراً بجروحه بعد بضعة أيام. القائد البرتغالي, أنطونيو كورّيا, لاحقاً رسم رأس الملك مقرن النازفة على درع أسرته.
لقد فعل القائد البرتغالي, أنطونيو كورّيا بجدي قديماً،ما يفعله الدواعش بالبشر اليوم .قطع له رأسه وكان أسيراً .